وكالات – كتابات :
نشرت صحيفة (واشنطن بوست) تقريرًا أعدَّه، “آدم تايلور”، الصحافي المتخصص في الشؤون الخارجية، استعرض فيه تاريخ زراعة الأفيون وغيره من المخدِّرات في “أفغانستان” والإتجار فيها، لا سيما أن “أفغانستان” أستأثرت: بـ 85% من إنتاج “الأفيون”، في جميع أنحاء العالم، العام الماضي. وخلُص الكاتب إلى أن “الأفيون” أصبح المُخدِّر المُفضَّل لدى الأفغان؛ ما يطرح تساؤلات بشأن إمكانية اتِّخاذ (طالبان) إجراءات صارمة تُمكِّنَها من القضاء على زراعة “الأفيون” والإتجار فيه.
قرار صعب جدًا..
يستهل “تايلور” تقريره؛ بالإشارة إلى أنه في المرة الأخيرة التي سيطرت فيها حركة (طالبان) على “أفغانستان”؛ إزدهرت زراعة “الخشخاش” في البلاد. وفي عام 1999 – وبعد ثلاث سنوات من تأسيس الحركة لـ”إمارة أفغانستان الإسلامية” – أشارت تقديرات إلى أن إجمالي إنتاج “الأفيون” الخام في البلاد؛ بلغ نحو: 4600 طن متري، أي أكثر من ضعف كمية “الأفيون” التي أُنتِجَت في العام السابق.
وبعد مرور نحو ربع قرن لم تزل “أفغانستان” أكبر مُنتِج لـ”الأفيون” في العالم. ولكن منذ أن تولَّت حركة (طالبان) مقاليد السلطة، في “كابول”، في وقت سابق من الشهر المنصرم، صرَّح، “ذبيح الله مجاهد”، المتحدث الرسمي باسم الحركة، لوسائل الإعلام الدولية، في غير مرة؛ أن (طالبان) لن تسمح بإنتاج “الأفيون” أو غيره من المواد المُخدِّرة داخل دولتها.
“أفغانستان لن تكون من بين البلدان التي تجري فيها زراعة الأفيون بعد الآن”، هكذا قال “مجاهد”، في مؤتمر صحافي عُقِد، في 17 آب/أغسطس المنصرم، بعد مرور يومين من سيطرة الحركة على العاصمة.
ويرى “تايلور”؛ أن ذلك الإجراء، (عدم زراعة الأفيون في البلاد)، لن يكون سهلًا، وآية ذلك أن “أفغانستان” أستأثرت: بـ 85% من إنتاج “الأفيون” في جميع أنحاء العالم، في العام الماضي، وتتجاوز هذه النسبة نِسَب المُنتجين المنافسين مثل: “ميانمار والمكسيك”، وفقًا للبيانات الصادرة عن “الأمم المتحدة”. كما اتُّهِمَت البلاد بالاضطلاع بدور كبير في الإمدادات العالمية بـ”القنب الهندي” و”الميثامفيتامين”.
وعلى الرغم من إتِّباع (طالبان) نهجًا إسلاميًّا مُتشدِّدًا وتطبيقها الصارم للقواعد الدينية، أقامت الحركة، منذ أمدٍ بعيد علاقة تعايشية مع الإتجار في “الأفيون”، الذي يمكن معالجته معالجة كيميائية لإنتاج مواد مُخدِّرَة مثل: “الهيروين”. وفي تسعينيات القرن الماضي، سمحت الحركة بالإتجار في “الأفيون”؛ حتى بعد أن حظرت تعاطي “الحشيش” والسجائر بوصفهما من المواد التي يحرم على المسلمين تعاطيها.
التبرير !
ويطرح الكاتب سؤالًا: ماذا كان التبرير الديني الذي قدمته الحركة لإنتاج “الهيروين” ؟
ويجيب: التبرير هو أن “الهيروين” أثَّر في غير المسلمين، خارج “أفغانستان”، تأثيرًا بالغًا.
