وكالات – كتابات :
أحدث قرار “الهند” حظر صادرات “القمح” – بعد أيام قليلة من الحديث عن استهدافها تصدير شحنات بأرقام قياسية هذا العام مقارنة بما كان عليه الوضع سابقًا -، حالة من القلق لدى سوق “القمح” العالمي؛ وسط مخاوف من موجة تأزم جديدة جراء قفزة متوقعة في أسعار السلعة الإستراتيجية الأهم في هرم الغذاء العالمي.
وعزت “الهند”؛ هذا القرار، إلى موجة الحر الشديدة التي هبت على البلاد فأثرت بشكل أو بآخر على إنتاجية “القمح” هذا العام، لتتراجع معدلات الإنتاج المتوقعة عما كان مخطط لها قبل ذلك، فضلًا عن الاضطراب التي أحدثته في السوق المحلي؛ حيث ارتفاع الأسعار إلى أعلى مستوياتها.
يأتي هذا التحرك بعد أيام قليلة من مطالبات برلمانية بحظر صادرات “القمح”؛ خشية تهديد الأمن الغذائي الهندي الذي يتوقع أن يتعرض لمخاطر وتحديات خلال المرحلة القادمة في ظل الزلزال الذي ضرب الاقتصاد العالمي في أعقاب الحرب “الروسية-الأوكرانية”؛ التي اندلعت في 24 شباط/فبراير الماضي.
القرار؛ وبحسب الحكومة الهندية، لا يسري على خطابات الائتمان الصادرة بالفعل لبلدان بعينها كانت قد أبرمت عقود استيراد “القمح” من “نيودلهي”، لكنه يتعلق بالإمدادات المستقبلية والطلبات المقدمة من بعض الحكومات التي لم يتخذ بشأنها أي قرار رسمي؛ حتى السبت 14 آيار/مايو 2022.
وكانت تعول حكومات الدول التي تُعاني من أزمة في إنتاج “القمح”؛ على “الهند”، في تقليص حجم المخاطر الناجمة عن الحرب “الروسية-الأوكرانية”، لا سيما بعد التصريحات الرسمية الهندية التي كانت تستهدف شحن: 10 ملايين طن من “القمح” هذا العام، لتلبية احتياجات الأمن الغذائي للبلدان الأكثر تضررًا.

يُعاني العالم من أزمة “قمح” خانقة جراء الحرب المستعرة الآن في “أوكرانيا”، فالطرفان المتنازعان، “موسكو” و”كييف”، يتحكمان وحدهما في: 30% من إجمالي صادرات الحبوب في العالم؛ (روسيا تُصّدر سنويًا: 37 مليون طن قمح؛ وأوكرانيا: 18 مليون طن هذا بخلاف الشعير والذرة)، كما يستحوذان على: 52% من سوق تصدير “زيت عباد الشمس” في العالم.
ورغم أن “الهند” لم تكن من كبار مصدري “القمح” في العالم، كانت حلًا وبديلًا إستراتيجيًا يمكن الوثوق به لتخفيف مخاطر الأزمة وتعويض تعطل شحنات “القمح” الروسي والأوكراني ولو بنسب بسيطة، إلا أن الأمور إزدادت تعقيدًا بعد قرار حظر التصدير، الأمر الذي من المُرجح أن تكون تبعاته قاسية جدًا على العديد من الدول التي كانت تعول على “القمح الهندي” في الوقت الراهن.
القمح الهندي.. أرقام قياسية ولكن..
تحتل “الهند” المرتبة الثانية في قائمة الدول الأكثر إنتاجًا لـ”القمح”، إذ بلغت معدلات الإنتاج: 107.5 مليون طن؛ خلال عام 2021، فيما قدرت الحكومة أن الإنتاج سيصل إلى أعلى مستوى له على الإطلاق هذا العام؛ بوصوله إلى: 111.32 مليون طن.
وعلى مستوى الصادرات؛ فقد ارتفعت الصادرات من “القمح” من: 2.1 مليون طن خلال عام 2020؛ إلى: 7.85 مليون طن حتى آذار/مارس الماضي، بزيادة قدرها: 250%، حيث استفادت البلاد من القفزة الهائلة في أسعار المحصول في أعقاب التوترات الحاليّة بما يُنعش الخزانة العامة لـ”الهند” ببضعة مليارات أخرى تُساهم في علاج الأزمة الاقتصادية التي تُعاني منها البلاد منذ تفشي جائحة (كورونا).
