19 يونيو، 2025 11:54 م

من الارهاصات الثورية إلى الحرب الأهلية المكتومة .. “السودان” يضل طريقه !

من الارهاصات الثورية إلى الحرب الأهلية المكتومة .. “السودان” يضل طريقه !

وكالات – كتابات :

كان التحول الديمقراطي في “السودان” هو الهدف والحلم لغالبية السودانيين؛ بعد الإطاحة بـ”عمر البشير”، وظل هذا الأمل يتأرجح صعودًا وهبوطًا على مدى 03 سنوات، فهل قضى القتال بين الجيش و”الدعم السريع” على هذا المسّار نهائيًا ؟

كانت الاشتباكات قد اندلعت، السبت 15 نيسان/إبريل 2023، بين وحدات من الجيش السوداني موالية لرئيس “مجلس السّيادة” القائد العام للقوات المسلحة؛ الفريق أول ركن “عبدالفتاح البرهان”، و”قوات الدعم السريع”؛ بقيادة نائب رئيس “مجلس السّيادة”؛ الفريق أول “محمد حمدان دقلو”، المعروف باسم: “حميدتي”.

واندلعت هذه الاشتباكات؛ وهي الأولى منذ أن اشترك “البرهان” و”حميدتي” في الإطاحة بالرئيس السابق؛ “عمر البشير”، عام 2019، بسبب خلاف حول دمج “قوات الدعم السريع” في الجيش، في إطار المرحلة الانتقالية نحو الحكم المدني، والتي كان انقلاب عسكري، في تشرين أول/أكتوبر 2021، قد أعادها للمربع صفر.

لكن السودانيين لم يصلوا إلى هذه اللحظة الدموية من فراغ، فالصراع على السلطة بين “البرهان” و”حميدتي” تحديدًا لم يبدأ بعد الإطاحة بـ”عمر البشير” مباشرة، حيث كان الرجلان ضمن معسكر واحد يراه السودانيون معاديًا للمسّار الديمقراطي أو الانتقال إلى الحكم المدني.

رحلة البحث عن الديمقراطية في “السودان”..

لم يتوقف سّعي السودانيين للتمتع بحكم مدني ديمقراطي بعيدًا عن الحكم العسكري والسلطوي، الذي ميز نظام الرئيس السابق؛ “البشير”، على مدى 30 عامًا، ومرت رحلة السّعي هذه بمراحل متعددة خلال السنوات الثلاث الماضية، لكن المؤكد هو أن حرب الشوارع المسّتعرة حاليًا بين وحدات الجيش وميليشيات “الدعم السريع”، في “الخرطوم” وباقي مدن “السودان”، تُمثل محطة هي الأخطر ليس فقط في رحلة البحث عن الديمقراطية، بل في تاريخ ومصير البلاد ككل.

لم تنفجر الأمور في “السودان” فجأة بطبيعة الحال، فالتحشّيد بين الجانبين كان مستمرًا منذ أسابيع، وتبادل الاتهامات كذلك، وبالتالي فإن تحول الصراع على الكرسي إلى اقتتال وحرب شوارع في “الخرطوم” وباقي مدن “السودان” لم يكن إلا مسألة وقت، فالمتصارعان على السلطة قائد الجيش وقائد ميليشيات عسكرية.

لكن هذه المحطة الدموية سبقتها محطات أخرى كثيرة ومتنوعة على طريق الصراع السياسي، كانت بدايتها يوم 19 كانون أول/ديسمبر 2018، وبالتحديد من مدينة “عطبرة” الشمالية، حين تجمع مئات المواطنين للاحتجاج على ارتفاع أسعار الخبز.

في ذلك الوقت كان نظام “عمر حسن البشير”؛ هو المتحكم في البلاد منذ أكثر من 29 عامًا، وسرعان ما انتشرت عدوى المظاهرات من “عطبرة” إلى العاصمة؛ “الخرطوم”، ومدن أخرى، وتحول المئات إلى عشرات الآلاف، فالأزمة الاقتصادية كانت خانقة ولا تتوقف فقط عند حدود رفع أسعار الخبز.

الرد جاء أمنيًا بطبيعة الحال، وأطلقت قوات الأمن قنابل الغاز المُسّيل للدموع، العنوان الأبرز لفض التظاهرات والاحتجاجات في العالم العربي، إضافة إلى إطلاق الرصاص بأنواعه، مطاطيًا كان أو رصاصًا حيًا قاتلاً.

