13 ديسمبر، 2024 3:53 م

ما من ثورة ظلمت، على مر التاريخ الحديث، كثورة الشعب العراقي في 14  تموز 1958.  لماذا اصر انا الذي عايشت زمن الثورة وما قبلها، وما بعدها على تسميتها بثورة الشعب، رغم أنف مزوري التاريخ، او الذين ظللتهم اكاذيب اعداء الثورة، من ابناء واحفاد رجالات العهد الملكي الاستبدادي الرجعي؟ الجواب يكمن في ان الغالبية الساحقة من ابناء الشعب، من فقراءه بصورة خاصة ومن مثقفيه وسائر ابنائه بصورة عامة، استجابوا لنداء الثورة من اول نداء وجهتاها لهم للخروج لمساندتها، خرجت الملايين في سائر ارجاء الوطن، يهتفون للثورة ويقطعون الطريق على اية محاولة لوأدها، بالرغم من ان من قام بتفجير الثورة هم من ابناء الشعب العراقي في القوات المسلحة، وهذه دلالة واضحة لاتقبل الشك في شعبية الثورة واهدافها النبيلة، اما من يحاول قلب الحقائق وتصوير النظام الملكي السعيدي البائد بأنه كان نظاما برلمانيا ديمقراطيا! فهو يكذب على نفسه قبل كذبه على الاجيال الجديدة من العراقيين.
سوف لا استعرض المراحل التاريخية التي مرت على العراق بعد تأسيس ما يسمى بالحكم الوطني، لان كثير من المؤرخين مروا عليها، من ثورات وانتفاضات في مختلف مراحل حكم النظام الملكي ولا اريد ان اعيد الى الاذهان، جرائم ذلك النظام بحق ابناء الشعب من قمع التظاهرات السلمية بقوة السلاح، وعمليات الاعتقال والسجن والاعدام وفصل المئات من الموظقين واساتذة الكليات من وظئفهم، لمطالبتهم باصلاح الاوضاع بطرق سلمية، لكنني اعرج فقط الى السنوات الاربع قبل سقوط ذلك النظام المنبوذ من قبل الشعب العراقي، لاكشف زيف ادعاءات المطبلين لذلك النظام، وساكتفي بسرد الوقائع التي سبقت اندلاعها  بأربعة اعوام، وهذه الوقائع مسجلة في ارشيف العراق السياسي ولا يمكن نكرانها من قبل اي شخص.
بعد اجراء الانتخابات النيابية في حزيران عام 1954 من قبل حكومة ارشد العمري، ومشاركة القوى الوطنية والديمقراطية في تلك الانتخابات بقائمة موحدة تحت اسم، الجبهة الوطنية، وبالرغم من حالات التزوير الفاضحة التي شابت تلك الانتخابات (يمكن مراجعة ارشيف جريدة صوت الاهالي الناطقة باسم الحزب الوطني الديمقراطي، الذي كان يرأسه الشخصية الوطنية والديمقراطية العراقية البارزة، المرحوم كامل الجادرجي والموجودة في دار الكتب العراقية والتي نشرت وقائع ذلك التزوير بالارقام) فقد فازت قائمة الجبهة بـ 11 مقعدا، الا ان ذلك لم يرق لرجل بريطانيا في العراق، نوري السعيد، الذي كلفه الوصي عبد الاله، بتشكيل الوزارة بعد استقالة حكومة العمريٍ، اول قرار اتخذه بعد تشكيل وزارته هو قيامه بحل البرلمان من اول جلسة له! لماذا لانه كان يطبخ لامرار حلف بغداد، ولا يتحمل وجود نواب وطنيين يفضحون المرامي الحقيقية التي تقف وراء تأسيس ذلك الحلف، الذي يمس بسيادة البلاد ويعرضه الى مخاطر جمة، ثم اعقب ذلك اغلاق الاحزاب السياسية واغلاق الصحف باكملها، والسماح لاصدار اربعة صحف فقط، وهي التي كانت بوقا للنظام، واتحدى ان يذكر من يدعون بأن النظام كان ديمقراطيا، مقالة او عمودا صحفيا واحدا او حتى اشارة ولو بسيطة فيها نقد لسياسة النظام الداخلية والخارجية، وحتى انتقاد لشرطي بسيط يخل بواجبه، في تلك الحقبة، كما خلت البلاد من اي مظهر من مظاهر الديمقراطية، فلا وجود لنقابات مهنية وعمالية ولا وجود لمنظمات المجنمع المدني، كما ان الانتخابات التي جرت بعد حل البرلمان فاز اكثر من 90% من النواب فيها بالتزكيةّ! بعد مقاطعة القوى الوطنية لها، هل يوجد نظام يدعي المدعون بأنه ديمقراطي يتشكل بظله مثل ذلك البرلمان؟ كما ان حكومة نوري السعيد اصدرت مرسوما باسقاط الجنسية العراقية عن اي مواطن عراقي يعتنق المبادئ الشيوعية! والمصيبة ان اول ضحايا ذلك القانون السيء الصيت كان الشخصيتان الديمقراطيتين، الشهيد المحامي توفيق منير نائب نقيب المحامين العراقيين والشخصية الديمقراطية الشهيد المحامي كامل قزانجي، وابعدا الى تركيا وبقيا في السجون التركية لغاية اندلاع الثورة التي اعادتهما الى وطنهما، وهما لما يكونا عضوين في الحزب الشيوعي العراقي، كان اصدار ذلك المرسوم وصمة عار في جبين حكومة نوري السعيد، حيث لم يسبق لاية دولة بحرمان مواطنيها من جنسيته بسبب افكاره والمبادئ التي يؤمن بها، اتوجه بهذا السؤوال الى ابناء واحفاد ذلك النظام ومزيفوا التاريخ والمغرر بهم بسبب حجب الحقائق التاريخية عنهم، اليس من ابسط مقومات النظام الديمقراطي هو تبني مبدأ حقوق الانسان؟ فهل حرمان المواطن من جنسيته يتوافق مع ذلك المبدا السامي؟  ولا اريد ان اذكر القمع الوحشي الذي جوبهت بها التظاهرات السلمية التي انطلقت في شتاء عام 1956 لمساندة الشعب المصري الشقيق واستنكارا للعدوان الثلاثي عليه، لان ذلك الموضوع اشبع من قبل الكتاب والمؤرخين المنصفين، ولا اذكر عدد السنوات التي اعلنت فيها الاحكام العرفية التي اصدرت الاحكام القرقوشية بحق مواطنين ابرياء، من سجن واعتقال ووصلت حتى الاعدام، وفصل مئات الموظفين واساتذة الكليات من وظائفهم، جريرتهم الوحيدة انهم يعارضون النظام بصورة سلمية، كما ان الصرائف التي كانت تحيط بالعاصمة من الشرق والغرب والجنوب والتي ازالتها حكومة الثورة وبنت مكانها بيوت تتوفر فيها مستلزمات الحياة الانسانية، دالة على الفقر المدقع الذي كان يعشيه معظم ابناء الشعب العراقي، في ظل ذلك النظام، كما ان انتشار البطالة  والامية والامراض بشكل واسع بين صفوف المواطنين كانت سمة ذلك العهد المظلم، لافتقار القرى والارياف ومعظم الاقضية والنواحي الى المدارس والمستشفيات والمراكز الصحية، اذ سجلت وزارة الصحة في اواخر ذلك العهد نسبة اكثر من 30% من الوفيات بين الاطفال من حديثي الولادة، للاسباب الانفة الذكر، ولم تكن هناك في سائر ارجاء البلاد اية مصانع، سوى خمسة مصانع اهلية في العاصمة، (الزيوت النباتية، بذور القطن، السمنت، معمل فتاح باشا للنسيج ومعمل الوصي للنسيج ايضا) ولم يتجاوز عدد العاملين في تلك المصانع عن ثلاثة الاف منتسب، من بين مجموع سكان العاصمة في ذلك الوقت، وهو مليون وربع المليون نسمة. لتلك الاسباب توصلت القوى الوطنية والديمقراطية والقومية الى نتيجة، بأن لا سبيل الى تصحيح الاوضاع بصورة سلمية الا بالثورة عليه، لذلك اسهمت في التحضير للثورة ونجاحها.
 من المنجزات الكثيرة لحكومة الثورة على سبيل المثال لا الحصر، عقد عشرات الاتفاقيات مع الدول الاشتراكية لبناء مصانع تغطي معظم ارجاء البلاد وما تزال تلك المصانع قائمة، وحررت حكومة الثورة النقد العراقي من منطقة الجنيه الاسترليني، واستكملت سيادة العراق بانسحابه من حلف بغداد، وشرعت قانون الاصلاح الزراعي، واطلقت حرية التنظيم النقابي والمهني وحرية الصحافة بالاخص في السنة الاولى من الثورة، ومنجزات الثورة خلال الاعوام القصيرة من عمرها لا تعد ولا تحصى بالرغم من المؤامرات التي حيكت ضدها من اول يوم من نجاحها. ولكي اكون موضوعيا في طرحي هذا، فلا انكر بان حكومة الثورة تلكأت في انهاء فترة الانتقال واجراء انتخابات نيابية، كما ان قانون الاحزاب شابه التزييف، وفي السنوات الاخيرة من عمر حكومة الثورة، تعرضت القوى الوطنية والديمقراطية الى الكثير من الممارسات القمعية على يد الاجهزة الامنية التي ورثتها حكومة الثورة من النظام البائد، ان الممارسات الخاطئة التي رافقت تلك المرحلة ونكوص الثورة عن تحقيق اهدافها، لا يتحملها الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم لوحده بل ان سائر القوى السياسية تتحمل جزءا كبيرا منها، فقسم من تلك القوى اتخذت سبيل التآمر على الثورة من الايام الاولى لها، واخرى كانت تنصح قائد الثورة بأتخاذ نهج سياسة التوازن بين اعداء الثورة وانصارها، لكن في الاخير مالت الامور لصالح اعدائها، وقوى اخرى لم تقيم المرحلة التاريخية بصورة صحيحة ولم تشخص العقلية العسكرية لقائد الثورة فوقعت هي الاخرى في اخطاء سياسية، تارة يسارية واخرى يمينية، فاجتمعت كل تلك الاسباب، لتسهل المهمة القذرة للثورة المضادة لاغتيالها في 8 شباط الاسود من عام 1963.
 بالرغم من كل ما تقدم، نجد ان منجزات الثورة بالاخص فيما يخص شريحة الفقراء الذين كانوا يشكلون النسبة الاكبر من السكان يميل ميزانها لصالح الثورة، التي غدرها البعض من ابنائها ويحاول البعض النيل منها، لكن شمس الحقيقة التاريخية لا يحجب بالغربال.