وكان هناك مخطط لدى “الهند” لتعزيز حجم صادراتها هذا العام، إذ تم شحن ما بين مليونين وثلاثة ملايين طن من “القمح”؛ خلال الأسابيع الماضية، فيما تم توقيع عقد تصدير لثلاثة إلى ثلاثة ملايين ونصف مليون طن من “القمح” بالنسبة للفصل نيسان/إبريل، حزيران/يونيو، بحسب وزير التجارة والصناعة؛ “بيوش غويال”، الذي ذكر أن الحكومة أقتنت العام الماضي رقمًا قياسيًا بلغ: 43.34 مليون طن من “القمح” من المزارعين المحليين، وهو الرقم الذي يزيد عن كميات الاستهلاك المطلوبة بما يسمح بتصدير الفائض.
ثلاثية الحر والتضخم والحمائية الغذائية..
لم يكن الحر هو السبب الوحيد وراء قرار حظر تصدير “القمح الهندي”، إذ دفع الارتفاع الجنوني في أسعار الغذاء والطاقة إلى إحداث زيادة كبيرة في معدلات التضخم في البلاد التي وصلت إلى أعلى مستوياتها خلال السنوات الثمانية الأخيرة، ما دفع “البنك المركزي” إلى التفكير جديًا في رفع أسعار الفائدة لكبح جماح الأسعار؛ وهو ما سيكون له تبعاته السلبية على السوق وحركة التصدير والاستيراد.
أسعار “القمح” ذاتها ارتفعت داخليًا إلى مستويات قياسية، بلغت: 25 ألف روبية؛ (320 دولارًا)، للطن، مع العلم أن سعره الرسمي لم يتجاوز: 20150 روبية؛ (260 دولارًا)، هذا بخلاف ارتفاع تكاليف الوقود والعمالة والنقل والتعبئة، التي ألقت بظلالها القاتمة على الأسعار المحلية.
الخبير الاقتصادي الزراعي بجامعة إلينوي؛ “سكوت إيروين”، يُرجع قرار الحظر إلى القفزة الحادة في الأسعار التي دفعت الحكومات لحماية الإمدادات وخفض الأسعار المحلية عبر سياسة الحمائية الغذائية؛ بالحفاظ على ما لديها من مستلزمات ومحاصيل ومواد استهلاكية، مستشهدًا ببعض الدول التي لجأت إلى حظر تصدير بعض السلع؛ منها “إندونيسيا”، التي حظرت زيت النخيل، و”كازاخستان” التي حظرت القمح والدقيق، كذلك “الأرجنتين” التي حدت من صادرات اللحوم والمواد الغذائية.
وهكذا قد دفع الثالوث العصري: (التضخم والعوامل المناخية والحمائية الغذائية)؛ “نيودلهي”، إلى إعادة النظر في إستراتيجيتها التي أقرتها قبل ذلك بشأن خريطة تجارتها الخارجية؛ فيما يتعلق بمحصول “القمح” تحديدًا؛ وبقية المحاصيل الأخرى الأقل أهمية في هرم الأمن الغذائي.
بعض التجار الهنديين أعربوا؛ خلال تصريحات صحافية لهم عن صدمتهم من قرار حظر تصدير “القمح”، لافتين إلى أنهم كانوا يتوقعون هذه الخطوة بعد شهرين أو 03 أشهر تقريبًا، حينها يكونون قد حققوا مكاسب كبيرة من وراء شحنات “القمح” المصدرة للخارج بالأسعار العالمية الجديدة، لكن يبدو أن معدلات التضخم الكبيرة كانت السبب الرئيس الذي أجبر الحكومة على تغيير سياستها على حد قولهم.
الرابحون والخاسرون..
بالنظر إلى خريطة “القمح” العالمية يُلاحظ أن هناك خمس دول كبار يهيمنون على تصدير تلك السلعة الإستراتيجية، تأتي “روسيا” في المقدمة: بـ 17.6% من إجمالي صادرات العالم، تليها “الولايات المتحدة”: بـ 14%، ثم “كندا” في المرتبة الثالثة بالنسبة ذاتها، تليها “فرنسا” رابعًا بمعدل: 10%، ثم “أوكرانيا”: بـ 8%.

