خاص : ترجمة – لميس الشرقاوي :
تُسيطر أهوال جائحة الفيروس التاجي، أو ما يُعرف باسم فيروس “كورونا” المُستجد، على “إيطاليا” التي استحوذت على لقب بؤرة المرض بعدما تراجعت أعداد الحالات الجديدة المكتشفة في بؤرته الأولى، “الصين”.
أكثر من 6000 شخص توفوا في “إيطاليا”، خاصة في مدينة “بيرغامو”، الواقعة على المنحدرات الجنوبية لـ”جبال الألب”. في مشهد تقشعر له الأبدان، تعمل محارق الجثث في “إيطاليا” على مدار الساعة؛ ورغم ذلك فهي غير قادرة على استيعاب العدد المتفاقم يوميًا. واضطر الجيش الإيطالي مؤخرًا نقل الجثث من مدينة “بيرغامو” لإحراقها في مدن أخرى. وفي بعض المناطق، تُدفن الجثث بسرعة أثناء مباركة الكهنة لكل واحدة فيهم على استعجال قبل الانتقال للأخرى.
رصدت صحيفة (دير شبيغل) الألمانية، في نسختها الإنكليزية، أهوال ما يتعرض له عائلات ضحايا الـ”كورونا”، حيث تحظر الحكومة الجنازات التقليدية؛ كما تحاول “منظمة الحماية المدنية” في البلاد، (Protezione Civile)، مراقبة مناطق المدافن للتأكد من أن العائلات لا تقترب من بعضها البعض أو تتبادل العناق !؛ كما لا يمكنهم حضور الجنازات على أي حال لأنهم – كعائلة أو أقرباء المتوفي – يخضعون للحجر الصحي في المنزل.
وفيما يلي تستعرض الصحيفة الألمانية شهادات من مصادر مقربين لعائلات من ضحايا الفيروس اللعين..
“كل شخص لديه أصدقاء أو عائلة ماتوا بسبب كورونا”..
فقدت “ميشيلا زانشي”، (34 سنة)، عمها بسبب فيروس “كورونا”؛ وهي تعيش في “زوغنو”، بلدة صغيرة يسكنها 9000 نسمة ليست بعيدة عن “بيرغامو”. يموت ستة إلى سبعة أشخاص من “كورونا” في المدينة كل يوم. عادة، تدق أجراس الكنيسة عندما يموت شخص ما، ولكن نظرًا لعدد الأشخاص الذين توفوا، بدأ الكاهن المحلي يدق الجرس مرة واحدة فقط في اليوم.
تقول “زانشي”: “إن كل شخص في إيطاليا يعرف أصدقاء أو أفراد من عائلته ماتوا بسبب جائحة الكورونا؛ كما فعل الفيروس مع عمي، أنجيلو لازاريني، كان يبلغ من العمر 80 عامًا. نحن مضطرون للجلوس في المنزل بينما يموت أحبائنا. لم نكن قادرين على أن نكون مع عمي وقت إعيائه الشديد بالمرض. لم نتمكن حتى من الزيارة. قبل وقت قصير من وفاته، كان لدى الطبيب أخبار جيدة لنا، قائلاً إن أنجيلو يمكن أن يتنفس مرة أخرى دون مساعدة جهاز تنفس. ولكن بعد يوم واحد، مات”.
واستكملت: “لأن محرقة بيرغامو مكتظة، تم حرق عمي على بُعد 200 كيلومتر في بادوفا.ثم يُعاد رماد الموتى إلى ديارهم، حيث يتم دفن الرُفات. يُسمح فقط لأفراد العائلة الأقرب بالتواجد عندما يقوم الكاهن بالطقوس الأخيرة. لا يوجد دفن كريم، ولا موكب جنازة”.
بلا وداع..
الصيدليات أصبحت خاوية من أي وسائل أو إمدادات طبية للتطهير؛ لا يوجد أقنعة للوجه ولا قفازات ولا كحول للتطهير. في كل أرجاء المدينة، يمكن سماع صفارات سيارات الإسعاف طوال اليوم.
حتى الكهنة والقساوسة لم يسلموا من لعنة الموت بـ”الكورونا”، حيث توفي ستة عشر كاهنًا في “أبرشية برغامو”، منذ الأول من آذار/مارس، مع وجود 20 آخرين حاليًا في المستشفى. بينما يذهب الأصحاء والناجين منهم إلى عائلات الضحايا؛ ويُحاول “مونسنيور غوليو ديلافيت”، الأمين العام لأبرشية بيرغامو، التواصل مع جميع ذوي حالات الوفاة في المدينة.
تحاول الأبرشية في “برغامو” الحفاظ على البقية المتبقية من رجال الدين، ولذلك أقرت بالسماح للأطفال والأحفاد يُباركون آبائهم وأجدادهم المرضى طالما بقوا في المنزل حتى لا يُصاب الكهنة بالفيروس أو ينشروه عن غير قصد.
