وكالات – كتابات :
مع استمرار الحرب الروسية في “أوكرانيا”، تتعالى الأصوات الغربية التي تُنادي بتطبيق ما يُعرف: بـ”مشروع مارشال” لإعادة الإعمار في “أوكرانيا”، حيث كان آخر الداعين إلى ذلك المستشار الألماني؛ “أولاف شولتس”، يوم الأربعاء 22 حزيران/يونيو 2022، قائلاً إن ما تحتاجه “أوكرانيا” اليوم هو: “مشروع مارشال” جديد؛ مماثل لذلك الذي تم تطبيقه في “أوروبا” بعد الحرب العالمية الثانية. فما هو “مشروع مارشال” ؟.. وهل تستطيع “أوروبا” تحمل تكلفته في “أوكرانيا” ؟
ما هو “مشروع مارشال” ؟
“مشروع مارشال”؛ هو خطة اقتصادية أُطلقت بمبادرة من وزير الخارجية الأميركي الأسبق؛ “جورج مارشال”؛ من أجل مساعدة الدول الأوروبية على إعادة إعمار ما دمرته الحرب العالمية الثانية، وبناء اقتصاداتها من جديد، وذلك عبر تقديم هبات عينية ونقدية، بالإضافة إلى حزمة من القروض طويلة الأمد بمليارات الدولارات.
وأعلن “مارشال”؛ في 05 حزيران/يونيو من عام 1947، في خطاب أمام “جامعة هارفارد”، عن خطته هذه، قائلاً إنه من المنطقي أمام هذا الوضع أن تعمل “الولايات المتحدة” كل ما في وسعها من أجل إعادة العافية إلى الاقتصاد الأوروبي؛ لأن الاستقرار السياسي والسلام مرهونان بذلك.
وكانت “الولايات المتحدة” متخوفة من أن تقع المجتمعات الأوروبية تحت إغراء الأحزاب الشيوعية؛ بسبب ما ساد “أوروبا” بعد الحرب من الجوع والفقر والبطالة واليأس. كما استقر لدى الساسة الأميركيين قناعة بأن “أوروبا” لا تستطيع أن تُعافي نفسها دون مساعدة من “الولايات المتحدة”، وأن المصالح الإستراتيجية لـ”أميركا” ستكون في خطر إن سقطت “أوروبا” في فُلك “الاتحاد السوفياتي”.
وشدد “مارشال”؛ في كلمته، على أن المبادرة للعمل من أجل تعافي الاقتصادات الأوروبية ينبغي أن تأتي من الدول الأوروبية نفسها، عبر تقديم خطة عمل مشتركة. ولم تلبث هذه الدول كثيرًا أن استجابت لنداء “مارشال”، وعقدت: 16 دولة أوروبية اجتماعًا لمدارسة الفكرة في “باريس”؛ في 12 تموز/يوليو 1947، بدعوة من وزيري خارجية “بريطانيا” و”فرنسا”، واتفقت على الشروع في وضع برنامج اقتصادي قادر على إعادة بناء اقتصاداتها وقدراتها الإنتاجية المدمَّرة.
وكانت الهيئة التي أقامتها حكومات غرب “أوروبا” للإشراف على إنفاق نحو: 13 مليار دولار أميركي قد سمُيت” “منظمة التعاون والاقتصادي الأوروبي”، وقد ساهمت هذه الأموال في إعادة إعمار وتشغيل الاقتصاد والمصانع الأوروبية.
وأُسندت مهمة تنفيذ المشروع على الجانب الأميركي إلى؛ إدارة التعاون الاقتصادي، التي أُحدثت بمقتضى هذا القانون، وأُنشئت “المنظمة الأوروبية للتعاون الاقتصادي”، التي تحولت لاحقًا إلى “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية”، على الجانب الأوروبي.
وكُلِّفت الجهتان بالتنسيق من أجل توزيع الإعانات والقروض حسب الخطة. امتدت مدة التنفيذ لأربع سنوات؛ من نيسان/إبريل 1948 إلى حزيران/يونيو 1952. استرجعت بعدها الاقتصادات الأوروبية المستفيدة من المشروع عافيتها واستقلاليتها، وتمكنت من إعادة بناء قدراتها الإنتاجية الصناعية والزراعية، وإعادة التوازن إلى ميزان مدفوعاتها.
وتُوِّج “مشروع مارشال” بنجاح كبير شهدت عليه الإنجازات الاقتصادية التي حققتها البلدان الأوروبية المستفيدة من المشروع، حيث بلغت معدلات نمو ناتجها القومي الإجمالي ما بين: 15 و25% خلال فترة تنفيذه.
وأسهم المشروع في توثيق العلاقة بين هذه البلدان مع بعضها من جهة، وبينها وبين “الولايات المتحدة” من جهة أخرى. وأثمرت نتائجه بروز تكتل اقتصادي أوروبي، وتشكيل حلف عابر لـ”المحيط الأطلسي”، وُكِلت إليه مهمة مواجهة المد الشيوعي في العالم.
هل يكون “مشروع مارشال” مناسبًا لـ”أوكرانيا” ؟
حتى قبل أن تسكت أصوات الرصاص والقنابل في “أوكرانيا”، بدأت بالفعل في “أوكرانيا” المعركة من أجل الحصول على المليارات من الغرب لإعادة إعمار البلاد التي دمرتها الحرب. ودافع كبار صانعي السياسة الأميركية مؤخرًا، بمن فيهم وزيرة الخزانة؛ “جانيت يلين”، عن حزمة المساعدة الأولية لـ”أوكرانيا”، والتي تم تمريرها في “مجلس الشيوخ” الأميركي؛ في 19 آيار/مايو الماضي، بقيمة: 40 مليار دولار.
تهدف الحزمة إلى دعم “أوكرانيا”؛ خلال الأشهر الخمسة المقبلة، لمكافحة الغزو الروسي المستمر، وتشمل الأموال المعدات العسكرية والتدريب والأسلحة، فضلاً عن مليارات الدولارات من المساعدات الإنسانية، بما في ذلك الأموال للمساعدة في معالجة نقص الغذاء العالمي الناجم عن الصراع المستمر منذ 03 أشهر.
ومع ذلك، تقول صحيفة (ذا هيل) الأميركية، إن الحديث عن برامج إعادة إعمار محددة أثناء استمرار القتال سابق لأوانه، لأن: “كل قطرة” من المساعدات العسكرية المفيدة والدعم المالي يمكن ويجب توفيرها. ولهذه الغاية، سيكون التعاون عبر “الأطلسي” و”التعاون الأوروبي” أمرًا حيويًا لمساعدة “أوكرانيا” على استعادة اقتصادها بعد انتهاء الحرب.
وتقول الصحيفة إن “خطة مارشال” أقرت نحو: 13 مليار دولار فقط للاقتصادات الأوروبية الكبرى؛ في عام 1948، وبمعايير اليوم، يُعادل هذا المبلغ نحو: 179 مليار دولار. وصحيح أن الاقتصادات الآن أكبر بكثير، لكن نطاق الدمار في الحرب العالمية الثانية، التي استمرت 07 سنوات، كان أكبر أيضًا، ومع ذلك فإن الوضع الآن في “أوكرانيا” يختلف اختلافًا جوهريًا عن ذلك الزمن.
ويُجادل النقاد لتطبيق “خطة مارشال” في “أوكرانيا”، بأن المشكلات الاقتصادية لـ”كييف” أعمق بكثير من الدمار الذي سببته الحرب الروسية غير المبررة؛ حيث تضرر الاقتصاد الأوكراني بشدة من وباء (كورونا)، وقدرت “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية”؛ (OECD)، أن الناتج المحلي الإجمالي الهش بالفعل انخفض بنسبة: 4%، بينما يقول “البنك الدولي” إن الرقم هذا العام قد يصل إلى: 45%، في انخفاض مذهل.
ويقول خبراء لمجلة (نيوزويك) الأميركية، إن فكرة تطبيق “مشروع مارشال”؛ لإعادة إعمار “أوكرانيا”، قد تستغرق مئات المليارات من الدولارات، وربما تريليونات، حتى تعود البلاد كما كانت قبل الحرب والوباء.
ما العقبات التي ستواجهها “أميركا” و”أوروبا” لإعادة إعمار “أوكرانيا” ؟
ويرى خبراء أنه من الضروري وجود توازن عادل بين المنح والقروض، ففي حين أن “كييف” ترغب في الحصول على معظم المساعدات على شكل منح، إلا أن ذلك أمر غير عادل بالنسبة لدافعي الضرائب في “الاتحاد الأوروبي” و”الولايات المتحدة”. وقد تأتي إعادة البناء الفوري من المنح، ولكن يجب تقاسمها بين الوكالات والوزارات والشركات الأوكرانية، ونظيراتها الغربية.
