21 ديسمبر، 2024 5:38 م

النقد والمعايير الاخلأقية

النقد والمعايير الاخلأقية

يقول فيلسوف العرب الكندي” من أوجب الحق أن لا نذم من كان أحد أسباب منافعنا .. فإنهم وان قصروا عن بعض حق، فقد كانوا لنا أنسابا وشركاء فيما أفادونا من ثمار فكرهم، التي صارت إلينا سبلاً وآلات مؤدية إلى علم كثير مما قصروا عن نيل حقيقته”.

النقد حاجة إنسانية تولد المتعة من خلال البحث عن الأفضل. وهونوعان: نقد علمي مبنى على الحقائق الموضوعية، غايته نقد الأخطاء والنواقص بهدف تعديلها وتصحيحها وإزالة مسبباتها من خلال الاستناد على مبادئ النقد الرئيسية، ومنها، نقد كلية الشيء ـ فكرة ، شخص ـ حركة سياسية، نشاط سياسي أو اجتماعي ـ ومنها، التركيز على نقد موضوع الشيء وليس على تفاصيله، وخاصة عندما يتعلق بتجربة الأشخاص الأدبية والسياسية. ونوع آخر تشهيري يهدف إلى التسقيط والثأر والإزالة الكلية للآخر ـ فكرة، إنسان، جماعة ـ وينبع من الحقد والتعصب، له أدواته المختلفة تبدأ من القذف بالكلمة الجارحة وتنتهي بالتصفية الجسدية. لذا فإن رفض النقد الموضوعي، باعتباره نقيصة خسارة للعقلاء. فالإنسان يربح إذا صغى إلى تقييم الآخرين لأفعاله وأقواله، ويخسر إذا سعى لترديد تقيمه الخاص.

كما هو معروف أن المعايير الاخلاقية لها قيمة أصلية ترتبط باصالة الإنسان، كقيم الحرية والعدالة والمساواة وحب الخير وغيرها من القيم والالتزام بهذه المعايير في السلوك الفردي والاجتماعي، يرتبط بالبيئة التي يعيش فيها الإنسان، لذلك يتغير هذا الالتزام تبعأ بتغير البيئة وهدف الإنسان في الحياة، فإذا كان الهدف سامياً تبقى المعايير الاخلاقية هي التي تحرك النشاط من أجل تحقيق الهدف السامي، بغض النظر عن طبيعة البيئة والظروف التي نتحرك فيها. فعلى سبيل المثال، نرى من يسعى إلى الكسب أو الشهرة، بأي وسيلة، لا يهمه الالتزام بالمعايير الاخلاقية، مهما زادت ثروته أو شهرته.

النقد البناء، من أهم مبادئه الابتعاد عن التبرير، التجرد والموضوعية، والنزاهة الحوارية، الإبتعاد عن الخلط بين شخصنة النقد لانه في هذه الحالة يهدم الهيكل من خلال الثقوب التي ظهرت، فيصبح الهيكل هو الثقوب، كمن يخلط بتعمد بين الضحية والجلاد. والنقد الموضوعي لا يقوم على القدرة على ” التعرية” بل القدرة على التصحيح، كما يقول لينين. النقد البناء يفترض تحمل المسؤولية الشخصية عن الأخطاء والابتعاد عن تصيد اخطاء الآخرين بهدف التخلص من المسؤولية الشخصية.

إن احترام حرية النقد وحرية اختيار الآخرين وتنوع الأراء وحرية التعبير عنها هو احد الشروط المهمة لآداب النقد. وهذا الاحترام يعني قبول الاختلاف بالتقييم والرأي الذي هو حاجة إنسانية لها أسبابها الموضوعية والذاتية، عللها أبو حيان التوحيدي فقال: مادام الناس على فطر كثيرة، وعادات حسنة وقبيحة، ومناشيء محمودة ومذمومة وملاحظات بعيدة وقريبة، فلا بد من الاختلاف على كل مايختارويجتذب”.

إن الإدعاء باحتكار الحقيقة من قبل الناقد لا تتعلق فقط بوحدانية صحة فكرة معينة، بل باحتكار تقييم الفكرة ونشاط الأفراد لتنفيذها وتشويه تاريخهم، وهذا ما يتعارض مع آداب النقد وقيمه، التي تزداد الحاجة إلى الالتزام بها، خاصة لدى اختلاف وجهات النظر حول نقد التاريخ والحركات السياسية والأشخاص المساهمين بصنع تاريخها. ومن هذا المنطلق فإن اعتقاد الناقد بإنه يمتلك الحق بنقد التاريخ وسير الأشخاص حسب هواه يعتبر مصدر كل قمع.