وأوضح “هارون رحيمي”، الباحث القانوني في الجامعة الأميركية في “أفغانستان”، أن الحركة تتَّبع تفسيرًا “مطَّاطًا” للشريعة الإسلامية. ولكنَّها احتاجت إلى دعم المُهرِّبين والمزارعين، فضلًا عن التمويل، الذي يمكن أن تحصل عليه من خلال فَرْض ضرائب على إنتاج “الأفيون”.
“طالبان تواجه مشهدًا جديدًا..
وينوِّه تقرير (واشنطن بوست)؛ إلى أن حركة (طالبان) حظرت إنتاج “الأفيون”، في عام 2000، بعد أن مارست، الدول الغربية؛ ضغطًا عليها. ومع ذلك، وبعد غزو “أفغانستان”، بقيادة “الولايات المتحدة”، عام 2001، إزدهر إنتاج “الأفيون” مرةً أخرى في المناطق التي سيطرت عليها (طالبان). وعلى الرغم من الجهود المبذولة للقضاء على إنتاج “الأفيون”، تلك الجهود التي تدعمها “الولايات المتحدة”؛ وتُقدَّر تكلفتها بـ 09 مليارات دولار، بلغ الإنتاج ذروته بما يُقدَّر بحوالي: 09 آلاف طن، في عام 2017.
وتواجه (طالبان) مشهدًا جديدًا في الوقت الحالي، وآية ذلك أن الحركة لم تُعد تلك الحكومة المعزولة المنغلقة التي امتد حكمها بين عامي: 1996 و2001، وفي الغالب لم تُعد ذلك التمرد الريفي الذي شنَّ قتالًا ضد الحكومة الأفغانية المدعومة من “الولايات المتحدة”؛ حتى حقق انتصاره في شهر آب/لأغسطس 2021. ولكن أضحت الحركة الآن القائد الفعلي لدولة يُخيِّم عليها فقر مُدقِع وتتعافى من عقود من الحرب، مع مستويات كبيرة من إدمان المواد الأفيونية في أوساط مواطنيها.
وأبرز “تايلور” ما قاله، “روبرت كروز”، الخبير في شؤون “أفغانستان”، بجامعة “ستانفورد”، الذي أوضح أن بيان (طالبان) بشأن زراعة “الأفيون” ربما كان: “مبادرة دبلوماسية”. وأضاف “كروز”: “وتهدف الحركة إلى إظهار أنها ستُشكِّل حكومة: “مسؤولة”؛ حكومة تلتزم بالمعايير القانونية الدولية”.
عادة سيئة..
ويلفت كاتب التقرير إلى أن “خشخاش الأفيون”، المعروف باسم: “الخشخاش المنوِّم”، من النباتات التي تستطيع أن تتكيف مع الظروف الصعبة. ويمكن أن ينمو “خشخاش الأفيون” في المناخات الدافئة والجافة، ولا يتطلب سوى قدرًا قليلًا من المياه. ويمكن تكرير المواد الصمغية المُستخلصَة منه إلى مادة “المورفين”، التي يمكن معالجتها بعد ذلك إلى “الهيروين”؛ ويسهل نقل المادتين على حدٍ سواء؛ ما يجعل “الأفيون” محصولًا جذَّابًا في بلد يعاني من ضعفٍ في البنية التحتية.
وذكر العلماء أن هناك أدلة تُثبت إنتاج “الأفيون” في “أفغانستان”، منذ القرن الثامن عشر على الأقل. ولكن صناعة “الأفيون” لم تبدأ في الإزدهار إلا بعد عام 1979، عندما غزا “الاتحاد السوفياتي، “كابول”؛ ما أدَّى إلى إشعال فتيل صراع دام لمُدَّة طويلة في البلد الذي لم يُكسَر شوكته تقريبًا حتى الوقت الحاضر.
ويمضي “تايلور” قائلًا: وقبل أن تستولى حركة (طالبان) على السلطة فعليًّا، في عام 1996، قدَّرت “الأمم المتحدة” أن نحو: 59% من إنتاج “الأفيون” العالمي يأتي من “أفغانستان”. ولكن سرعان ما ارتفعت وتيرة الإنتاج تحت رعاية حركة (طالبان)؛ ما أثار انتقادات دولية.
