قد لا آتي بالجديد حين اخصص هذه السطور للحديث عن مواقع التواصل الاجتماعي وتأثيراتها وافرازاتها، ولكن دوماً نعتمد قاعدة (فذكر) لعلنا نسهم ولو بإضاءة خافتة مفيدة ونافعة.
واعلم ان التواصل الاجتماعي ترك وراءه انعزالاً مجتمعياً مخيفاً، مما يقتضي الاهتمام ببيانه ومعالجته بشكل شامل وعاجل، ولكن الجانب الذي اريد الوقوف عنده ليس هذا فربما تكون له مساحة أخرى، ولكن ما يهمني هنا هو جعل تلك المواقع ـ على اختلاف مسمياتها ـ ساحة للجدال والنقاش السطحي في أمور عميقة، واستبدال الجامعات والمعاهد والمؤسسات ومراكز التفكير الرصينة بها.
لا يمكن ـ بأي حال من الأحوال ـ نكران وجود شخصيات وحسابات فيها من النضج الشيء الكثير، ولكنها حالات استثنائية لا تمثل القاعدة الثابتة، وتلك على العكس تمثل حيزاً ايجابياً، وثمرة واجبة الاهتمام لثورة الاتصالات المتواصلة.
إن خطورة ما فعلته مواقع التواصل يتمثل بفتح ابواب القضايا الفكرية والشرعية والسياسية وغيرها على مصراعيها أمام الجميع، وتجاوز ضوابط وأصول ومناهج العلوم التي لا بد من امتلاكها ليكون الفرد مؤهلاً لطرح الرأي والنقاش والوصول إلى تحديد الموقف والنتيجة والتقييم.
غاب كل ذلك، وتحولت القواعد والقوانين والنتاجات التي بذل أصحابها من اجلها وقتهم وجهدهم وصحتهم إلى مشاع مجاني فاختلت الموازين واضطربت الأحوال واختلفت، وصار التوضيح مهمة عسيرة، والإقناع ليس يسيراً، وانهارت خطوط الدفاع المعرفية الواحدة تلو الأخرى!
ولا بد ان نذّكر هنا بالحقيقة المهمة التي نسيت اليوم، وهي ان لكل فن وعلم ومهارة أناسٌ تخصصوا فيها وامتلكوا القدرة والامكانية والقابلية على ممارستها، ومع ان النتاجات البشرية جميعها قابلة للأخذ والرد دون شك، فإن ذلك لا يمكن ان يكون بأي حال من الأحوال سبباً لتحطيم الأفكار وتوهين الالتزام بها، او القبول بإزالة السدود المحصنة لكل علم.
ان هذا الحال واجب المعالجة، وفضاء التواصل الذي غدا ساحة فوضى يقتضي ترشيداً من أهل الاختصاص، والتزام من المتلقي، وتحديد المساحات، وفسح المجال للدوائر المختصة كي تمارس عملها، وادراك ان لا يمكن لهذا العالم الافتراضي ذو الأطراف السائبة أو يحل محل عالم الكلمة والرقم والمعلومة الرصينة.