من الصعب اعتبار إعلان الرئيس الأمريكي باراك أوباما في مؤتمر قمة الإرهاب قبل أيام أن “هزيمة تنظيم داعش في سوريا تحتاج إلى قيادة جديدة”، و”أن بشار الأسد إذا ما تخلى عن الحكم فإن داعش سيذهب” صحوةً، أو إيمانا واقتناعا وفهما جديدا وحاسما ونهائيا لحقيقة المأزق السوري وجذوره وصُناعِه وطرق علاجه.
فأمريكا التي لم يغب عن فهمها شيءٌ من الشؤون السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية لجميع دولة في العالم، كبيرة وصغيرة، قريبة وبعيدة، لا يمكن أن تكون مخابراتُها ووزاراتها وسفاراتها ومؤسساتها ومعاهدُ بحوثها ودراساتها وأقمارُها وجواسيسها كانت غافلة عما كان يجري في دولة مجاورة لإسرائيل، ومؤثرة على دول جوارها، وعلى المصالح الأمريكية الاستراجية العليا في المنطقة.
ولمن لا يعلم ففي وزارة الخارجية الأمريكية مكتب يسمى (DESK) لكل دولة من دول العالم، قاطبة، يتخصص بشؤونها ويتابع أمورها، ولا يتخذ الوزير أي قرار، ولا يدلي بأي تصريح، يتعلق بتلك الدولة إلا باستشارة مكتبها الخاص في الوزارة.
2
وتاريخ الدولة السورية، منذ انتهاء الانتداب الفرنسي عام 1946، وخروج بريطانيا من فلسطين، وقيام دولة إسرائيل 1948، يخبرنا بأن الولايات المتحدة الأمريكية كانت حاضرة وفاعلة وراعية لأغلب الأحداث المفصلية في سوريا والمنطقة، دون جدال.
ويخبرنا أيضا بأنها كانت العراب الحقيقي لأول انقلاب عسكري في المنطقة العربية قام به حسني الزعيم 1949.
يقول الكاتب البريطاني جوناثان أوين في كتابه (أكرم الحوراني):
“لقد تأكد حديثاً، بعد السماح بنشر بعض الوثائق السرية، وبعد ما يقرب من أربعين عاماً من انقلاب حسني الزعيم، تورطُ الولايات المتحدة بأول انقلاب عسكري في العالم العربي.
فقد أبلغ السفير الأمريكي في سورية حكومته آنذاك بأن “الأوضاع ستأخذ أحد مجرين: إما احتمال قيام الانتهازيين قريباً بمساعدة السوفييت بانتفاضة دموية، أو أن يسيطر الجيش على السلطة بمساعدة الأمريكيين السرية، للمحافظة على النظام”.
ويقول المؤلف أيضاً: “وهكذا شرعت المفوضية الأمريكية بالقيام بتشجيع الجيش السوري على القيام بانقلاب، من أجل الحفاظ على سورية من الاختراق السوفييتي، وجلبها إلى طاولة السلام مع إسرائيل”.
و”استناداً للوثائق السرية التي سُمح بنشرها التقى حسني الزعيم مرات مع مسؤولٍ في السفارة الأمريكية، لمناقشة الانقلاب. وفي شهر آذار/ مارس من عام 1949 تقدم حسني الزعيم بطلب المساعدة من الأمريكيين للقيام بانقلابه”.
3
وفي ضوء هذا الحقائق لم يعد معقولا أن تكون أمريكا توقفت عن مرافقة التطورات السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية في سوريا، ناهيك عن صناعتها وتدبيرها، وخاصة إقدام حافظ أسد على تنفيذ ما أسماه بـ (الحركة التصحيحية) 1970، مؤسِسَّا إقطاعية آل الأسد التي قامت أساسا، ومن بدايتها، سياسيا وأمنيا وعسكريا واقتصاديا، على الدموية المطلقة، وعلى سياسة احتضان الفصائل المتطرفة (المقاومة) الهاربة من حكوماتها، أو استحداث الكتائب والعصابات الإرهابية، وحركات التكفير الإسلامية، واستخدامها في عمليات الخطف والاغتيال والحرق وقطع الأيدي والأرجل والألسن، لابتزاز السوريين والعرب والأجانب، وفرض نظامه عليهم بقوة السلاح.