وبعد المستجدات الأخيرة التي دفعت “أوكرانيا” إلى تعطيل صادراتها بجانب موجة الجفاف القاسية التي ضربت “الولايات المتحدة” و”فرنسا”، فضلًا عن التضخم والحر الذي أجبر “الهند” على إعادة النظر في مخطط الهيمنة على السوق كبديل جاهز، تُصبح “روسيا” و”كندا” البلدان الأكثر استفادة من الوضع الحاليّ؛ ويتوقع أن يُهيمنا على سوق تجارة “القمح” العالمية هذا الموسم؛ بحسب إدعاءات الآلة الدعائية الأميركية التي تردد مزاعمها وسائل الإعلام بالدول التابعة.
وفي الجهة المقابلة؛ فإن دول “إفريقيا” و”آسيا” ستكون على رأس الجهات الأكثر تأثرًا بالقرار الهندي، إذ كانت تعول حكومات تلك الدول على “نيودلهي” في تعزيز الإمدادات من “القمح” هذا العام لحين تهدئة الأجواء في “أوكرانيا” واستعادتها بجانب “روسيا” نشاطها التصديري مرة أخرى.
وتأتي “مصر” على رأس الدول المتضررة من التحرك الهندي، فبلغة الأرقام تستورد الحكومة المصرية نحو: 12 مليون طن من “القمح” سنويًا بما نسبته: 10.6% من إجمالي صادرات “القمح” العالمية، لتحتل مرتبة الصدارة ضمن كبار مستوردي العالم من هذا المحصول الذي تستهلك منه كل عام قرابة: 18 مليون طن، وكانت “القاهرة” قد استقبلت الشحنة الأولى من “القمح الهندي” قبل يومين تقريبًا، لكن بعد قرار الحظر تبقى الأمور ضبابية في انتظار مستقبل الاعتماد على “القمح الهندي”؛ خلال المرحلة القادمة.
المسؤول التنفيذي في مؤسسة (ميديا ريفيو نتوورك) للأبحاث في “جوهانسبرغ”، إقبال جسات، يرى أن “إفريقيا” ستكون القارة الأكثر تضررًا من أزمة الغذاء العالمي الحاليّة، مرجعًا ذلك إلى اعتماد القارة الإفريقية على المصادر الخارجية للإمدادات الغذائية الأساسية مثل “القمح” وزيت الطهي النباتي والوقود، بحسب تصريحاته لـ (الأناضول).
وفي تقرير لها، أوضحت رئيسة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية؛ “ريباكا غرينسبان”، أن: “ارتفاع أسعار الغذاء والوقود سيؤثر على الفئات الأكثر ضعفًا في البلدان النامية، ما يزيد الضغط على أفقر الأسر التي تنفق الجزء الأكبر من دخلها على الغذاء، ما سيؤدي في نهاية الأمر إلى المشقة والجوع”، لافتة أن الغزو الروسي لـ”أوكرانيا”؛ الذي تزامن مع الجائحة سيؤديان إلى: “تسريع نقاط الضعف الحاليّة، وتوسيع نطاق عدم المساواة في جميع أنحاء العالم”.
وبحسب مؤشر أسعار الغذاء لـ”الأمم المتحدة”؛ الصادر في شباط/فبراير الماضي، بعد أقل من أسبوع واحد فقط على بداية الحرب الروسية، فإن العالم على مشارف أزمة غير مسبوقة، وهو ما تكشفه أرقام معدلات الجوع العالمية، فنصف “آسيا”: (418 مليونًا)؛ وثُلث “إفريقيا”: (282 مليونًا)؛ و8% من سكان “أميركا اللاتينية” و”البحر الكاريبي”: (60 مليونًا)؛ يُعانون من الجوع في 2020، بحسب تقرير الأمن الغذائي الصادر عن “منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة”؛ (الفاو).
الوضع ذاته حذرت منه مديرة صندوق النقد الدولي؛ “كريستالينا غورغييفا”، التي ربطت بين تداعيات الحرب “الروسية-الأوكرانية”؛ على “القمح” ومؤشر الجوع العالمي، قائلة في تصريحات لها: “الحرب في أوكرانيا تعني الجوع في إفريقيا”، وهو الرأي الذي ذهب إليه العديد من الخبراء الأممين الغربيين ممن يُحذرون من تضرر البلدان النامية من الأزمة الحاليّة والتحذير من موجة مجاعات قاسية قد تطيح بملايين البشر؛ بحسب الدعايات الأميركية والغربية.