وكالات – كتابات :
بدأت العديد من الدول تبدي مخاوف من طبيعة العقوبات التي فرضتها “واشنطن” ضد “موسكو”؛ على خلفية تدخلها العسكري ضد “أوكرانيا”، خاصة فيما يتعلق بمصادرة أموال رجال الأعمال الروس، تحت ذريعة قربهم من (الكرملين)، أو تجميد أصول “البنك المركزي الروسي” في الخارج، وإعلان “واشنطن” عن دراستها إمكانية مصادرة هذه الأموال، وهي الإجراءات التي يبدو أنها ستكون لها إرتدادات غير مسبوقة على النظام الاقتصادي الدولي، وعلى موقع “الدولار الأميركي” فيه؛ كما ترى الورقة البحثية التي أعدها مركز (المستقبل) للأبحاث والدراسات المتقدمة؛ ضمن تقديراته للأزمة الأوكرانية ومدى تأثيراتها المتعددة تحت عنوان: “تحوط صيني: تأثير العقوبات الأميركية ضد روسيا على النظام المالي العالمي”.
متابعة صينية للأزمة..
تُشير العديد من التقارير إلى أن “الصين” تدرس تداعيات الصراع الأوكراني، بأبعاده العسكرية والاقتصادية والسياسية، خاصة أنها تعتقد أن فرص تكرار السيناريو الروسي في “أوكرانيا”؛ على “تايوان”، أمر مُرجح بشدة، وذلك في ضوء ما يلي:

01 – تهديد أميركي واضح: أدلى مسؤولون أميركيون بتهديدات واضحة لـ”الصين”؛ بأنها قد تكون عُرضة لـ”عقوبات أميركية” مماثلة لتلك التي فرضتها “واشنطن” على “روسيا”، إذا ما اتجهت “الصين” لضم “جزيرة تايوان” بالقوة العسكرية، خاصة في ظل إصدار “واشنطن” تصريحات تُناقض إلتزامها بمبدأ: “الصين الواحدة”، فضلاً عن تحذير “الصين” من اتجاهها لاستخدام القوة العسكرية لاستعادة “تايوان”، وهو ما تسبب في تصاعد التوتر بين البلدين.
فقد أكدت نائب وزيرة الخارجية الأميركية؛ “ويندي شيرمان”، أن الإجراءات الأميركية يجب أن تُشكل عبرة لـ”جمهورية الصين الشعبية”، في حين ربطت وزيرة الخزانة؛ “جانيت يلين”، بين حالتي “أوكرانيا” و”تايوان”، موضحة أنه في حالة الهجوم على الجزيرة، ستتعامل “واشنطن” مع “جمهورية الصين الشعبية” بالطريقة نفسها التي تتعامل بها مع “روسيا”.
02 – قلق صيني من تجميد الاحتياطات: أكد مندوب “الصين”؛ لدى “الأمم المتحدة”؛ “تشانغ جون”، أن الاستيلاء التعسفي على الاحتياطيات النقدية الأجنبية أو تجميدها هو استغلال للاعتماد الاقتصادي المتبادل كسلاح، ما يؤدي إلى مزيد من الشكوك في الاقتصاد العالمي.
ويُقدر أن لدى “الصين” سندات حكومية أميركية؛ بقيمة: 1.06 تريليون دولار؛ في كانون ثان/يناير 2022، كما تتكون احتياطيات “الصين” من النقد الأجنبي بشكل رئيس من “الدولار” و”اليورو”؛ وتحتفظ بها في الدول المتقدمة، وفقًا لنائب مدير البنك المركزي الصيني؛ “وانغ يونغ لي”، وهو ما يعني أن احتياطيات “بكين” من النقد الأجنبي؛ سوف تكون عرضة للتجميد في حالة اندلاع أي صراع بين “بكين” والغرب حول “تايوان”.
03 – ترقب “الصين” موقف الدول المختلفة: تقوم “الصين” بدراسة سلوك الدول الثالثة، أي سلوك الدول التي ليست طرفًا مباشرًا في الصراع “الروسي-الغربي”، والذي تُحاول “واشنطن” فرض ضغوط عليها للانصياع لـ”العقوبات الغربية” ضد “روسيا”. ويبدو أن “بكين” تهدف من ذلك إلى محاولة استشراف موقف الدول الأخرى منها في حالة اندلاع صراع بينها وبين “واشنطن” حول “تايوان”.