واستمرت الاحتجاجات في “السودان”؛ لمدة 04 أشهر تقريبًا، وفشلت محاولات نظام “البشير” في قمعها، وفي يوم 06 نيسان/إبريل 2019، بدأ مئات الآلاف من المتظاهرين اعتصامًا أمام مقر الجيش في “الخرطوم”، وبعد خمسة أيام من بداية الاعتصام قرر الجيش السوداني عزل الرئيس؛ “عمر البشير”، واحتجازه، واعتبر ذلك اليوم خطوة مهمة على طريق التحول الديمقراطي.

انتهى حكم “البشير” السلطوي الممتد لثلاثة عقود، لكن المتظاهرين واصلوا الاعتصام، مطالبين بتسّليم السلطة للمدنيين، بعد تعيّين وزير الدفاع وقتها؛ “أحمد عوض بن عوف”، قائمًا بأعمال رئيس الجمهورية، ليتنحى “عوف” عن المنصب بعد يوم واحد من شغله، ويتولى الفريق أول ركن “عبدالفتاح البرهان” المنصب، فيستمر الاعتصام والاحتجاجات.

في ذلك الوقت كان الأمل في انتزاع التحول إلى الحكم المدني من بين أنياب المؤسسة العسكرية قويًا، وكان الأمل مسّيطرًا على المشهد رغم التضحيات الكبيرة. لكن يوم 03 حزيران/يونيو 2019، شهد محطة أخرى مأساوية عنوانها: “مجزرة اعتصام القيادة”، حين داهمت قوات الأمن الاعتصام أمام مقر قيادة الجيش، ويقول مسّعفون على صلة بالمعارضة إن أكثر من: 100 شخص قُتلوا في المداهمة، لتعرف إعلاميًا بوصف: “مجزرة القيادة”، ووجهت القوى المدنية المعتصمة أصابع الاتهام لـ”قوات الدعم السريع”.

ثم جاءت أسعد لحظات هذه المسّيرة عندما وقعت (قوى الحرية والتغيير)، يوم 17 آب/أغسطس 2019، اتفاق المرحلة الانتقالية مع المجلس العسكري، ليتشكل “مجلس السّيادة” وتظهر حكومة الدكتور “عبدالله حمدوك” للنور. كان اتفاق تقاسّم السلطة مع الجيش خلال فترة انتقالية كان يفترض أن تؤدي إلى إجراء انتخابات، خطوة هامة على طريق التحول الديمقراطي بالفعل.

الانقلاب على المسّار الديمقراطي..

لكن دوام الحال من المحال، إذ استيقظ السودانيون يوم 25 تشرين أول/أكتوبر 2021، على حملة اعتقالات، شملت رئيس الوزراء؛ “عبدالله حمدوك”، وعددًا من وزرائه ومستشاريه وقادة قوى (إعلان الحرية والتغيير)، المكون المدني في السلطة الانتقالية في البلاد، ثم ألقى قائد الجيش “عبدالفتاح البرهان”؛ بيانًا في اليوم نفسه، أعلن خلاله جملة قرارات أنهت عمليًا الشراكة بين العسكر والمدنيين في البلاد.

قرر “البرهان” إقالة حكومة “حمدوك” ومديري الولايات في “السودان”، كما حل “مجلس السّيادة”، وألغى قرار حل المجلس العسكري، وجمد عددًا من مواد الوثيقة الدستورية الموقعة؛ في آب/أغسطس 2019، كانت بمثابة دستور للفترة الانتقالية في البلاد، وانفرد “البرهان” وزملاؤه في المجلس العسكري بالسلطة في البلاد. إنه انقلاب تشرين أول/أكتوبر 2021، الذي أعاد المسّار الديمقراطي في “السودان” إلى المربع الأول.

لكن العودة إلى المربع الأول تعني أن الكرة عادت مرة أخرى إلى الشارع، فخرج الآلاف يهتفون ضد العسكر، ويُطالبون بالديمقراطية والحكم المدني، وبدا واضحًا أن الأمور لن تسّتتب لقادة الانقلاب في البلاد، إلا بالعودة إلى مسّار تقاسّم السلطة مع المدنيين، وصولاً إلى الانتخابات كما كان مقررًا من قبل.

وهكذا عاد “حمدوك” إلى المشهد بعد توقيع اتفاق سياسي جديد مع “البرهان” و”حميدتي” وباقي قيادات المجلس العسكري، لكن هذا الاتفاق شق صف التيار المدني وتحول “حمدوك”، بين ليلة وضحاها، من رمز للديمقراطية في “السودان” إلى: “خائن” انضم لمعسكر الانقلابيين من قادة الجيش.