وحظر “محمد عمر”، مؤسِّس حركة (طالبان)، زراعة “الأفيون” والإتجار فيه، في تموز/يوليو عام 2000، وحصل، (في مقابل ذلك)، على منحة تبلغ قيمتها: 43 مليون دولار في هيئة تمويل أميركي لمكافحة المُخدِّرات. وأشار تقرير صادر عن “الأمم المتحدة”، في العام التالي، إلى أن هذه السياسة أظهرت بوادر نجاح.
ويستدرك كاتب التقرير قائلًا: ولكنَّ الغزو الذي قادته “الولايات المتحدة”، لـ”أفغانستان”، بعد مرور عام؛ قلب ذلك الوضع رأسًا على عقب. ومع فقدان الحكومة السيطرة على مزيد من المناطق الريفية في “أفغانستان”، ارتفع مُعدَّل زراعة “خشخاش الأفيون”. وبحلول عام 2004، بلغت زراعة “الأفيون” ذروتها أثناء حقبة (طالبان) الأولى في الحكم، ومن ثم ضاعَفتْها بعد ذلك بقليل. وقد تعثَّرت الجهود المدعومة من “الولايات المتحدة”، الرامية إلى إنهاء صناعة “الأفيون”.
واعترف مسؤولون، أثناء إجراء مقابلات سرية نشرتها صحيفة (واشنطن بوست)؛ تحت عنوان: (أوراق أفغانستان)؛ أن حركة (طالبان) لم تكن الجهة الوحيدة التي سمحت بهذه التجارة.
وأثناء إجراء مقابلة حكومية معه، قال “دوجلاس وانكل”، عميل سابق في إدارة مكافحة المُخدِّرات، الذي قاد فريق عمل اتحادي لمكافحة المُخدِّرات في “كابول”: إن “المشكلة الأكبر تمثَّلت في الفساد الذي استشرى في أفغانستان، وكانت المُخدِّرات جزءًا منه. ولا يمكنك أن تتصدى لمشكلة من دون أن تتصدى لمشكلة أخرى”.
تحول في سوق المخدرات العالمي..
وينوِّه “تايلور”؛ إلى أنه من الصعب تحديد مدى إسهام تجارة “الأفيون” في انتصار حركة (طالبان). ويجادل بعض الخبراء بأن الأموال التي تُدرَّها هذه التجارة، فضلًا عن سيطرة حركة (طالبان) عليها، لا تخلو من المبالغة. ونظرًا لتصدير المُخدِّرات خارج البلاد إلى حد كبير، حقَّقت العصابات الإجرامية خارج “أفغانستان” أكبر قدْر من الأرباح.
وخلُصت إحدى الدراسات، التي صدرت في وقت سابق من هذا العام؛ والتي كانت تهدف إلى احتساب الإيرادات التي حقَّقتها حركة (طالبان)، في ولاية “نمروز” المُنتِجة لـ”الأفيون”، إلى أن الحركة جمعت أموالًا طائلة من خلال فرْض ضرائب على القطاعات القانونية، مثل البضائع العابرة والوقود أكثر من الأموال التي جمعتها من الإتجار في المُخدِّرات، بواقع: 40.9 مليون دولار جُمعَت من الضرائب المفروضة على القطاعات القانونية، و5.1 مليون دولار من خلال الإتجار في المُخدِّرات، في عام 2020.
وفي إشارة إلى تحوُّل سوق المُخدِّرات الدولي، ذهبت تقديرات إلى أن غالبية الإيرادات من صناعة المُخدِّرات في الولاية؛ تأتي من إنتاج “الميثامفيتامين”، بدلًا عن “الأفيون”، وفقًا لـ”معهد التنمية الخارجية”، وهو مركز الأبحاث البريطاني الذي أجرى الدراسة.
واستشهد التقرير بما قاله، “ديفيد مانسفيلد”، الخبير البريطاني المعني بالاقتصاد غير الرسمي في “أفغانستان”؛ وأحد مُعدِّي التقرير، إن بحثه أظهر حدود “السيطرة” في “أفغانستان”. وأضاف: “كل شيء قابل للتفاوض في أفغانستان؛ لأن السلطة السياسية والعسكرية مُشتَّتة، حتى مع حركة (طالبان)”.