وتُجدر الإشارة هنا إلى وجود اختلاف رئيس بين حالتي: “أوكرانيا” و”تايوان”، وهو ما يتمثل في أن الموقف الصيني من “تايوان” يكتسب شرعية أكبر من نظيره الروسي، إذ إن “تايوان” تُعد إقليمًا انفصاليًا، وفي حالة أقدمت “بكين” على ضم الجزيرة بالقوة المسلحة، فإن دول العالم الثالث لن تتجاوب مع أي عقوبات غربية ضد “الصين”، على أساس أن الإجراء الصيني يسعى، في النهاية، إلى حماية الوحدة الترابية للدولة الصينية.
04 – إسراف “الولايات المتحدة” في تطبيق العقوبات: توسعت “الولايات المتحدة”، في الآونة الأخيرة، في توظيف سلاح العقوبات ضد الدول، التي تتبنى سياسات لا تتوافق مع المصالح الأميركية، بصورة تدفع الدول المختلفة إلى التخوف من تأثير هذه العقوبات سلبًا على مصالحها.
ومن الأمثلة على ذلك تلويح “واشنطن” بالعقوبات على الأطراف الثالثة، التي لا تلتزم بالعقوبات الأحادية الأميركية ضد “روسيا”، فضلاً عن قيام لجنة بـ”مجلس الشيوخ” الأميركي، في 05 آيار/مايو 2022، بإصدار مشروع قانون “لا لتكتلات إنتاج وتصدير النفط”؛ المعروف اختصارًا باسم: (نوبك)، والذي يُتيح، في حال إقراره، رفع دعاوى قضائية ضد مُنتجي “النفط”؛ في “منظمة الدول المُصّدرة للبترول”؛ (أوبك)، وحلفائها، بدعوى رفع أسعار “النفط”.

ويهدف مشروع القانون المقترح إلى إلغاء الحصانة السيادية التي تحمي (أوبك) وشركات “النفط” الحكومية في دولها؛ منذ فترة طويلة، من الدعاوى القضائية، وهي كلها سياسات أميركية تنتهك قواعد النظام المالي العالمي، وقد تدفع عددًا كبيرًا من الدول إلى التوجس من الانفتاح الكبير على الاقتصاد الأميركي.
قيود أميركية قائمة..
على الرغم من تلميحات “واشنطن” وتهديداتها لـ”بكين”؛ بفرض عقوبات على “الصين”، على خلفية الصراع بينهما حول “تايوان”، فإن هناك قيودًا تحد من قدرة “واشنطن” على فرض مثل هذه العقوبات، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
01 – اعتماد اقتصادي أعمق: تركت “العقوبات الغربية”؛ على “روسيا”، تداعيات اقتصادية سلبية على الاقتصاد العالمي، وعلى اقتصادات الدول التي فرضت العقوبات، وذلك على الرغم من أن “روسيا” و”أوكرانيا”؛ لا يتجاوز إسهامهما في الاقتصاد العالمي: 3 أو 4% على أقصى تقدير، ولكن لهما أوزان مؤثرة بشدة في قطاعات: “الطاقة والقمح وزيوت الطعام والأسمدة”، فضلاً عن تأثيرهما في السياحة الدولية.
وفي المقابل؛ فإن العالم أجمع يتمتع بعلاقات اقتصادية قوية مع “بكين”، أي أن أي محاولة أميركية لفرض عقوبات ضد “الصين” سوف يستتبعها ركود اقتصادي عميق تُصاب به “الولايات المتحدة” أولاً، وهو الأمر الذي يجعل “واشنطن” تُفكر أكثر من مرة قبل أن تندفع لتفرض عقوبات على اقتصاد بحجم “الصين”.