وعلى مدى شهور طويلة من الشد والجذب، استمرت الأمور على حالها تقريبًا، بين شارع ثائر ومصمم على العودة إلى المسّار الديمقراطي من جهة، وقادة عسكريين مصرين على عدم التخلي عن السلطة وامتيازاتها من جهة أخرى. وبطبيعة الحال ازداد التدخل الإقليمي والدولي فيما يحدث، وسط سعي كل طرف داخلي إلى وجود ظهير إقليمي ودولي داعم له ولمطالبه.

خلال تلك الفترة بدأت الأمور تتضح أكثر بشأن الصراع على السلطة واللاعبين الرئيسيين في هذا الصراع، وبسبب الاختلافات والخلافات بين مكونات المعسكر المدني في السودان، بدا أن المتصارعين الرئيسيين على السلطة لا ينتميان إلى المعسكر الديمقراطي بأي حال من الأحوال، والحديث هنا عن قائد الجيش ونائبه قائد ميليشيات الدعم السريع.

هل انتهى حلم الديمقراطية في “السودان” ؟

إذا اختلف المسلحون لجأوا إلى السلاح لتصفية خلافاتهم، وهذا ما حدث للأسف في السودان. فالتوصل إلى اتفاق إطاري جديد للمرحلة الانتقالية شهد تدخلات إقليمية ودولية، وأصبحت نقاط الخلاف الرئيسية لا تتعلق بالمدنيين ولا بمطالبهم ولا بالمسار الديمقراطي من الأساس، بل تمحورت حول دمج قوات الدعم السريع في الجيش، وهذا في حد ذاته أمر لافت.

هذا الصراع بشأن دمج قوات الدعم السريع في الجيش، وما إذا كان ذلك يجب أن يتم خلال عامين كحد أقصى كما كان يريد معسكر البرهان، أو 10 سنوات كما كان يريد معسكر حميدتي، كشف بوضوح أن الرجلين كانا يستعدان لمرحلة جديدة في السودان عنوانها “الديمقراطية لن تمر من هنا”، وكل منهما يرى أن هذه هي اللحظة المناسبة للتخلص من الآخر كونه المنافس الأبرز.

“مارينا بيتر”، الخبيرة الألمانية في الشأن السوداني ورئيسة جمعية “المنتدى السوداني”، ترى أن تصاعد الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع الآن أحد أسبابه هو أن حكومة مكونة من قوات عسكرية وقوى مدنية، أشبه بحكومة حمدوك، كانت قريبة من العودة للمشهد مرة أخرى، إذ كان هناك اتفاق بهذا المعنى، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وكان من المقرر ظهورها في ديسمبر/كانون الأول.

وتضيف مارينا لشبكة (DW) الألمانية أن الصراع على السلطة انحصر مؤخراً بين البرهان وحميدتي، وأصبح واضحاً أن أحدهما سيحتل أعلى منصب قيادي: “بالنسبة لنا، ممن يراقب الوضع عن كثب، وبالخصوص بالنسبة للسودانيين أنفسهم، لم يكن السؤال: ما إذا كان سيكون هناك صراع على السلطة، بل إن السؤال كان متى. فالكارثة كانت متوقعة”.

وترى الخبيرة الألمانية أنه من المستحيل أن يتحول قادة الجيوش إلى ديمقراطيين بين ليلة وضحاها، كما يعتقد البعض في الغرب: “القادة العسكريون بقدر ما يتصرفون كما لو أنهم اكتشفوا الديمقراطية فجأة، فإنهم يستخدمون هذه الإعلانات فقط لتحسين صورهم. في الأشهر القليلة الماضية، حاول حميدتي على وجه الخصوص استمالة أجزاء من السكان من خلال إدانة الانقلاب العسكري. قال بالطبع إنه كان مؤيداً للديمقراطية، لكن كل هذا لم يُقل إلا في النهاية للحصول على نقطة انطلاق أفضل في الصراع على السلطة”.

لا أحد يعرف من سينتصر في الصراع الدموي الحالي، حميدتي وميليشياته أم البرهان ووحدات الجيش التي تدعمه، كما لا يمكن الجزم بالمدى الزمني ولا الطبيعة التي سيستقر عليها هذا الاقتتال، لكن ربما يكون الشيء الوحيد المؤكد هو أن الشعب السوداني وحده هو من يدفع الفاتورة الباهظة لهذا الصراع على السلطة بين الطرفين، أما التحول الديمقراطي فيبدو أن الحلم قد تحول إلى كابوس.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة