وكالات – كتابات :
إذا كان الارتفاع الجنوني لأسعار المواد الغذائية والأدوية وباقي السلع الأساسية يُمثل ضغوطًا هائلة على مواطني دولة غنية؛ كـ”ألمانيا”، فماذا عن مواطني الدول العربية، وبخاصة غير النفطية منها ؟
ويتفاوت جنون أسعار السلع بين دولة وأخرى حول العالم، لكن بشكلٍ عام بدأت الزيادات في الأسعار في النمو، ولو بصورة جزئية، نتيجة لنقص السلع الذي يشهده العالم منذ بداية العملية الروسية العسكرية على “أوكرانيا”؛ (كما تدعي الآلة الدعائية الأميركية وتوابعها الغربية والعربية)، ما أدى إلى ارتفاعات قياسية في التضخم وتضاعف أسعار بعض السلع الأساسية مرات ومرات خلال أشهر قليلة.
ومع استمرار المستويات القياسية لارتفاع أسعار “الغاز” ومصادر الطاقة الأخرى، تتأجج نيران تكاليف إنتاج وشراء الأغذية والأدوية ومواد البناء والسلع الاستهلاكية الأخرى بشكلٍ يُثير الخوف والهلع حول العالم. وبفعل ذلك وصل التضخم في غالبية دول العالم إلى مستويات مخيفة؛ تراوحت بين: 8 و10% خلال الأشهر الستة الماضية.
الدول الغنية تتدخل لإنقاذ مواطنيها..
وبطبيعة الحال يتسبب هذا الارتفاع الجنوني في الأسعار في إفقار غالبية الناس حتى في دول غنية: كـ”ألمانيا”، التي عُرفت باستقرار أسعارها على مدى عقود، فإذا كانت الدول الغنية تتدخل لتخفيف الأعباء عن مواطنيها عن طريق المساعدات السخية، فماذا عن الدول العربية وكيفية مواجهة هذه الأزمة العميقة ؟
ففي بلد مثل: “ألمانيا”، كانت معروفة باستقرار الأسعار والحفاظ على معدلات تضخم سنوية تقل عن: 3%، أدت الحرب في “أوكرانيا”، التي تصفها “روسيا” بأنها: “عملية عسكرية خاصة”، بينما يصفها الغرب بأنها: “غزو”، إلى تآكل سريع في القوة الشرائية وتدهور مستوى معيشة أصحاب الدخل المحدود والمتوسط الذين يُشكلون غالبية المجتمع، بحسب تقرير لموقع (دويتش فيله).
أزمة التضخم أدت أيضًا إلى توقف الإنتاج وموجة من الإفلاس طالت الشركات في مختلف القطاعات. ففي “ألمانيا”؛ أظهرت التقارير مؤخرًا أن: 60% من السكان بدأوا باللجوء إلى ما لديهم من احتياطيات لتوفير احتياجاتهم الشهرية. كما زاد عدد الشركات المفلسة؛ خلال آب/أغسطس الماضي، فقط بنسبة زادت على: 25% مقارنة بمستوى الفترة نفسها من العام الماضي.
ومما لا شك فيه أنه لولا الإعانات السخية التي قدمتها الدولة الألمانية؛ حتى الآن، لطال الإفلاس المزيد من المؤسسات.
وفي الدول الصناعية التي لديها احتياطيات مالية كبيرة، مثل “ألمانيا”، تُحاول الدولة مواجهة ارتفاع الأسعار من خلال تقديم إعانات مالية سخية للشركات والعائلات. وخصصت الحكومة الحالية برئاسة المستشار؛ “أولاف شولتس”، نحو: 90 مليار يورو، منذ اندلاع الحرب في “أوكرانيا” لتلك الغاية تحديدًا.
لكن تدخل الدولة لتخفيف الأعباء عن مواطنيها؛ (أو بمعنى أصح عن مجتمع الأعمال وأصحاب الصناعة)، لا يقتصر فقط على الإعانات والقروض، بل يشمل أيضًا شراء أجزاء من ملكية الشركات الكبيرة؛ مثل شركة (يونيبر) للغاز، التي يُشكل إنهيارها خطرًا على الاقتصاد برمته. ووصل الأمر مؤخرًا إلى حد قيام الدولة بوضع يدها على: 03 شركات تكرير نفط تابعة لشركة (روسنفت) الروسية على الأراضي الألمانية، رغم الانتقادات القائلة بأن خطوة كهذه تخرق مباديء اقتصاد السوق وحرمة الملكية الخاصة.
وفي هذا السياق؛ تتدخل أيضًا الدول العربية النفطية لتخفيف الأعباء عن مواطنيها؛ وإن كان ذلك بنسب متفاوتة. فبعض تلك الدول تتمكن، من خلال الارتفاعات القياسية في أسعار “النفط والغاز”؛ وما يعنيه ذلك لفوائضها المالية، من سداد ديونها واستمرار دعم السلع الغذائية الأساسية وتحمل تكاليف شرائها بأسعار مرتفعة في السوق الدولية.
كما أن موازناتها سجلت فوائض متزايدة بعشرات المليارات؛ خلال النصف الأول من العام الجاري.
ماذا عن الدول العربية غير النفطية ؟
أما في الدول العربية غير النفطية التي لا تتمتع بمثل هذه الوفرة المالية، تُشير المعطيات الحالية إلى استمرار موجة ارتفاع الأسعار بمعدلات تراوحت بين: 10 و30%.
أما التضخم فوصلت معدلاته، على سبيل المثال، إلى نحو: 9% في “تونس”، وإلى أكثر من: 7% في “المغرب”؛ وإلى نحو: 16% في “مصر”، خلال آب/أغسطس الماضي.
وفي الدول العربية التي تُعاني من الحروب والعقوبات الاقتصادية الغربية والعالمية؛ مثل: “اليمن وسوريا”، فإن الارتفاع في الأسعار ومعدلات التضخم مستمرة بالارتفاع إلى مستويات مضاعفة منذ سنوات.
ومما يُزيد الطين بِلة هو أن ارتفاع الأسعار بالنسبة للدول العربية غير النفطية يأتي في وقتٍ تُعاني فيه تلك الدول من عدم توفر احتياطيات مالية لدعم العائلات والمؤسسات والشركات وتركها لمصيرها. ويُستثنى من ذلك استمرار دعم بعض المواد الأساسية كالخبز؛ ولكن بشكلٍ أقل من السابق.
ومن أجل تجاوز الوضع الصعب الذي يتجه نحو الخروج عن السيطرة، تُحاول دول: كـ”مصر وتونس”، الحصول على مزيد من القروض لترميم ما يمكن ترميمه من أزماتها المالية.
ويبدو أن “تونس” قاب قوسين أو أدنى من توقيع اتفاق مع “صندوق النقد الدولي”؛ بقيمة تراوح بين: 02 إلى 04 مليارات دولار. بينما تتفاوض “مصر” مع أكثر من بنك إقليمي ودولي للحصول على قرض مماثل. ويدرس “المغرب” اللجوء إلى السندات الدولية مجددًا لتمويل العجز في موازنته.
هذه القروض تبدو مهمة جدًا بالنسبة لهذه الدول في هذه المرحلة الصعبة، غير أنها في غالب الأحيان لا تحل المشاكل القائمة بقدر ما تُخفف منها أو تُهديء من تبعاتها بشكلٍ مؤقت.
فتجارب دول مثل: “تونس ومصر”، خلال السنوات القليلة الماضية؛ تدل على أن مزيدًا من الاقتراض يُزيد أعباء خدمة الديون على الميزانية، لاسيما أن إنفاقها لم يُساعد على تنمية قطاعات الإنتاج المحلي وخلق قيم مضافة في الزراعة والصناعات التحويلية. ويحصل هذا في الوقت الذي ترتفع فيه فاتورة المستوردات من مختلف السلع.
ففي الحالة المصرية، على سبيل المثال، شهدت الديون تزايدًا حادًا؛ خلال العقد الماضي، ويُنتظر أن يصل إلى مستويات قياسية مع نهاية العام الحالي. وبينما لا تزال الأسواق تشعر بآثار جائحة (كوفيد-19) والتأثير المضاعف لحرب “روسيا” ضد “أوكرانيا”، فسوف تتفاقم المشكلة التي يواجهها الاقتصاد المصري.