02 – ضخامة الديون الأميركية: برزت “الصين” باعتبارها أكثر مقرض؛ ليس فقط لـ”الولايات المتحدة”، على نحو ما سبقت الإشارة إليه، ولكن كذلك إلى عدد كبير من دول العالم. وأظهرت بيانات “وزارة التجارة” الأميركية، في مطلع آيار/مايو 2022، أن الفجوة بين البضائع والخدمات زادت بنسبة: 22.3%، لتصل إلى: 109.8 مليار دولار، وذلك خلال الربع الأول من العام 2022، وهي كلها مؤشرات على أن “الولايات المتحدة” قد تتجه للاقتراض مجددًا. وقد يدفع هذا الأمر الدول غير الغربية للإحجام عن الاستثمار في أذون الخزانة الأميركية، خاصة إذا ما أمضت في خططها المعلنة بمصادرة احتياطات المركزي الروسي.
دراسة “بكين” خياراتها..
تُشير العديد من التقارير في الصحافة الغربية؛ إلى أن هناك مؤشرات على اتجاه “الصين” لدراسة “العقوبات الأميركية” الأخيرة، وتبني تدابير للتحوط لها مستقبلاً، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
01 – بحث تأمين الاحتياطات الأجنبية الصينية: قام “يي هويمان”، رئيس هيئة تنظيم الأوراق المالية الصينية، بعقد اجتماع مع البنوك المحلية والأجنبية لتقييم كيف يمكن أن يقوموا بحماية الاحتياطات الأجنبية الصينية في الخارج، والبالغة: 3.2 تريليون دولار أميركي، من عقوبات مماثلة لتلك التي فرضتها “الولايات المتحدة” على “روسيا”، خاصة فيما يتعلق بتجميد أصول “المركزي الروسي”.
وتعكس طريقة التفكير هذه؛ أنه بات لدى “الصين” تقييم بأن المواجهة مع “واشنطن” أصبحت حتمية، وأن فرص تحولها إلى مستويات تُنذر بحرب اقتصادية يُعد أمرًا محتملاً بدرجة كبيرة يتطلب تدابير موازية في مواجهته.
كما أن هذا التقييم قد يدفع “الصين” إلى البحث عن أوعية مالية بديلة للاستثمار؛ بعيدًا عن أصول مالية قد تتعرض للتجميد، أو غير مالية قد تتعرض للمصادرة، بسبب اختلافات سياسية دولية، أي أن “بكين” قد تُحجم مستقبلاً عن توجيه فائض عُملاتها الأجنبية لشراء إلتزامات ديون “الولايات المتحدة” و”الاتحاد الأوروبي” و”بريطانيا” وغيرها.
02 – تقليص الاعتماد على “الدولار الأميركي”: تتجه بعض الدول إلى تقليص ربط قيمة عُملاتها الوطنية بما تمتلكه من احتياطات بـ”الدولار الأميركي”. وتتمثل أبرز الخيارات، في هذا الإطار، في تنويع العُملات التي تعتمدها كاحتياطات أجنبية لديها، بدلاً من الاعتماد الأحادي على “الدولار الأميركي”، ومن ذلك الاحتفاظ بجانب من هذه الاحتياطات بـ”اليورو” أو “الين” أو “الجنيه الإسترليني”، أو حتى “اليوان”، فضلاً عن “الذهب”.

واتجهت “روسيا”، بسبب “العقوبات الغربية”، إلى الخيار الأخير، حيث بدأ “البنك المركزي الروسي” شراء “الذهب” من البنوك التجارية الروسية؛ في الفترة من 28 آذار/مارس وحتى 30 حزيران/يونيو. وقد تتجه دول أخرى إلى تبني آليات مماثلة، وذلك للتحوط من تداعيات غير منظورة لـ”العقوبات الأميركية”. ومع ذلك، فإن أحد المشاكل الأساسية لهذه السياسة هي أن الاحتفاظ بعُملات أجنبية أخرى، على غرار عُملات الدول الغربية، والدول المتحالفة معها، على غرار “اليابان”، قد لا يكون مفيدًا في تلافي تأثيرات “العقوبات الأميركية”، بسبب تماهي هذه الدول مع “العقوبات الأميركية” على غرار ما كشفه الصراع الأوكراني، ولذلك قد يكون “الذهب” هو البديل الآمن.
03 – تسريع الاعتماد على “اليوان”: طالبت “الصين”؛ “السعودية”، بأن تتم مبيعات “النفط السعودي” إلى؛ “بكين”، بـ”اليوان” بدلاً من “الدولار الأميركي”، كما قد تتجه “بكين” لتعزيز التعامل بعُملتها مع دول العالم المختلفة، وذلك مع تنامي المخاوف من تبني “واشنطن” والدول الغربية عمومًا، سياسات اقتصادية عقابية، تحت دعاوى انتهاك حقوق الإنسان، أو غيرها من المزاعم.
ولاشك أن مثل هذا الأمر سوف يؤثر على مركزية “الدولار الأميركي” في الاقتصاد العالمي، وذلك بالتوازي مع صعود العُملة الصينية كإحدى عُملات الاحتياط العالمية البديلة لـ”الدولار”. وتبدي “بكين”؛ منذ فترة، حرصها على أن تحوّل عُملتها إلى إحدى العُملات الدولية، وقد تستغل الصراع “الروسي-الأوكراني” الحالي لدفع ذلك قدمًا، فقد أكدت “زانغ يانلينغ”، نائبة الرئيس التنفيذي السابقة لـ”بنك الصين”، أن نوعية العقوبات الأخيرة أثّرت على مصداقية “الدولار” في الأجل الطويل، وبأن: “الصين ستُساعد العالم في التخلص من الهيمنة الدولارية”، وهي كلها مؤشرات أولية سوف تحتاج إلى بعض الوقت للحكم على مدى صحتها.
وما قد يدعم هذا التوجه؛ قيام بعض الدول بالاعتماد على العُملات الوطنية في التبادل، على غرار الاتفاق الذي تم بين “الصين” و”تركيا” على تحويل جانب من التعاملات التجارية بينهما بـ”اليوان” بدلاً من “الدولار الأميركي”.
04 – نظام التحويل المصرفي عبر الحدود: بدأت “الصين” تدرس وضع نظام مصرفي لتحويل الأموال؛ بديلاً لنظام الـ (سويفت)، وذلك في أعقاب أزمة “القِرم” ومنع “روسيا” من استخدامه، فضلاً عن حرص “الصين” على حماية شركاتها من العقوبات الاقتصادية الأميركية؛ التي تُفرض على شركات صينية بسبب دخولها في تعاملات تجارية مع شركات خاضعة لـ”عقوبات أميركية”، وليست دولية.
وكشفت “روسيا” عن اتجاهها لإرساء نظام جديد ثنائي للتراسل المصرفي بين البلدين، وذلك لوقف العمل بنظام منظومة المدفوعات المالية؛ (سويفت)، في العلاقات التجارية بينهما، كما تدرس “روسيا” و”الهند” إمكانية إنشاء منصة معاملات بديلة للتجارة الثنائية مع التسوية بالعُملات المحلية من “الروبل الروسي” و”الروبية الهندية”، وهي المحاولات التي، إن نجحت، سوف تعني تراجع لأحد رموز الهيمنة الغربية على عمليات التحويل النقدية.
وفي الختام، يمكن القول إن توجه “الصين” أو غيرها من الدول؛ لتقليص الاعتماد على “الدولار الأميركي”، ونظام التحويلات المالية الغربية، سوف يتوقف بدرجة كبيرة على ثلاثة عوامل، وهي مدى اتخاذ “الصين” إجراءات فعلية في هذا الصدد، خاصة فيما يتعلق بتفعيل نظام ثنائي للتحويلات المالية مع “روسيا”، وكذلك مدى استعداد “بكين” لتسريع الاعتماد على “اليوان”؛ كعُملة احتياط دولي، ومدى قلق دول العالم المختلفة من السياسات الأميركية، التي بدأت تعتمد بصورة مفرطة على العقوبات الاقتصادية، وتتخذ إجراءات تتجاوز القوانين الدولية المستقرة، خاصة فيما يتعلق بمصادرة ممتلكات رجال الأعمال، أو التلويح بمصادرة احتياطات “البنك المركزي الروسي”.