المقدمة
يعيش العراق اليوم أزمات متشابكة، سياسية واقتصادية واجتماعية، انعكست على حياة المواطن فأضعفته وأشعرته بالعجز أمام واقع مرتبك. غير أنّ قراءة العراق من منظور فلسفي وتاريخي تكشف أنّه ليس بلداً عابراً، بل هو مهد الحضارات، ومنارة العلم والفكر عبر العصور. العراق الذي أعطى البشرية الكتابة والقانون، وأنار لها طريق الطب والفلسفة قبل النهضة الأوروبية بقرون، قادر اليوم على استعادة دوره الحضاري إذا ما أعاد اكتشاف ذاته وبنى مشروعه على أسس العدالة والتكافل والوحدة.
—
العراق في مرآة التاريخ
منذ سومر وأكد وبابل وآشور، كان العراق مركز إشعاع حضاري. ففيه ابتكر الإنسان الكتابة المسمارية، ومنه خرجت شريعة حمورابي، أول قانون مدوَّن ينظم حياة البشر ويضع مفهوم العدالة على أسس واضحة. وفي بغداد العباسية، احتضن بيت الحكمة حركة علمية كبرى جمعت علماء ومترجمين من مختلف الثقافات، فأنتجت نهضة معرفية نقلت الفلسفة والطب والفلك والرياضيات إلى العالم.
لقد برز علماء العراق كـالخوارزمي الذي أسس علم الجبر، والرازي رائد الطب التجريبي، وابن سينا الذي ظل كتابه “القانون في الطب” مرجعاً للجامعات الأوروبية لقرون. هذه الإنجازات لم تكن مجرد علوم، بل كانت تجسيداً لفلسفة حضارية ربطت بين العلم والأخلاق والعقيدة.
—
الفلسفة الاجتماعية للأزمة الحالية
الأزمة التي يعيشها العراق اليوم ليست انقطاعاً مطلقاً عن هذا الإرث، بل طور تاريخي يمكن تجاوزه. فكما يرى هيغل، التاريخ يتقدم عبر جدلية الأزمة والتجاوز. العراق يملك عناصر القوة: ثروة طبيعية، موقع استراتيجي، شباب متعلم، وإرث حضاري متجذر. ما ينقص هو الإرادة الجمعية التي تحول هذه العناصر إلى مشروع نهضوي.
—
الثوابت العقائدية كمنطلق للإصلاح
لا يمكن فصل الهوية العراقية عن جذورها العقائدية. الإسلام، بما يحمله من قيم العدالة والتكافل، ليس مجرد منظومة طقوس، بل أساس لبناء مجتمع متماسك. قوله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ” (النحل: 90)، يرسم مبدأ العدالة باعتباره واجباً أخلاقياً وسياسياً. ومبدأ الزكاة والصدقات يعكس رؤية اقتصادية تكافلية تضمن الاستقرار الاجتماعي. أما الوحدة، فهي جوهر قوله تعالى: “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا” (آل عمران: 103).
—
دروس من تجارب الأمم
ألمانيا واليابان خرجتا من أنقاض الحرب العالمية الثانية، وكوريا الجنوبية تحولت من دولة فقيرة إلى قوة صناعية، وكلها حققت نهضتها عبر الوعي الجمعي والانضباط الاجتماعي والقيادة الرشيدة. الفلسفة التي حكمت هذه التجارب بسيطة: الخراب ليس نهاية التاريخ بل بدايته. والعراق، إذا استعاد وعيه وهويته الحضارية، يمكن أن يسلك الطريق نفسه.
—
رؤية للتغيير الاجتماعي
1. إصلاح التعليم على نهج “بيت الحكمة”، بحيث يجمع بين العلم الحديث والقيم الأخلاقية.
2. تمكين الشباب بخلق فرص عمل وتشجيع الابتكار والمشاريع الريادية.
3. إحياء الهوية الوطنية على أساس “العراق الحضاري” الجامع، لا الطائفي أو القبلي.
4. تمكين المرأة ضمن ثوابتها الأخلاقية لتكون شريكاً في التنمية.
5. محاربة الفساد بروح شريعة حمورابي: العدالة والمحاسبة.
6. إحياء الوعي الحضاري عبر تذكير الأجيال أن بغداد كانت يوماً عاصمة الفكر العالمي.
—
لمسة فلسفية: العراق بين العجز والإمكان
كما قال هايدغر: “الإنسان كائن يقف بين العجز والإمكان”. العراق اليوم محاصر بالعجز السياسي والفساد، لكنه غني بالإمكانات التي صنعته مهد الحضارة. المسألة ليست في الموارد، بل في الإرادة التي تحوّل الإمكان إلى واقع.
—
الخاتمة
إنّ العراق ليس مجرد بلد يسعى لتجاوز أزماته، بل هو مشروع حضاري ممتد منذ آلاف السنين. لقد قدّم للعالم الكتابة والقانون والطب والفلسفة، وهو قادر أن يمنح الإنسانية من جديد دروساً في كيفية تحويل الأزمات إلى فرص.
التغيير في العراق لن يكون تقنياً فحسب، بل هو فلسفة وجود جديدة، ترى في العدالة تكليفاً إلهياً، وفي التكافل واجباً إنسانياً، وفي الوحدة قدراً لا مفر منه. العراق يحتاج أن يستعيد وعيه بنفسه، وأن ينهض من تحت الركام ليؤكد للعالم أنه ما يزال، كما كان، منبع الحضارات ومفتاح النهضات الكبرى.