و”بولندا”؛ بعد عام 1989، هي مثال جيد على المنح الغربية المحدودة التي تعمل على تنشيط الاقتصاد الوطني بشكل فعال. وهذا يعني على الأرجح زيادة في الديون الأوكرانية، التي تقترب بالفعل من: 70% من الناتج المحلي الإجمالي.
والأهم من ذلك؛ أنها تتطلب مجموعة من الإصلاحات الهيكلية التي يتعين تنفيذها قبل استخدام رأس المال بشكل فعال في إعادة الإعمار. وبحسب صحيفة (ذا هيل) الأميركية، يتطلب نقل “أوكرانيا” من أسفل سلم نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الأوروبي، أكثر من النقد؛ إذ يجب أن يكون المانحون المحتملون على دراية بالعديد من التحديات، بما في ذلك المستويات العالية من الفساد، والهيكل الاقتصادي الأوليغارشي المتعفن داخل الدولة، وشكل الاقتصاد الذي تقوده الدولة، والاعتماد الهيكلي المتبقي على “روسيا”، وأعضاء “الاتحاد الأوروبي” الذين يضعون الحواجز أمام اندماج “أوكرانيا” في الغرب.
ووعد المستشار الألماني؛ “شولتس”، “أوكرانيا”، بتقديم دعم طويل الأمد لإعادة الإعمار بعد الحرب: “العدوانية الروسية”، قائلاً إن هذه ستكون: “مهمة للأجيال”، مشيرًا إلى أن: “ما نحتاجه الآن هو خطة مارشال مماثلة لتلك التي في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية”.
ورأى “شولتس”؛ أن: “أوكرانيا لها كل الحق في أن تُدافع عن نفسها في مواجهة روسيا، ومن واجبنا كجيران أوروبيين ومدافعين عن الحق والحرية وأصدقاء وشركاء لأوكرانيا؛ أن ندعمها في ذلك على أفضل نحو ممكن”.
لكن هذا الموقف قد لا يُعبر بشكل دقيق عن موقف باقي الأعضاء في “الاتحاد الأوروبي”، الذين لا يزال بعضهم يتجنب انتقاد “بوتين” بشكل مباشر.
كيف يمكن لـ”أوكرانيا” تجاوز هذه التحديات ؟
يقول خبراء غربيون إن التغلب على هذه التحديات ليس بالأمر المستعصي، ولا حجة لرفض مساعدة “كييف”، لكن الإصلاحات الاقتصادية لا غنى عنها. هناك الكثير من الأمثلة الإيجابية التي يمكن الاستفادة منها. لا تزال هناك حاجة إلى إصلاحات زراعية لزيادة الإنتاج. يجب على المانحين أيضًا ضمان إنفاق الأموال بشفافية من خلال عمليات العطاءات التنافسية، التي يشرف عليها الغربيون، كان هذا أمرًا حيويًا لنجاح المساعدة لـ”كوريا الجنوبية” و”البوسنة”.
كما أن تشجيع “التحرير الاقتصادي” للحد من تأثير الفساد والسيطرة على الدولة، أمر بالغ الأهمية، يجب إنفاق المزيد من الأموال على بناء مؤسسات حديثة لسيادة القانون لمكافحة الفساد ورفع جودة ومعايير التشريعات، وهو أمر حيوي لنجاح المساعدات الخارجية.
كما أن هذا التحدي هو أيضًا فرصة؛ إذ يمكن لـ”أوكرانيا” تحويل هيكلها الاقتصادي بشكل كبير، والتخلي عن اقتصاد: “حزام الصدأ”، وجعله أكثر توافقًا مع “أوروبا” والعالم المتعطش للمخرجات الزراعية لـ”أوكرانيا”، ويتقبل منتجات تكنولوجيا المعلومات التي كانت “أوكرانيا” بيئة جيدة لها.
ولذلك، يرى النقاد أنه يجب على “الولايات المتحدة” و”الاتحاد الأوروبي” التأكد من أنهما لا يقوضان، عن غير قصد، حوافز الإصلاح داخل “أوكرانيا” بمساعدات مفتوحة وسيئة للغاية، تذهب أدراج الرياح، والأمثلة السيئة للمساعدات الأميركية كثيرة، مثل دعم الأنظمة الفاسدة الموالية في “فيتنام الجنوبية” و”العراق” و”أفغانستان”، وهذا على سبيل المثال لا الحصر.