وكالات – كتابات :
رغم جهود “مقتدى الصدر” الواضحة للظهور بمظهر من يتصدى للنفوذ الإيراني في “العراق”، فمصدر إلهامه الرئيس ربما يكون مؤسس “إيران” والمرشد الأعلى الأشهر؛ آية الله “روح الله الخميني”. فسياسة: “الصدر الإستراتيجية التي يمزج فيها بين القومية العراقية، ومعاداة الغرب، والإسلام الشيعي، مستمدة مباشرة من نهج الخميني”، بحسب وصف مجلة (فورين بوليسي) الأميركية.
فمثلما فعل “الخميني”؛ في “إيران”، اعتمد “الصدر”؛ ووالده من قبله، في بناء قاعدة مؤيديهما على شعبيتهما بين شيعة العراق: “المستضعفين”؛ (وهي الكلمة التي استخدمها الخميني وغيره لوصف الإيرانيين الذين أهملهم النظام الملكي، والذين باسمهم قامت الثورة الإيرانية).
وصاغ “الصدر” سياساته بذكاء حول المشاعر المتنامية في “العراق” والشرق الأوسط ككل، حيث ترفض الغالبية العظمى من الناس إيديولوجية الحركات الدينية المُسّيسة، وتُفضل الحكومات البراغماتية التي يمكنها توفير مزيد من فرص العمل للشباب، وإصلاح المؤسسات الدينية، وتعزيز الخدمات العامة.
و”الصدر” يعي جيدًا تاريخ الشرق الأوسط الحديث وقوة الاحتجاجات الشعبية في إطاحة الأنظمة، مثل “الثورة الإيرانية”؛ التي قامت عام 1979. لكن “الصدر”، مثل “الخميني” قبله، رغم جهوده لإغتنام الفرصة، مُقيد بصورته: تاريخ عائلته وخلفيته الدينية وشكل معين من السياسات الإسلامية الشيعية.
كيف يتأثر “مقتدى الصدر” بـ”الخميني” ؟
ينحدر “الصدر” من عائلة عريقة من رجال الدين الشيعة العراقيين. وأحد أعمامه الأوائل كان من بين قادة الثورة العراقية التي قامت عام 1920؛ على الاحتلال البريطاني. وصهره، “آية الله العظمى” محمد باقر الصدر؛ (1935 – 1980)، يُعد أحد أهم علماء الشيعة في القرن العشرين، إذ ساهمت أفكاره في تطوير نماذج من النشاط الديني تختلف عن النهج الهاديء السائد في المؤسسة الدينية في “النجف”؛ حينذاك.
كان “باقر الصدر”؛ أحد مؤسسي حزب (الدعوة الإسلامية) الشيعي في الستينيات، وكان منظِّر أفكاره. وبعد تأسيس “جمهورية الخميني الإسلامية”؛ في “إيران” المجاورة، التي يمكن القول إنها مستوحاة جزئيًا من أفكار “باقر الصدر”، اتهم نظام “صدام”؛ “باقر الصدر”، بمحاولة شن ثورة مماثلة في “العراق”. وخوفًا من ذلك، أعدم النظام “باقر الصدر”؛ عام 1980. وبعد أكثر من: 40 عامًا، يبدو أن “مقتدى الصدر” يرغب في تحويل هذه الثورة إلى حقيقة.
ومثل “الصدر”، تخضع سياسات “الخميني” للتحليل والتفسير منذ فترة طويلة. فالأفكار التي أثارها “الخميني” كانت تشكيلة شعبوية من الإسلاموية الشيعية والماركسية والخطاب الشعبي المناهض للاستعمار والغرب و”إسرائيل”؛ في ذلك الوقت، وكلها أفادته في مساعيه لحشد الشعبية؛ قبل ثورة 1979، واختطافها بعد ذلك.
تطور الخطاب السياسي لـ”مقتدى الصدر”..