فقد ألقى برفاقه في السجون المظلمة، دون محاكمة، إلى أن مات كثير منهم في غياهب السجون، ولاحقَ الهاربين منهم واغتال كثيرين منهم. ثم خاض حروبا تجويعية وتعطيشية وتدميرية ضد العراق، شعبا وحكومة، كرها بخصمه صدام حسين. ومارس كل ألوان التآمر والدس والوقيعة والإرهاب ضد الشعب اللبناني، واتخذ لبنان بوابتَه المُشرَعة لممارسة التهريب، وتدبير المؤامرات، وافتعال القلاقل ضد الدول العربية الأخرى، لا ضد إسرائيل، رغم خطابه المُزايد عن المقاومة والتحرير.
وفي عهده سالت دماء كثيرة سورية ولبنانية وفلسطينية، وارتكبت مجازر أبرزها مذبحة (حماة شباط/ فبراير 1982) التي راح ضحيتها ما يقارب 40 ألفا، والمجزرة التي نفذها رفعت الأسد عام 1982، أيضا، في سجن تدمر، بعد تعرض شقيقه الرئيس لمحاولة اغتيال. وقد راح ضحية هذه المذبحة 1850 من المدنيين، في ساعات.
كما عامل ضيوفه السياسيين الهاربين من بلادهم إليه بأخلاق رئيس عصابة. فقد قتل منهم من لم يعد قادرا على تقديم المزيد لخدمته ، وباع آخرين منهم وسلمهم لحكوماتهم، كما فعل بعبد الله أوجلان، وبعشرات اللاجئين الفلسطينيين والسعوديين والأردنيين والعراقيين والمصريين، حسب الحاجة والظروف.
ومنذ أول أيام سلطته وضع يده في يد إيران الخميني، رغم تناقض الهوية القومية العلمانية (المعلنة) للنظام السوري مع هوية نظام الخميني الدينية الطائفية المتشددة، وأصبح المتعهد
الوحيد لتهريب السلاح و(المجاهدين) والخبراء لحزب الله، مسخرا سوريا معبرا آمنا لإيران الخميني إلى لبنان وفلسطين والعراق ودول الخليج العربية، وجاعلا من تحالفه مع إيران منجم ذهبه الدائم. فقد كان، وإلى أن مات، يقبض من إيران الكثير، ويقبض من عرب الخليج أكثر.
أما الشعب السوري فقد ازداد فقرا وحرمانا، وازداد شبيحة النظام ثراءً وهيمنة وقوة.
4
وفي ضوء كل هذه الحقائق المعلنة، والأخرى غير المعلنة، لا يمكن أن يصدق أحدٌ بأن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن تعرف أن حافظ أسد ومن بعده بشار، بتحالفهما مع إيران الخميني، هما أصل كل شر، وكل إرهاب، وكل ودمار، لسوريا والمنطقة والعالم.
وليس معقولا أنها كانت غافلة عن حقيقة أن إرهاب النظام السوري والإيراني مسؤول، أكثر من غيره من الأسباب والدوافع والظروف، عن قدوم داعش إلى سوريا لمقاتلة المعارضة السورية، وليس النظام، على الأقل منذ إقدام معتمدها في العراق، نوري المالكي، على تهريب قادة المنظمات الإرهابية الإسلامية من سجن أبي غريب، وتسهيل عبورهم إلى سوريا.
6 خلاصة هذا المقال أن اكتشاف أوباما المتأخر لحقيقة أن رحيل بشار سيعجل برحيل داعش جميل ويجبر خواطر العرب والعجم، إلا أنه يظل هواء في شبك، وذلك لسبب بسيط، وهو أن باراك أوباما أغلق بنفسه على نفسه منافد الفعل النافع في سوريا منذ أن كان في إمكانه أن يمنع دخول إيران وروسيا إليها بسهولة.
أما الآن وقد فهم الشبيح (العصابجي) بوتين شلل الرئيس الأمريكي وعجزَه إلا عن الكلام، فأرسل طائراته لقتل المعارضين السوريين، باسم محاربة داعش، يعينه على الأرض الوجود العسكري الإيراني، لم يبق للرئيس أوباما كثير مما يمكن فعله، فالخرق كبير والرقعة صغيرة إلى حد البكاء.
ماذا يفعل؟. هل يفتح نيرانه على طائرات سوخوي؟، أم يعطي المعارضين السوريين طائرات شبح وصواريخ ضد الطيران؟، أم يلقي عليهم، من الأقمار الصناعية، علكة ومرطبات؟
أغلب الظن أن روسيا وإيران ستظلان تشعلان سوريا والعراق، عامين آخرين، في الأقل، وأن المزيد من الدماء سوف يسيل، وألوفا جديدة ستهيم في البوادي، أو تغرق في البحار، وسيبقى داعش (Play Station)، أو عصا المنافقين الدوليين الكبار والصغار، يهشون بها على أغنامهم، ويتوكأون عليها، ولهم فيها مآربُ أخرى.