وكالات – كتابات :
عمقت العملية العسكرية، التي تشنها “إسرائيل” حاليًا؛ من خسارة سمعتها الدولية، وهي السمعة التي جاهدت “إسرائيل”، لسنوات طويلة، لغرض الحفاظ عليها في أفضل صورة على المستوى الغربي على وجه الخصوص. ويمكن القول إن الأسباب الرئيسة في خسارة هذه السمعة يعود إلى الإندفاعة غير المحسوبة التي قام بها المستوطنين بإسناد من الشرطة الإسرائيلية؛ أثناء سعيهم نحو تهجير السكان الفلسطينيين في “حي الشيخ جراح” قسريًا.
والإندفاعة الأخرى التي قام بها “نتانياهو”؛ بإعطاء الضوء الأخضر لبدء عملية عسكرية غير محسوبة العواقب، وتفتقد لأهداف واضحة، ومحمولة على نزعة ومصلحة شخصية، لتُصبح الحرب إحدى الأدوات التي بات يلجأ لها “نتانياهو” لإدارة مستقبله السياسي. كما يرى الباحث في الدراسات الأمنية والتاريخية، “أحمد الباز”، في مقاله التحليلي الذي نشره (مركز الإندار المبكر) للدراسات الإستراتيجية.
ويمضي الباحث في تفنيد الأسباب التي ساهمت في تعميق خسارة “إسرائيل” لسمعتها كالتالي…
قصف الأبراج الإعلامية في “غزة” ..
قامت “إسرائيل” بإرتكاب خطأ كبير؛ بالاستهداف الحصري والمباشر للأبراج السكنية في “غزة” تحت إدعاء أنها تتبع مخابرات حركة (حماس)؛ أو أنها مساكن لقيادات الحركة. حيث تتمتع هذه الأبراج بما يجعلها أكثر خصوصية في “غزة”، فالأبراج الأربعة التي تم قصفها، حتى الآن، وهي أبراج: (هنادي: المكون من 13 طابق – الجوهرة: المكون من 9 طوابق – الشروق: المكون من 14 طابق – الجلاء: المكون من 13 طابق)، تعتبر الأطول ارتفاعًا في القطاع، ما يجعلها الأكثر تميزًا ويعرفها الجميع، بالإضافة إلى أنها تضم مكاتب لشركات إنتاج إعلامي محلية تتعاون مع مؤسسات صحافية عالمية، وتضم كذلك مقرات لمحطات تلفزيونية ووكالات أنباء دولية ومساكن للعاملين الأجانب في هذه المؤسسات.
هذا الاستهداف، الحصري، والتحذير الموجه للسكان والشركات للإخلاء في نحو عشر دقائق قبل قصف البرج؛ تم تصويره بالصوت والصورة ليصبح مرئيًا للعالم كله، في الوقت الذي خرج فيه الصحافيين الأجانب المقيميين في هذه الأبراج ليعلنوا شخصيًا عن استيائهم ورفضهم واستغرابهم، بالصوت والصورة، لقيام “إسرائيل” بعملية القصف التي طالت مساكن مدنية لهم فيها ذكريات ممتدة، والاستهتار بحياة المدنيين الذين مُنحو أقل من عشر دقائق لإخلاء كل برج قبل أن يتم تسويته بالأرض.
وقد وجه هؤلاء الصحافيين خطاب الاستياء هذا؛ لبلادهم أو للجمهور الدولي. الأمر الذي أفرز بدوره حالة تضامن للمؤسسات الصحافية الدولية تجاه بعضها البعض، داخل “قطاع غزة”، وهو ما تجلى في قيام مكتب “وكالة الأنباء الفرنسة”، ( AFB)، العاملة في القطاع، بتقديم دعوة استضافة لكافة الصحافيين والعاملين بمكتبي وكالة الـ (أسوشيتد برس AP)، و(الجزيرة) الإنكليزية ( AJEnglish)، بعد تدمير مكاتبهم على يد الجيش الإسرائيلي.
وبالتالي فإن مظهر خصوصية استهداف هذه الأبراج، من حيث البناء والسكان ونوع المؤسسات العاملة فيها، كلها عوامل قد ساهمت في تسريع تشويه سمعة “إسرائيل”، من خلال الفضح المزدوج محليًا، أثناء التغطية الاعتيادية، ودوليًا عبر التغطيات الخاصة التي قام بها الصحافيين الأجانب العاملين في “قطاع غزة”.