تقول (فورين بوليسي) إن خطاب “الصدر” تطور بدرجة مماثلة على مر السنين. فقد رسم مشاعر معاداة “الولايات المتحدة”؛ عقب غزو عام 2003، وحافظ على الخطاب القوي المناهض للإمبريالية ولـ”إسرائيل” على مدار العقدين الماضيين، لكنه أيضًا عدّل إيديولوجيته وتركيزه على التغيير مع الزمن، وتحول من الطائفية الشيعية الصريحة في السنوات التي أعقبت الغزو الأميركي إلى القومية العراقية في السنوات الأخيرة. وصعّد خطابه المناهض لـ”إيران”؛ بالتزامن مع تنامي المشاعر المعادية لـ”إيران” داخل البلاد، وحين نزل العراقيون إلى الشوارع للتنديد بضربات صاروخية اتهمت “بغداد” بها؛ “تركيا”، في 20 تموز/يوليو، دعا “الصدر” أنصاره إلى النزول إلى الشوارع ومحاربة “تركيا”.
ولطالما شغل الصدريون وأتباعهم مناصب رئيسة في الحكومات التي أعقبت الغزو الأميركي 2003 لـ”العراق”، ولكن برفض “الصدر” المساهمة بدور مباشر في الحكومة، تمكّن من تأكيد عدم مسؤوليته عن تناقضات الحكومة وأخطائها. وسعى، عوضًا عن ذلك، لتعزيز صورة: “رجل الشعب”. والحفاظ على دور المراقب من الخارج جزء من هدفه الأكبر.
وأحداث الأيام الماضية ألقت بعملية تشكيل الحكومة العراقية في فوضى عارمة. فبعد أن اقتحم أنصار “الصدر”؛ “مجلس النواب” و”المنطقة الخضراء” بعد دعوته للثورة، تصاعدت التوترات. وهدد معارضو “الصدر” بشن: “ثورة مضادة”، ويشعر كثير من العراقيين أنهم على شفا حرب أهلية.
والآن، يدعو “الصدر” إلى انتخابات جديدة فيما يواصل أنصاره التجمع داخل البرلمان وحوله، وهذا يُطيل فترة انعدام الاستقرار السياسي في البلاد. لكن هذا هو تحديدًا هدف “الصدر” الأكبر: إثارة البلاد واختطاف المشاعر الشعبية، ليُصبح الرجل الأقوى في “العراق”، كما تقول المجلة الأميركية.
هل “الصدر” يُعارض “إيران” حقًا ؟
تقول (فورين بوليسي) إن “الصدر” يقف في مواجهة “إيران” خطابيًا؛ لأن ذلك يتوافق مع المزاج الشعبي، لكن “الصدر” في الواقع قريب منها مثل أي شخص آخر. إذ يُدرك “الصدر” أن “إيران” لا تزال طرفًا خارجيًا قويًا في “العراق”، إن لم تكن الأقوى، وعلاقته بها ليست متوترة كما يود الناس أن يظنوا. فلا يزال لـ”إيران” تأثير على “الصدر”، و”الصدر” أكثر حكمة من أن يقطع علاقته بها تمامًا.
إذ يحرص “الصدر” على زيارة “إيران” بانتظام لأسباب عائلية ودينية. فعام 2019، احتفل “الصدر” بيوم عاشوراء بزيارة المرشد الأعلى الإيراني، آية الله “علي خامنئي”، في “طهران”. وبعد بضعة أشهر، في تشرين ثان/نوفمبر عام 2019، خلال ذروة احتجاجات تشرين أول/أكتوبر، شوهد “الصدر” في مدينة “قم”، المدينة التي درس بها والعاصمة الدينية لـ”إيران”.
وفي شباط/فبراير من هذا العام، عقب اجتماع “الصدر” مع (فيلق القدس)؛ التابع لـ (الحرس الثوري) الإسلامي، العميد “إسماعيل قاآني”، خرج ببيان عن تشكيل الحكومة العراقية وردد مقولة “الخميني”: “حكومة أغلبية وطنية… لا شرقية ولا غربية”. و”الصدر” ليس معاديًا لـ”إيران”؛ بل جل ما يُريده أن يكون الشخصية الأساسية التي يتعامل معها الإيرانيون (والجميع).
يُصور “الصدر” نفسه في خطاباته على أنه مناهض لـ”إيران” ومعادٍ للإمبريالية الأجنبية، ولكن رغم الشائعات العديدة التي تتهم “الصدر” بالوقوف في وجه المصالح الإيرانية في “العراق”، فمن المُلاحظ، على سبيل المثال، أن الفصائل المدعومة من “إيران” هاجمت فكرة حكومة الأغلبية والنشاط المحتمل المناهض لـ”إيران” باستهداف لا “الصدر”، بل الحزب (الديمقراطي الكُردستاني)، أصغر حزب في ائتلاف “الصدر”؛ بحصوله على: 31 مقعدًا فقط، وحكومة “إقليم كُردستان”؛ شبه المستقلة التي يقودها الحزب (الديمقراطي الكُردستاني) في “أربيل”.
“الصدر” ولعبة النَفَس الطويل..
يُصغي “الصدر” إلى الشارع، وهذا مكّنه من الفوز بدعمه إلى حدٍ ما. لكن هذا الجمهور قد يتغير بسرعة أكبر من أن يستطيع “الصدر” التكيف معها. فالمشاركون في احتجاجات تشرين أول/أكتوبر؛ في “العراق”، طالبوا بمستقبل مختلف تمامًا لـ”العراق”، مستقبل تقدمي وديمقراطي. ورغم النجاحات التي حققها “الصدر” في الانتخابات، شهدت الانتخابات الأخيرة في “العراق” تراجعًا كبيرًا في نسبة الإقبال، ويبدو أن نجاحات “الصدر” ترجع إلى قدرته على التنظيم والتعبئة أكثر من شعبيته.
ولكن مثلما لم تنجح “ثورة الخميني” في كسب التأييد في “إيران” اليوم، فمشروع “الصدر” في “العراق” لن يفعل الأمر مع العراقيين اليوم. فالشباب في “إيران” الذين يُشكلون أغلبية سكانه؛ يرون في توفير الوظائف والفرص، والتواصل مع العالم، والاستمتاع بالحياة أولوية أكبر من الطموحات الثورية الإسلامية. وحركة تشرين أول/أكتوبر، التي يقودها الشباب في “العراق” تروي قصة مماثلة: فالمتظاهرون كانوا متنوعين عرقيًا ودينيًا وركزوا على إصلاح وتحديث النظام السياسي في “العراق” والحفاظ على ديمقراطيته، وليس إطاحته. و”العراق” لا يحتاج إلى دكتاتور مستبد آخر، فهذا سيكون حلاً قصير الأمد لبحر من المشاكل.
وتقول (فورين بوليسي) بالنهاية، إن: “الصدر؛ يُمارس لعبة النفَس الطويل في العراق، ويصور نفسه على أنه البديل المعقول لزعيم العراق، سواء في العراق نفسه أو لصانعي السياسات في المنطقة وعلى مستوى العالم. ومثل الخميني والشعبويين الآخرين من قبله، فهو على استعداد لتوجيه العراق إلى مسار مُقلق جدًا لتحقيق هذا الهدف. وما من شك أن سياسات العراق تُغلفها الفوضى والغموض في بعض الأحيان. على أن استعداد الصدر لزيادة الاضطرابات السياسية في العراق، وتأجيل تشكيل الحكومة العراقية، وتصعيد الاحتجاجات – وهو ما يُهدد بحرب شاملة مع الجماعات الشيعية المتنافسة – بمثابة تحذير من قدرته على دفع البلاد إلى ما هو أسوأ”.