هذا من جهة ومن جهة أخرى، نلاحظ ارتباط بين المعايير الأخلاقية والتفكير، فاذا كان الهدف من نشر مقال أو نقد تجربة نبيلاً فأن المعايير الأخلاقية تكون حاضرة في ذهن الكاتب والمفكر، فلا يشذ عنها مهما كانت “الحقائق” التي يملكها وغنى تجربته الشخصية، فنراه لا يلجأ إلى تشوية الحقائق او استخدامها في غير سياقها بهدف الثأر والانتقام سواء من تجربته الشخصية أو تجارب الآخرين، لذلك نرى الكاتب الذي يلتزم بالحد الادنى من المعايير الاخلاقية لا يبني رأيه او موقفه بناء على الشكوك القائمة على التخوين والتشهير، بل يستند موقفه النقدي على التسامح والموقف الإيجابي وإيجاد الأعذار لأخطاء الأخرين الناتجة عن العمل أو التفكير الخاطئ الذي أدى إلى اتخاذ موقف سياسي او اجتماعي مغاير لما يراه الكاتب او الباحث في تاريخ تجارب الحركات السياسية وكوادرها الذين قدموا تضحيات كبيرة أو صغيرة ولكنهم اختاروا طريقاً آخر أو مختلف بناء على تغيير قناعاتهم الفكرية والسياسية، لأن شرعية الأفكار التي نطرحها لا تبني على مواقفنا وتجاربنا الشخصية بل تبنى على الحقائق الجمعية التي تضبط استخدامها المعايير الاخلاقية وليس المواقف الشخصية، لأن الحقائق لها قيم قائمة بذاتها، بينما المواقف الشخصية ترتبط بالذات والدفاع عنها بطريقة لا تخلو من الذاتية. هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإن مشروعية النقد لا تقوم على ذبح الماضي وشخصياته بدم بارد، تحت حجة حرية ممارسة النقد.

إن الالتزام بالمعايير الأخلاقية في النقد يؤدي إلى تقويم التجربة والاستفادة من الأخطاء التي وقعت فيها والمساهمة الفعالة في اعادة بناء الذات الشخصية وكذلك اعادة بناء الحركات السياسية لتكون أكثر قرباً من الالتزام بالمعايير الاخلاقية، من خلال احترام التجارب الشخصية والجمعية وقبول الإختلاف بالآراء في الماضي والحاضر وبذلك تتقلص الاختلافات الحادة في النظرللتاريخ والمصلحة المشتركة، أما الابتعاد عنها في النقد، أي المعايير الاخلاقية، فانه يؤدي إلى تشويه التجربة وعدم الاستفادة من أخطائها ونكران التضحيات التي قدمها من ساهم في صنع تاريخها ، مهما كانت صغيرة أو كبيرة.

إن الابتعاد عن المعايير الاخلاقية، تجعل الناقد يتخيل نفسه بأنه يمتلك الحقيقة الكلية التي من شانها إذا باح بها أصبحت قادرة على التحكم بمسار التغيير الذي يتصوره، وفي هذه الحالة يصبح معيار العقل لديه تصوراته الشخصية، وليس حقائق الواقع بكل تلاوينه، وهنا يبتعد عن أهداف النقد فيصبح عنده وسيلة للدفاع عن ذاته وتجربته الشخصية بتعصب، وليس تغيير الواقع من خلال نقد سلبيات الماضي، فيتحول من شاهد على التاريخ إلى مزور له، وينطبق عليه قول المتنبي:
الظلم من شيم النفوس، فإن تجد ذا عفةً، فلعله لا يظلم

إن من يمتلك الموضوعية، ينبغي ان يكون منصفا في نقد سيرة رفاق الدرب في مسيرة النضال الطويلة التي تستمر بالحياة، رغم الظروف القاحلة التي أكل حيتان الفساد فيها، ليس دولارات النفط فقط بل طعام الفقراء والمستضعفين، وأفسدوا الحرث والنسل، فلماذا يتم التواضع في نقد هولاء والغلو في جلد الذات بقسوة؟ إلا يستحق ذلك التساؤل عن الغيايات والأهداف حيث لا تكفي المشاعر النرجسية في أن يكونوا تحت الأضواء دائماً ، حتى لو كانت ألوانها فاسدة، في تفسير دوافع هذا النشاط المحموم؟

ينبغي أن لا يضفي الناقد أحلامه النرجسية، وينطلق من امراضة وعقده النفسيه في تفسيره للتاريخ ونقده بحجة الدفاع عن الحقيقة أوكشفها، فالحقيقة هنا غائبة عن ذهنه أو غطتها أحلامه النرجسية حين يدعي أمجادا ليست له ويمسح بجرة قلم ما بذله الآخرين من جهد لأنهم اختلفوا معه في الرأي والموقف يوم ما، فيعلق كل أخطائه على تاريخهم ناسياً أنه كان جزءً من هذا التاريخ الذي كان محركاً له في وقت الأخطاء التي ينتقدها، ولان يعفى من المسؤولية إذا دار ظهره لتاريخه، فأحداث التاريخ تبقى شاهدا على ما ارتكبه من أخطاء تم السكوت عنها في حينها بسبب موقعه القيادي والظروف المحيطة بالعمل الحزبي في حينها، فأخطاء هؤلاء ما زال رفاقهم يحفظونها عن ظهر قلب فلا يزيلها تغيير السفن التي يركبونها، فربانها يعرفهم جيدا ولولا تلك المعرفة لتركهم على قارعة الطريق.