وأوضح “إبراهيم بحيص”، الخبير في شؤون “أفغانستان” لدى مجموعة الأزمات الدولية، أن التصريحات الأخيرة التي أدلت بها حركة (طالبان) أظهرت أنها: “تستخدم القضاء على المُخدِّرات استخدامًا فعَّالًا باعتبارها ورقة مساومة مقابل الحصول على مساعدات دولية”.
ومع أن التقديرات تُشير إلى أن الحركة حقَّقت: 39.9 مليون دولار من الإيرادات؛ من الضرائب المفروضة على الإتجار في “الأفيون”، في عام 2018، قدَّمت الحكومة الأميركية، لنظيرتها الأفغانية، فيما مضى نحو: 500 مليون دولار من المساعدات المدنية كل عام.
وبعد أن منعت “وزارة الخزانة” الأميركية، حركة (طالبان) من الحصول على بعض أموال الحكومة الأفغانية بالفعل، من المُرجَّح أن تحتاج الحركة إلى كل الأموال التي يمكن أن تحصل عليها. ولم تحصل الحركة، حتى الآن؛ على دعم مالي من “الولايات المتحدة” أو غيرها من القوى العالمية.
ولكنَّ من المُحتمَل أن يمنح اتخاذ إجراءات صارمة ضد الإتجار في “الأفيون”، حركة (طالبان)، نفوذًا مع جيرانها مثل: “إيران وروسيا”، وهما المحطتان التاليتان على طريق المُخدِّرات، أو “أوروبا” و”كندا”، حيث ينتهي به الحال في شكله النهائي في الغالب بعد صناعته ليصبح “هيروينًا”. (يأتي معظم الهيروين في الولايات المتحدة من المكسيك).
هل تكون “طالبان” أكثر اتساقًا ؟
ويضيف التقرير: وباعتبار أن (طالبان) حركة أسَّست كثيرًا من شرعيتها السياسية على التطبيق الصارم للشريعة الإسلامية، قد تكون الحركة أيضًا أكثر اتساقًا مع نفسها. وأردف “رحيمي” قائلًا: “من الناحية الأصولية، يُعد كل ما يضر جسم الإنسان حرامًا في الشريعة الإسلامية. وإذا كان هناك شيء مُحرَّمًا، فإن استهلاكه والتعامل معه والإتجار فيه يكون حرام دائمًا”.
وأثَّر إدمان المواد الأفيونية تأثيرًا سلبيًا في المجتمع الأفغاني. وخلُصت إحدى الدراسات التي أُجريَت، عام 2015، إلى أن هناك ما بين: 2.9 إلى 3.6 مليون متعاطي مُخدِّرات في “أفغانستان”، وأصبحت المواد الأفيونية المخدِّر المُفضَّل، وآية ذلك أن تعاطيه يبلغ مستوى مرتفعًا ارتفاعًا استثنائيًّا من استخدام الفرد للمُخدِّرات.
وكما عانت الحكومة الأفغانية مع هذه المشكلات، ربما تعاني حركة (طالبان) الآن منها أيضًا. وقال “كروز”: “تُعد زراعة الأفيون أمرًا لا غنى عنه للبقاء في العديد من المجتمعات”، مضيفًا أنه ربما تكون هناك مواجهات مع المزارعين الأفغان في جميع أنحاء البلاد، الذين يواجهون مشكلات اقتصادية بسبب الجفاف وتفشِّي فيروس (كورونا).
وأختتم “تايلور” تقريره مستشهدًا بما قاله “رحيمي”: “إنها (طالبان) حركة مُتشدِّدَة. ويمكن أن تستخدم القوة، ولكن هناك حدًا لمقدار القوة التي يمكن أن تستخدمها الحركة. وسيكون هذا الأمر مثل استخدام القوة ضد قاعدة دعمها الرئيسة، (مزارعو الأفيون)”.