خاص : بقلم – مصطفى السعيد :
كاتب صحافي ومحلل سياسي مصري
راجت نظرية “التمثيلية” المبسطة إلى درجة السطحية حول الهزيمة الأميركية في “أفغانستان”، التي تقول إن ما حدث كان تمثيلية واتفاقًا بين “الولايات المتحدة” وحركة (طالبان)، حتى تعكر (طالبان) صفو الهدوء، وتقلق خصوم “أميركا”، من “الصين” إلى “روسيا” و”إيران”، وكأن (طالبان) لم تكن في الحكم قبل الغزو الأميركي ومعها (القاعدة) وباقي الجماعات المتطرفة، فلماذا تكبدت “أميركا” كل هذا العناء في الغزو والضحايا وإنفاق أكثر من ترليوني دولار، وأن تخرج بهذه الطريقة المخزية لمجرد أن تُعيد (طالبان) التي كانت تحكم “أفغانستان” ؟
هل كانت “أفغانستان” أثناء الاحتلال الأميركي أقل خطرًا على خصوم “أميركا” ؟ بالطبع لا، فقد كان يجري نقل الدواعش والإرهابيين إلى “أفغانستان”، وكانت “أميركا” تطل على أخطر خصومها عن قرب مباشرة، من “الصين” إلى “روسيا” و”إيران”، و”طريق الحرير الجديد”، ولا يمكن لـ (طالبان) أن تكون أشد خطرًا من الوجود الأميركي القادر على نقل واستدعاء أي جماعات متطرفة ويقدم لها العون.
وإذا كانت (طالبان) أكثر خطرًا فلماذا غزت “أميركا”، “أفغانستان”، وأطاحت بـ (طالبان)، وكان بمقدورها دعم (طالبان) بالسلاح والمال لتُثير قلق جيرانها، خاصة “الصين” و”روسيا” و”إيران” ؟ ولماذا أنشأت جيشًا قوامه: 300 ألف جندي، ودربتهم وزودتهم بالأسلحة الحديثة ؟ وجاءت بمتعاقدين لمعاونة قواتها و40 ألف أفغاني قالت إنهم مترجمين ؟ ولماذا رحبت “روسيا” و”الصين” و”إيران” عمليًا بخروج “أميركا”، وإن كانت أعربت عن قلقها من حكم (طالبان)، وأخفت شماتتها من خروج الأميركان، لماذا اتفقت الجماعات الموالية لـ”إيران” من: “الهزارة” وقوات “فاطميون” وغيرها على عدم مواجهة (طالبان) ؟ وعقدت “الصين” و”روسيا” و”إيران” اجتماعات مطولة مع (طالبان) ؟ والأهم لماذا خرجت “أميركا” ودول الـ (ناتو) بهذه الطريقة المخزية، ورضيت بأن تظهر مهزومة مذعورة، وتغلق سفاراتها على عجل، وتجلي كل رعاياها، بل تغلق السفارات تمامًا ؟ ألم يكن هناك سيناريو أفضل وأقل إهانة للأميركان وحلف الـ (ناتو) ؟
هناك أسباب كثيرة لهزيمة “أميركا” والـ (ناتو) وعودة (طالبان)، منها أن الأفغان لم يشعروا بأي تحسن أثناء الاحتلال الأميركي لبلدهم، فلا بنية تحتية ولا مشروعات، ولم يستفد من الاحتلال إلا حفنة من المتمولين والمرتزقة، لكن الأهم هو خسارة “أميركا” لـ”باكستان”، التي شعرت بالقلق من التقارب “الأميركي-الهندي”، و”الهند” أشد خصوم “باكستان”، وبينهما عداء مروع، لكن “أميركا” تحتاج “الهند” لمواجهة النفوذ الصيني، ومن هنا كان الدعم الباكستاني الخفي والمعلن لـ (طالبان)، والمشروعات الاقتصادية المشتركة بين “باكستان” وكل من “إيران” و”الصين”، والسبب المباشر هو أن (القاعدة) استمرت تسيطر على الريف الأفغاني، واقتصر الاحتلال وحكومته الموالية في المدن الرئيسة فقط.
لقد كان احتلال “أميركا” لـ”أفغانستان”؛ جزءًا من خطة واسعة، تحاصر “إيران” من الشرق والغرب بغزو “العراق”، وتسقط “إيران” ثم “سوريا” وتُسيطر على وسط آسيا، ثم تضغط على “روسيا” من الجنوب والغرب، للإطاحة بحكم “بوتين”، وبالتالي تحتوي “الصين” وتحاصرها من كل اتجاه، لكن هذه الخطة فشلت تمامًا، ولم يُعد للقوات الأميركية المحاصرة في المدن الأفغانية؛ إلا دور محدود لا يتناسب مع حجم الخسائر في “أفغانستان”، لهذا كان طرح مشروع الانسحاب، لكن كان مخططًا أن يكون انسحابًا منظمًا، يفرض على (طالبان) اقتسام السلطة مع حكومة موالية لـ”أميركا”، فتحقق أهدافها دون نفقات كبيرة، لكن هذه الحكومة وجيشها إنهارًا بسرعة لم تكن في الحسبان، واعترف “البيت الأبيض” بأنه أساء التقدير، فكان الانسحاب العشوائي والمهين وغير المنظم للأميركان.
إن نظرية “التمثيلية” شائعة جدًا في القراءات المبسطة للأحداث، والتي لا تكلف نفسها البحث في الجذور والتناقضات، فترى أن “عبدالناصر” مثل “السادات”؛ وأن “ديغول” مثل “بينوشيه” لأنهم جميعًا من العسكر، وأن “روسيا” لا تختلف عن “أميركا” لأن النظامين رأسماليين، وأن “إيران” و(حزب الله) مثل “السعودية” و”الإخوان”؛ لأن كلهم إسلاميون، وأن صراع “إيران” مع “أميركا” تمثيلية، وأن العداء بين المقاومة اللبنانية والكيان الصهيوني تمثيلية، وأن “سوريا” تحمي حدود “إسرائيل”، وأن ما يحدث في “تونس” نسخة لما حدث في “مصر”.. إنها نظريات التبسيط الإنطباعي المخل والمبسط لدرجة السذاجة، لكنها مريحة لمن يطلقونها أو يصدقوها، لأنها لا تحتاج أي عناء، وعلينا بذل مجهود أكبر في قراءة أكثر تأنيًا لما يحدث حولنا.. عذرًا على بعض العبارت القاسية.