“لدينا مشكلة كبيرة مع الموت. يتم عزلهم في المستشفى وبعيدًا عن الحدود. لا يسمح لكهنوت بزيارتهم. وعائلات المرضى في الحجر الصحي في المنزل، لذلك يمكن للكهنة لدينا فقط زيارتهم وهم يرتدون ملابس واقية. هذا التحذير هو لفتة الحب الأخوي: وإلا فإن كهنتنا قد يُصابون أو ينشرون الفيروس عن غير قصد. عندما يموت شخص ما في المنزل، يمكن للكاهن الذي يرتدي قناع وجه وقفازات أن يؤدي نظريًا الشعائر النهائية. ولكن هذا نادرًا ما يحدث”.
وفي المستشفيات، الموتى يرون فقط الأطباء والممرضات في بدلات واقية. في ساعاتهم الأخيرة، لا يمكنهم حتى النظر إلى أي شخص في وجهه. الجميع يرتدون أقنعة. لا يمكن إجراء مكالمات هاتفية في وحدة العناية المركزة.
أخبر بعض الأطباء أن مرضى الـ”كورونا” يتوسلون إليهم في النزع الأخير بتلقي الطقوس الأخيرة؛ لأنه لا يُسمح لأي شخص آخر بالمجيء لرؤيتهم. ولذلك الآن، الطاقم الطبي لم يُعد مسؤولًا فقط عن العلاج، ولكن أيضًا عن السلامة الروحية والنفسية.
عندما يعلم أحد أفراد عائلة ما بمرض ذويهم، غالبًا ما تسير الأمور على هذا النحو: يتصل أحدهم بـ”الصليب الأحمر”؛ ثم يتم توصيل المريض بواسطة سيارة إسعاف. لا يعرف أفراد الأسرة غالبًا المستشفى الذي نقلت إليه والدتهم أو والدهم. ثم، في مرحلة ما، يتلقون مكالمة بخبر وفاة أحد أحبائهم ويُقال لهم أن النعش المختوم سيتم تسليمه إلى هذه المشرحة أو تلك أو يتم إخبارهم بمكان دفن الضحية بالفعل. لا يستطيع الناس حتى رؤية ذويهم بعد وفاتهم. إنهم فقط يختفون وهذا أمر في حد ذاته مروع للغاية. وردًا على ذلك، قامت “أبرشية برغامو” بإنشاء خط هاتفي ساخن، حيث يمكن لـ 70 من الكهنة والراهبات والعلمانيين وعلماء النفس أن يقدموا التعاطف والدعم لذوي قتلى الـ”كورونا”.
في 4 آذار/مارس، اتصل “غوزيبي أسيربوني”، (84 عامًا)، الذي يعيش في قرية “فاندونو” الجبلية، التي ليست بعيدة عن بحيرة “كومو”، بطبيب عائلته. أخبر الطبيب أنه كان يُعاني من حمى عالية لعدة أيام وأنه يُريد أن يجري اختبار “كورونا”. يقول ابن أخيه، “فابيو لاندريني”، الذي يسميه بـ”مرض العزلة”؛ أن صعوبة فقدان عمه كانت في عدم سنوح فرصة وداع العائلة له. “لم يكن مسموحًا لنا حتى أن نقول وداعًا لعمي. تم حرقه. بدون دفن. كل ما حصل عليه هو الطقوس الأخيرة”.
وفي ظل الأحداث المتسارعة وإشتغال الأطباء على مدار الساعة بحالات هنا وهناك، يصعب على أهل المتوفي معرفة أي تفاصيل عن موعد الوفاة تحديدًا.
“عدد الجثث في أسبوع واحد يُعادل عدد الوفيات في السنة العادية”..
“فيتوريو ناتانغيلي”، هو مدير دار جنائز في “روما”، يُراقب بقلق ما يمر به زملاؤه في شمال “إيطاليا”. لكن حياته اليومية تغيرت بشكل كبير.
يقول “ناتانغيلي” إن الجنازات من النوع العادي أصبحت ممنوعة، حيث يُحظر فتح الصناديق، وأداء خدمات الكنيسة، ومن ثم طقوس المقبرة. على مدى الأسابيع الثلاثة الماضية، لم يُعد أي من ذلك ممكنًا. وأكد أن السلطات حددت قواعد دقيقة لإتباعها قبل إحضار المتوفي إلى المقبرة.
على عكس الماضي، أصبحت تتوجه سيارات دفن الموتى مباشرة إلى المشرحة، ثم يُنقل النعش مباشرة إلى القبر بدون احتفال، مع واحد أو إثنين فقط على الأكثر من الأقارب. بمجرد أن يُنزل النعش إلى القبر، يُغادر الجميع على الفور. تم إغلاق المقابر في جميع أنحاء “إيطاليا”، مع عدم السماح للعائلات بزيارة مقابر أسرهم حتى بعد الدفن.
ويوضح مدير دار الجنائز أن زملاؤه في مناطق من الشمال اتصلوا به لتقديم العون؛ نظرًا لصعوبة ما يمرون به في الوقت الحالي.