هذا الاستهداف استنفر استياء بعض الإسرائيليين أنفسهم، كونه في وجهة نظرهم غير مفيد ويساهم في تأكل سمعة “إسرائيل” دوليًا، خصوصًا أن تصاعد استهداف “إسرائيل”، للأبراج، لم يوقف رشقات الصواريخ التي تطلقها (حماس)، حتى بدا الأمر أن “إسرائيل” ترد في الجانب الخطأ.
التهجير القسري..
ساهمت محاولات التهجير القسري، التي قام بها المستوطنين الإسرائيليين تجاه السكان الفلسطينيين، في “حي الشيخ جراح”، في عودة توصيف “إسرائيل”، كدولة “فصل عنصري Apartheid state”، إلى الواجهة دوليًا، حيث خرجت العديد من المسيرات المنددة بعملية التهجير القسري، التي يقوم بها المستوطنين الإسرائيليين تجاه سكان “حي الشيخ جراح”، وأصبحت عبارات مثل اسم: “الشيخ جراح”، باللغة الإنكليزية، ( Shekh Jarrah) و( Free Palestine)، متداولة في عدة شوارع أوروبية وأميركية، خلال الأيام الماضية، من خلال اللافتات التي رفعها المتظاهرين، كما أعلن العديد من المشاهير الأجانب؛ سواء ممثلين، ولاعبي مرة قدم، ومغنيين، وعارضات أزياء، رفضهم لعمليات التهجير القسري تلك.
حيث قام الممثل الأميركي، “مارك رافالو”، بالإعلان عن عريضة تضامن مع السكان الفلسطينيين؛ مطالبًا كافة الرموز بالتوقيع عليها. وطالبت الممثلة البريطانية، “لينا هيدي”، بإنقاذ “حي الشيخ جراح Save Sheikh Jarrah” . وأعلن لاعبو فريق “ديبورتيفو بالستينو”، التشيلي؛ عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني قبل المباراة التي جمعتهم مع فريق “كولو كولو”، أثناء إحدى مباريات الدوري التشيلي.
وخرج يهود في نحو 36 مدينة أميركية منددين بالتصعيد والتهجير القسري، الذي تقوم به “إسرائيل”، قائلين إن أجدادهم اليهود لم يُكتب لهم النجاة من معسكرات الاعتقال النازية، في “أوشفيتز”، ليقصفوا “غزة” أو ليجعلوا من مناطق سكن الفلسطينيين أشبه بمعسكرات الاعتقال النازية.
وحظيت عملية التهجير القسري لسكان “الشيخ جراح”؛ بتغطية لافتة جدًا من مقدم البرامج الساخر الأميركي، “جون أوليفر”، الذي يتابعه ملايين الأميركيين على قناة ( HBO)، حيث استعرض التبريرات التي تروجها “إسرائيل”، لعمليات التهجير والاعتداء العسكري على المدنيين؛ تحت دعوى استهداف قادة (حماس).
كما لوحظ، هذه المرة؛ أن العديد من الشباب الفلسطينيين، ممن يُجيدون الإنكليزية، كانوا ضيوفًا على شاشة محطات تلفزيون دولية؛ لينقلوا الصورة كشهود عيان، وقد أجاد الكثير منهم في توضيح حقيقة ما يحدث على الأرض من مآسي جراء الاستهداف العسكري، أو تقديم الحجج لإثبات عدم صحة وجهة النظر التي يروجها المستوطنين عند قيامهم بدعم من الشرطة الإسرائيلية في تهجير السكان الفلسطينيين الأصليين قسريًا.
ساهم هذا الوضع المندد بالإجراءات الإسرائيلية، على المستوى الدولي، في رفع مستوى القلق على سمعة “إسرائيل”، الأمر الذي دفع “وزارة الخارجية” الإسرائيلية لتشكيل: “خلية دبلوماسية”، للدفاع عن وجهة النظر الإسرائيلية وتبرير الإجراءات العسكرية في “قطاع غزة”، والاستيطانية في “حي الشيخ جراح”، حيث قامت هذه الخلية، التي تعمل تحت إدارة وزير الخارجية، “جابي أشكنازي”، بالتواصل مع نحو 30 دولة حول العالم؛ لغرض غسل السمعة وإقناع هذه الدول بصحة السردية الإسرائيلية في الدفاع عن النفس والحق التاريخي.
تحطيم التطبيع “العربي-الإسرائيلي”..
شهدت العلاقات “العربية-الإسرائيلية”، خلال الأعوام القليلة الماضية، إزدهارًا نسبيًا ملحوظًا، إلا أن السلوك العدواني الذي تقوم به “إسرائيل”، سواء عسكريًا أو استيطانيًا، سيكون من شأنه تخفيض السرعة الفائقة التي كانت تخطو بها هذه العلاقات.
فالدول العربية؛ تهتم في نفس الوقت بعمقها العربي وبتحالفاتها العربية، حتى لو أن التحالف مع “إسرائيل” كان ذو فائدة، وهذا منتهى الوعي الإستراتيجي، حيث ستتجنب هذه الدول تشويه السمعة التي طالت “إسرائيل” دوليًا كلما كان ذلك ممكنًا، وقد يتم ذلك عبر تخفيض سرعة مسيرة العلاقات في الوضع الحالي، وهو ما يعني خسارة لجهود “نتانياهو”، على يد “نتانياهو” نفسه، الذي سعى بكل ما أوتي من قوة للحصول على موافقة أكبر عدد من الدول العربية لتطبيع العلاقات مع “إسرائيل”، إلا أن مسعاه الأخير في التصعيد قد حطم هذه الجهود.
سقوط أسطورة “واحدة الديمقراطية في الشرق الأوسط”..
ويوضح “الباز” أنه: سوف تخبو العبارة، التي كانت محل تداول خلال السنين الماضية، والتي تقول إن: “إسرائيل واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط”، وذلك في ظل استمرار عمليات الإخلاء القسري التي يقوم بها المستوطنين والشرطة الإسرائيلية في “القدس الشرقية”.
هذه السمعة بالذات كانت دائمًا مفخرة لـ”إسرائيل”، خصوصًا في العقد الأخير مع اندلاع “الربيع العربي”، الذي كانت الديمقراطية إحدى مطالبه.
وبالتوازي مع ذلك؛ سوف تتراجع رغبة يهود، غير إسرائيليين، في الهجرة نحو “إسرائيل” لفترة من الزمن في ظل تراجع سُمعة العمق الإسرائيلي كعمق أمن في منطقة مضطربة. حيث تم رصد أصوات في “إسرائيل”، خلال الأيام الماضية، تدعو اليهود، الذين يفكرون في الهجرة إلى “إسرائيل”، بمراجعة قرارهم.
في كل الأحوال؛ سوف تنتهي العملية العسكرية الحالية، إلا أنها ستكون قد نالت من سُمعة “إسرائيل” سياسيًا؛ كونها عملية ذات بُعد شخصي لـ”نتانياهو”، وعسكريًا؛ كون صواريخ (حماس) استطاعت الوصول إلى العمق الإسرائيلي بشكل أكثر دقة مقارنة بالهجمات التي شنها خلال الجولات السابقة، وأمنيًا؛ كونها المرة الأولى، منذ عام 1948، التي تندلع فيها ما يمكن وصفه: بـ”الانتفاضة الفلسطينية” في مدن الداخل الفلسطيني المحتل.
كما ستكتشف “إسرائيل” أنها بيدها أعادت فتح باب “القضية الفلسطينية” مرة أخرى بعد فتور شعبي وحكومي مؤقت على المستوى العربي والدولي، وقد يتسبب هذا الأمر بدوره في دفع الدول العربية إلى إعادة ضبط نمط علاقاتها مع “إسرائيل”؛ ودخول “القضية الفلسطينية” على مسار هذه العلاقات مرة أخرى بقوة، من حيث كونها ملف لا يمكن تجاوزه، وهو ما قد يعزز شعور “إسرائيل” بالندم جراء الإندفاعة الأخيرة التي فتحت عليها أبوبًا كانت قد أغلقت بفعل عوامل مختلفة، خلال السنين الماضية، أو كما يقول المثل: “على نفسها جنت براقش”.