وكالات – كتابات :
نشرت مجلة الـ (إيكونوميست) تقريرًا يتناول كيفية التعامل مع الحُكَّام المستبدِّين، وخلُص إلى أن السياسة الخارجية التي يتبعها الغرب تسعى إلى أن تكون أخلاقية، ولكن غالبًا ما ينتهي بها المطاف دون أن تُحقِّق نتائج مؤثِّرَة.
أسس وطيدة..
يُشير التقرير في بدايته إلى أنه لمدة: 15 عامًا تقريبًا بعد سقوط “الاتحاد السوفياتي”؛ عام 1991، بدا أن السياسة الخارجية الغربية ترتكز على أسس وطيدة؛ إذ طغت القيم الليبرالية، بما فيها الديمقراطية والأسواق المفتوحة وحقوق الإنسان وسيادة القانون – على الشيوعية.
وكانت “أميركا”، القوة العظمى الأولى والأوحد في العالم، تتمتع بالنفوذ الذي يُمكِّنها من فرض هذه القواعد الأخلاقية على المتطرفين والطغاة. وكان لهذا: “الحب القاسي” ما يُبرِّرَه؛ إذ أثبت التاريخ أن القيم الغربية هي العلاج الناجع لإحلال السلام وتحقيق الإزدهار والتقدم، وفق مزاعم المجلة.
وبعد مرور 15 عامًا أخرى، غرقت السياسة الخارجية الغربية في مستنقع الفوضى. وحتى نعرف سبب ذلك، دعونا ننظر إلى تصرُّفات ولي العهد السعودي؛ “محمد بن سلمان”. وقد استعرض العدد الصيفي من مجلة الـ (إيكونوميست)، الذي ضمَّ ملفات شخصية وتقارير مطولة، صورة متعمقة لولي العهد السعودي، توضح كيف تآكلت الركائز الثلاث التي ترتكز عليها السياسة الخارجية الغربية، وهي: القيم والقوة والمصير التاريخي.
وقد اتضح أن الحسابات الأخلاقية محفوفة بالمخاطر. فوفقًا للتقرير الشخصي؛ (البروفايل)، الذي نشرته المجلة، يميل ولي العهد إلى العنف وغرابة الأطوار وقمع الخصوم. وآية ذلك أن أصابع الاتهام وجهت إليه في مقتل كاتب العمود في صحيفة (واشنطن بوست)؛ “جمال خاشقجي”. لكنه برغم ذلك، يسعى إلى تحديث بلاده، وتمكَّن من تحرير المجتمع السعودي وروَّض رجال الدين، ومنح السعوديات حريات جديدة في المملكة. وحتى إذا كنت تشك في حماسة ولي العهد للإصلاح، فينبغي أن تأخذ في اعتبارك أن “السعودية” تُنتج نفطًا قد يُساعد “أميركا” وحلفاءها على مواجهة رجل أكثر خطورة بحجم؛ “فلاديمير بوتين”؛ كما تدعي المجلة.
نفاق السياسة الأخلاقية..
وفق التقرير، يُثبت ولي العهد السعودي أن القوة الأميركية أصبحت أقل نفوذًا مما كانت تبدو عليه قبل 15 عامًا. إذ تربط “السعودية” علاقة وثيقة بـ”أميركا”؛ منذ عام 1945، ولكنَّ ولي العهد السعودي لطالما تجاهل؛ “جو بايدن”، رافضًا الرد على مكالماته الهاتفية، وأقام بدلًا من ذلك علاقات ودِّية مع “روسيا” الحازمة و”الصين” الصاعدة.
وتضطلع “السعودية” بدور رئيس في المنطقة؛ التي حاولت “أميركا”: “إصلاحها” من خلال غزو “العراق”، وعلى الرغم من أن “واشنطن” وحلفاءها لا يزالون يتمتعون بقوة هائلة، فقد أدت هذه الحرب إلى إضعاف رغبة الناخبين في قبول تكليف قوات بلادهم بمسؤولية الشرطة العالمية. وهذا الإحجام متفهم؛ إذ أظهرت حروب الصحراء عدم إمكانية إجبار الناس على تبني الليبرالية بقوة السلاح.
يُلفت التقرير إلى أن التاريخ يُظهر وجهه القبيح مجدَّدًا؛ إذ يعتقد ولي العهد السعودي، الذي وصفته المجلة: بـ”الشاب المتهور”، أنه يستطيع تحقيق مستويات الازدهار التي حقَّقها الغرب دون تحمل مؤونة الديمقراطية وحقوق الإنسان. لكن برغم ذلك، وفي ظل هذا الحكم الاستبدادي – على حد وصف المجلة – أحيا “غاستين بيبر”؛ (مغني موسيقى البوب الكندي)، حفلًا غنائيًّا في “السعودية”، ونظَّمت المملكة عروض: (مونستر غام) الرياضية لتصادم السيارات العملاقة.
وولي العهد السعودي ليس الوحيد الذي يتبع هذا النهج. فها هي “الصين” تؤكد مزايا حقوق الإنسان: “التي تتمحور حول الأشخاص”، والتي تمنح الأولوية لإرساء السلام وتحقيق التنمية الاقتصادية قبل إجراء الانتخابات ومنح حرية التعبير. وها هو السيد “بوتين” يغزو “أوكرانيا”، فيما يمكن النظر إليه بوصفه حربًا يُشنُّها نظام يسيطر عليه نوع من الفاشية الروسية ضد القيم التنويرية؛ كما يدعي التقرير.
وعندما يُناشد قادة الغرب الدول الواقعة في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية؛ للدفاع عن النظام الدولي من خلال إدانة الإجراءات التي يتخذها “بوتين”، يُعرب كثيرون عن نفاد صبرهم حيال نفاق زعماء الغرب الذين لم يطرف لهم جفن وهم يغزون دولًا أخرى لمجرد أن ذلك يصب في مصلحتهم.
رؤية واضحة..
وينوِّه التقرير إلى أن مجلة الـ (إيكونوميست) لم تفقد ثقتها في المؤسسات التي خرجت من رحم عصر التنوير، ويؤكد أيضًا أن القيم الليبرالية ذات طابع عالمي، بيد أن الإستراتيجية التي يتبعها الغرب للترويج لرؤيته العالمية باتت مشوشة، ولذا تحتاج “الولايات المتحدة” وحلفاؤها إلى صقل رؤاهم لتُصبح أوضح، ويجب عليهم الموازنة بين الأمور المرغوبة والممكنة. وفي الوقت نفسه، يجب أن يتمسكوا بالمباديء التي تحفظهم من سخرية “بوتين” وإدعاءاته المجافية للحقيقة. تعترف المجلة بأن هذا الكلام أشبه بنصيحة لتحقيق الكمال، لكنها تأمل برغم ذلك أن تؤتي ثمارها.
ويخلص التقرير إلى أن أفضل طريقة تُساعد زعماء الغرب على تفادي تهم النفاق هي: عدم الدفاع عن مواقف أخلاقية لا يمكنهم التمسك بها. وتُجدر الإشارة إلى أن “بايدن” تعهَّد؛ أثناء حملته الانتخابية، بأنه سيتعامل مع “السعودية” على أنها: “منبوذة”، ولكنَّه سافر إلى “جدَّة”؛ الشهر الماضي، وصافح ولي العهد السعودي بقبضة يده، ولا غروَ أن تُلاحقه الإدانة على نطاق واسع بسبب: “نفاقه وجُبنه الأخلاقي”. وفي الحقيقة، يتمثَّل خطأ “بايدن” في تعهُّده الهادف إلى إرضاء الجميع، وهو ما يُشكَّل دائمًا عبئًا ثقيلًا طيلة الفترة الرئاسية.
ووفقًا للتقرير، يحتاج زعماء الغرب إلى أن يتحلَّوا بالصدق أثناء الحديث عن حجم تأثيرهم الحقيقي؛ إذ لم يعُد الافتراض القائل بأن العالم يحتاج إلى الغرب أكثر من احتياج الغرب إليه؛ افتراضًا صحيحًا في الوقت الحالي. والدليل على ذلك أن إنتاج “مجموعة الدول الصناعية السبع”؛ عام 1991، بلغ: 66% من إجمالي الإنتاج العالمي، أما الآن فلا يتجاوز إنتاجها: 44%.
وقد أدركنا بعد فوات الأوان أن الغرور جعلنا نظن أن مجموعة من المحامين المدافعين عن حقوق الإنسان وخبراء اقتصاد السوق قد يتمكنون من علاج الأسقام التي تُعاني منها الأنظمة الديكتاتورية. صحيح أن الزعماء يجب أن يتخذوا موقفًا واضحًا بشأن ما هو صواب وما هو خطأ، لكن عندما يفكرون في فرض عقوبات على مرتكبي الأفعال غير المشروعة، يُجدر بهم أن يُقَيِّموا النتائج المحتملة المترتبة على ذلك بدلًا من التظاهر بالفضيلة.
يطرح التقرير مبدأ آخر يتمثَّل في أن إجراء المباحثات عادة ما تُحقق نتائج طيبة. ويرى البعض أن مجرد الظهور على الساحة يُضفي شرعية. وفي الواقع، يؤدي هذا الأمر إلى تكوين وجهات نظر ثاقبة، ويُتيح فرصة لممارسة التأثير، فضلًا عن حل المشكلات المستعصية، على سبيل المثال: من خلال إبرام اتفاقات تتعلق بالمناخ، أو تصدير الحبوب من “أوكرانيا”، أو مطالبة (حركة الشباب) – التابعة لتنظيم (القاعدة) – بأن تُساعد في إنقاذ “الصومال” من المجاعة.
وكان “بايدن” محقًّا – في نظر المجلة – عندما أجرى مباحثات مع ولي العهد السعودي، كما كان الرئيس الفرنسي؛ “إيمانويل ماكرون”، مُحقًّا عندما أجرى مباحثات مع “بوتين”. ويحتاج كل زعماء الغرب إلى إجراء مباحثات مع الرئيس الصيني؛ “شي جين بينغ”.
ويُلمح التقرير إلى بعض الطرق التي تُساعد في الحفاظ على نزاهة المباحثات؛ إذ يمكنك أن تُعرب عن موقفك من حقوق الإنسان أثناء عقد الاجتماعات، كما يمكنك تلطيف لهجة حديثك، كما فعل “ماكرون” بعد أن ارتكبت القوات الروسية جرائم حرب، ويمكنك أيضًا أن تُصِرَّ على الحديث مع المعارضة والمنشقين. وفي هذه المواقف وغيرها، ينبغي أن يُنسِّق زعماء الغرب معًا، حتى تقل احتمالية استهداف “الصين” لهم عن طريق سياسة: “فرق تسُد” فيما يتعلق بمعاملتها للمنشقين الذين يُعيشون خارج البلاد، على سبيل المثال، أو اعتداءاتها على مسلمي “الإيغور” في إقليم “شينغيانغ”.
والمبدأ الأخير الذي يطرحه التقرير هو: الاعتراف بأن السياسة الخارجية – على غرار كل السياسات الحكومية – تنطوي على موازنات. وغني عن القول إن معظم البلدان ترى أن هذا الأمر أوضح من أن يحتاج إلى تأكيد. ولكن الغرب يعتقد أن بإمكانه الفوز بكل شيء.
ومثل هذه الموازنات ليس حتميًّا أن تكون قذرة. فبعد أن ضمَّت “روسيا”؛ شبه جزيرة “القِرم”، عام 2014، كان من الممكن أن يؤدي التركيز الأكثر وضوحًا على النتائج إلى أن تتخذ بلدان “حِلف شمال الأطلسي”؛ الـ (ناتو)، إجراءات أكثر فاعلية من مجرد فرض عقوبات ضعيفة تُريح ضمائرها. ومن المؤسف أن محاولة “بايدن” الساذجة لتقسيم العالم إلى أنظمة ديمقراطية واستبدادية تُزيد من صعوبة الموازنات الحكيمة.
وانتهى التقرير إلى أن الغرب اكتشف أن محاولة فرض قيمه ببساطة على الحُكَّام المستبدّين، أمثال ولي العهد السعودي، لن تُحقق نتائج مرضية في نهاية المطاف. وبدلًا من ذلك، ينبغي الجمع بين الضغط والإقناع، والصراحة والصبر. صحيح أن ذلك قد لا يكون مُرضِيًا بقدر الإدانات الغاضبة والدعوات إلى المقاطعة وفرض العقوبات الرمزية، ولكنَّه من المُرجَّح أن يُثمر بعض النفع.