وفيما يخص نقد تجارب الشخصيات التي رحلت عنا، ينبغي ان نتذكر القول المأثور: أذكروا حسنات موتاكم” وبناء على ذلك، إلا ينبغي ان نحترم تاريخ هؤلاء المناضلين، وان اختلفوا معنا في يوم ما، في موقف ما أو رأي ما، ونبتعد عن انتهاك خصوصيتهم، فكرامتهم والحفاظ على حرمتهم تبقى من مسؤولية الناقد باعتبارها احد أهم المعايير الأخلاقية التي ينبغي ان يأخذها الناقد بنظر الاعتبار. ففي الوقت الذي يفتخر به الوطنيون بالتضحيات، من أجل الحرية والتقدم الاجتماعي، التي قدمها الراحلون عنا، يقوم البعض بنحرهم بالسكين وهم أموات، سواء تحت ذريعة النقد أو الرد على النقد.

إن كل ما نلاحظه اليوم من نقد لتجربة بعض الشخصيات والنقد المضاد، أرى أنه يدخل في باب الترويج للنقد الحاقد والتشهير الشخصي الذي لا يضر إلا صاحبه، وكما يقال ان الإناء ينضح بما فيه، فإن إمتلأ بالمحبة والتسامح فانه ينفع الآخرين، أما إذا إمتلأ بالحقد فإنه يفيض على صاحبه، فهذا الشكل من النقد يسّوق أفكاراً واهية لأنه ينطلق من تجربة شخصية وقناعات ذاتية، أزاء تجارب الآخرين.

إذاً، فالمشلكة ليست في النقد بل بتلوث النقد، الذي تسببه الملاسنة الجارحه وردود الفعل العنيفة التي كثيرا ما تميل إلى التشهير، كما قال ذات مرة الصديق عبد المنعم الأعسم. فالنقد قاطرة التطور على المستوى الشخصي والجمعي، وبدونه تسبح الأسماك في البراري القاحلة، ويبهت حب الجمال وتصبح الحياة، مثل الأشجارالموحشة بلا ثمار، كما يقال.

بعض الإشارات
اشارة أولى: شاءت الصدف ان التقي بالعديد من الشخصيات الحزبية، بتوجهات وخبرات مختلفة وربما متعارضة، وأن أحاورها في أمور السياسة وتاريخ الحزب الشيوعي وسياساته. وعلى الرغم من إحساس بعض هذه الشخصيات بالمرارة من التعامل مع الرأي الأخر، فإنها غالباً ما حرصت على عدم شخصنة الأمور وعدم الإنجرار وراء أي شيء يسيء للحزب وتاريخه وبطولاته.
أشارة ثانية: يقول الشاعر الراحل محمد سعيد الصكار: قبل ان يشهر عليّ ” الأبطال” سلاحهم، سارتضي أن أعلن جبني حماية لما لدي من أشياء عزيزة هي رصيدي القديم والحديث، وهي ما انوي الحفاظ عليه بقية حياتي، ما استطعت. (ث . ج 261 1995 ص 162 ).
اشارة ثالثة: ان تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، فيه كثير مما يفتخر ويعتز به، ليس من قبل الشيوعيين وأصدقائهم فحسب بل من قبل كل الوطنيين الشرفاء الذين تربوا على حب الوطن، لذلك فتاريخه لا يستحق ان ينقد بشكل بائس، يعبر عن تخشب روح الناقد، فتقييم تاريخه بموضوعية لا يتم بمقياس الشتم والثناء، فكلاهم ضار، لأن الأول، يهدم الهيكل على رؤوس بناته بلا رحمة، والثاني، يجمله ببريق الألوان الزاهية دون ان يرمم جدرانه التي أتعبتها السنون.
أخيراً الحزب أبقى وأن ذبلت بعض أوراقه، فالاشجار الحية تزهر من جديد من خلال النقد الذي يقترب من شعاع الحقيقة، وهو فقط، وليس النقد المتشنج القائم على النزعة الثأرية والضغائن والاحقاد الشخصية، الذي يضيء أنوار الذين ضحوا من أجل ان ينعم الآخرين بالكرامة والخبز والحرية ويعيد ابتسامتهم لتنور دجى الظلام الذي يحيط بالوطن والشعب بسبب تربع النخب الفاسدة على الثروة والسلطة بعد الاحتلال الأمريكي.
**********