ويُتوقع أن يستغرق التعافي سنوات، وسوف يتحمل عشرات الملايين من المصريين العبء الأكبر في ظل ارتفاع الأسعار بصورة شديدة. فبنهاية العام المالي: 2020/2021، وصل إجمالي الدين المصري إلى: 392 مليار دولار. يتضمن ذلك: 137 مليار دولار؛ هي قيمة الدين الخارجي، وهي أكبر بأربعة أضعاف من الدين في عام 2010؛ (33.7 مليار دولار). ويتضمن كذلك: 255 مليار دولار؛ هي قيمة الديون الداخلية، وذلك وفقًا لـ”البنك المركزي المصري”، وهو ما يُعادل تقريبًا ضعف الدين المحلي في 2010.
إلى أين يتجه جنون الأسعار إذاً ؟
مع عدم ظهور مؤشرات على قرب نهاية الحرب في “أوكرانيا”، بل يبدو المُرجح أكثر هو دخولها مرحلة تصعيد جديدة على الأصعدة السياسية والعسكرية وعلى صعيد العقوبات الاقتصادية المتبادلة، لا يتوقع أحد انفراجًا قريبًا لا في أسواق الطاقة ولا على صعيد ارتفاع الأسعار.
وهناك عوامل أخرى تُفاقم من الأزمة وتُلقي مزيدًا من الكآبة على مستقبلها في المدى القصير والمتوسط، أبرزها استمرار الانقطاعات في سلاسل التوريد، وارتفاع أجور النقل والتأمين بنسب وصلت إلى أكثر من: 400%.
وما يعنيه ذلك هو ترجيح دخول اقتصاديات الكثير من الدول في مرحلة ركود لا أحد يعرف مدتها ولا حجم الخسائر الناتجة عنها.
وفي ظل حالة كهذه لا غنى للدول العربية، وبخاصة غير النفطية منها، عن إعادة النظر بشكل جذري في نموذج تنميتها الحالي برمته على أساس إعطاء الأولوية لمشاريع الإنتاج المحلي الخاصة بالسلع الأساسية؛ وعلى رأسها “القمح والبقوليات” وبقية الأغذية والأدوية.
لا تكمن ميزة هذه المشاريع في توفير الأمن الغذائي وحسب، بل أيضًا في أن تكاليف إقامتها أقل بكثير من مشاريع كثيرة في البنى التحتية وغير التحتية يمكن تأجيلها إلى حين.
وفي هذا السياق؛ تُعتبر خطط “تونس” الحالية لتطوير زراعة ذكية وتحقيق الإكتفاء الذاتي من إنتاج “القمح” في المواسم القادمة؛ خطوة أولية في الاتجاه الصحيح. أما في دول: كـ”مصر”، فقد حان الوقت لإدخال مزيد من التصحيح على السياسة الزراعية.
ففي بلاد “النيل” يتم سنويًا ضخ أموال كبيرة في مشاريع زراعية موجهة للتصدير أكثر منها لتوفير احتياجات السوق المحلية، حسب “منظمة الأغذية والزراعة”؛ التابعة لـ”الأمم المتحدة”؛ (فاو). والغريب أن ذلك يحصل في وقتٍ يُكافح فيه صغار المزارعين من أجل البقاء دون تلقي دعم من الدولة. والجدير ذكره أن هؤلاء يُنتجون نحو: 50% من المحاصيل الحقلية الموجهة إلى السوق المحلية؛ حسب المنظمة الدولية.
ودون تحرك سريع وإعادة نظر في السياسات الاقتصادية الحالية، لا توجد مؤشرات على أن الجنون الحالي في الأسعار قد يتراجع قريبًا، وهو ما يُمثل خطورة بالغة على استقرار الأوضاع في تلك الدول، بحسب تقرير لوكالة (بلومبيرغ) الأميركية؛ عنوانه: “أسعار الغذاء المرتفعة تدفع فقراء العالم العربية لنقطة الإنهيار”.