مع (كتابات) .. “د. مالك خوري” : هيمنة بورجوازية الاستيراد والتصدير أفسدت السينما العربية ! (1)

مع (كتابات) .. “د. مالك خوري” : هيمنة بورجوازية الاستيراد والتصدير أفسدت السينما العربية ! (1)

خاص : حاوره – محمد البسفي :

وسط ضبابية مناخ ثقافي يكاد ينعدم من فرط استهلاكيته وتسطيح كافة مكوناته حتى أصبح مفسدًا للرئة العربية؛ كانت السينما كرافد من أهم مكونات الثقافة الجماهيرية/الاجتماعية تعاني أمراض عصرها ومناخه المتأزم بمفاسده وإفساده.. لحد تحولت معه إلى مجرد “صناعة” استهلاكية لا تستهدف سوى الربح بمنتج يتكلف ملايين الجنيهات والدولارات ولا يكرس سوى البله والتخلف وتسطيح كافة القيم بمفاهيم وفلسفات معولمة تعمل على تجذير الخرافة والزيف الفكري؛ داخل مجتمعات عربية تعاني الفقر والفاقة والبطالة فضلاً عن الطائفية والمذهبية بل والقبلية.. وهنا تتجلى أهمية عين ناقدة نافذة إلى عمق جراح وتشوهات الواقع السينمائي العربي الحالي، عين راصدة من ثقل الدكتور “مالك خوري”، الناقد اللبناني، ورئيس قسم السينما بالجامعة الأميركية بالقاهرة، الذي كشف سر “الكارتيلات” الاحتكارية التي تعمل على تدمير السينما المصرية والعربية منذ عقود، وحقيقة ما يلعبه الرأسمال الخليجي من دور في هذا التدمير، سواء في مرحلة تشيعه للفكر الوهابي أو في مرحلة تسويقه الحالي لقيم وأفكار العولمة الثقافية الغربية، وهدفه النهائي هو غسل مخ شعوبنا وعزلها عن أهم منافذها الثقافية وهي السينما..

حوار.. بدسامة وغنى ربما يُعجز أي تقديم له قد يفقده بعض من أهميته أو يخل بمعلوماته وحيويته…

(كتابات) : تجمع الآراء على تأزم السينما العربية، والمصرية من ضمنها.. فهل لك أن تحدد لنا مدى وملامح أزمتها الحالية ؟

  • برأي أن أزمة السينما العربية مرتبطة مباشرة بواقع الأزمات التي تعاني منها السينما المصرية. فالسينما المصرية كانت، وما زالت، تمثل النبض الأساس الذي من خلاله يمكننا تمييز الحالة الصحية لكل السينما العربية.

وهذه الأزمة ليست بنت اليوم. منذ بداية ثمانينيات العقد المنصرم؛ عكس واقع السينما العربية تحولات وصراعات مفصلية طالت المنطقة العربية في ذلك الوقت. واستمرت هذه التحولات وانعكاساتها بالتراكم حتى ما قبل الانفجارات السياسية الضخمة التي عصفت في المنطقة في أوائل العقد الثاني من الألفية الجديدة.

فقد شهدت المنطقة، منذ بدايات الثمانينيات، صعودًا واضحًا لنفوذ التيارات السياسية ذات الطابع الديني؛ والتي أرتبطت بشكل أو بآخر بالفكر الوهابي وبفكر جماعة “الإخوان المسلمين”. وكان هذا يجري في إطار تغير واضح في الخطاب السياسي السائد في العالم العربي، سواء على صعيد الشارع أو على صعيد الحكومات، كانت إحدى إنطلاقاته المفصلية الحرب ضد الحكومة العلمانية في “أفغانستان”، عام 1979، والتي كانت مدعومة من “الاتحاد السوفياتي” في حينه. وقد شارك في هذه الحرب، وبعلم وتشجيع من عدد من الحكومات العربية، أعداد كبيرة من العرب المؤيدين للتيارات السياسية ذات الطابع الديني. وتناغم هذا في حينه مع تثبيت النفوذ السياسي والثقافي لـ”الولايات المتحدة الأميركية” في المنطقة بشكل عام.

السبب وراء تذكيري بكل هذا، هو أن ما حصل فيما بعد من متغيرات فكرية وتغيير بنيوي في كل العالم الثقافي عندنا، تجد جذورًا له في المتغيرات التي حصلت بعد “مرحلة أفغانستان”. فعلى السطح، هذا الواقع الجيوسياسي الإقليمي والعالمي الطابع، والواقع الثقافي، والسينمائي بطبيعة الحال، لا يبدوان مترابطين ببعضهما. بيد أنه بالنسبة للعديد من المثقفين العرب، بما فيهم العديد من السينمائيين، فإن الظاهرتين الصاعدتين المشار إليهما شكلتا بالنهاية وتمخضتا عن استتباب لواقع جديد لا التباس في نتائجه: هيمنة سياسية واقتصادية وفكرية متصاعدة لدول الخليج الوهابية التي أصبحت العامل المحدد لمسار معظم الدول العربية، وبشكل خاص “مصر”.

وعلى الصعيد الثقافي تحديدًا؛ شهدت “مصر” والعالم العربي ككل، في هذه المرحلة، تصاعدًا وترسيخًا لهيمنة الرأسمال الخليجي على الصناعات السينمائية والتلفزيونية، مما أشعر العديد من العاملين في الوسط السينمائي بضغوط من نوع جديد لم يكن لهم عهد بها من قبل. وتجسدت بعض هذه الضغوط في فرض مقاييس أكثر محافظة على الأفلام السائدة، سواء من ناحية تشجيع الإنتاج السينمائي الذي يتفادى القضايا السياسية، أو من ناحية مباركة وتشجيع موجة من الأفلام التي تنضوي تحت ما أصبح يطلق عليه وصف  “السينما النظيفة”، والتي اتسمت بتفادي المواضيع الحساسة “دينيًا” أو “أخلاقيًا” أو “اجتماعيًا”. ويمكن القول أن هذا الواقع الجديد نسبيًا ألقى بظلال سلبية واضحة على السينما العربية، ما زلنا نعاني منها حتى اليوم. رافق هذه الهيمنة مناخ من الكبت السياسي والفكري العام أتخذ شكلاً دينيًا، ولكنه كان بالأساس سياسيًا. تدريجيًا ظهرت حالة من “التسطيح” لمفهوم الإبداع الفني، جعلته تدريجيًا يهبط بمستوى السينما وتعريفها، ويساهم بتكريسها حصرًا بوجهها كسلعة ترفيهية.

لقد عكس ظهور ما يدعى بالسينما “النظيفة”، منذ الثمانينيات، “تمكن” النفوذ الوهابي، (ومن ورائه رأس المال الخليجي)، داخل الصناعة السينمائية في مصر. وساهم هذا في الإضعاف الجدي لهذه الصناعة في الأسواق العربية. ومن أهم ضحايا هذا النفوذ المحافظ كان تحجيم أنواع سينمائية، (جنر) هامة، كانت قد بدأت بالظهور أو الإزدهار قبل وخلال، وحتى سبعينيات القرن الماضي، ومنها الدراما العاطفية، الفيلم السياسي، الفيلم الغنائي والاستعراضي.

من ناحية أخرى؛ ارتفعت أسهم الأفلام الكوميدية أو “الآكشن” السريع التحضير، والتي تعتمد بطبيعتها على تفادي الغور الجدي في أي قضايا تبحث علاقات شخصية أو اجتماعية أو سياسية. وأصبحت الأسواق السينمائية حكر إلى حد كبير على منتجي “المقاولات” مما ساهم بخلق حالة من غسل الدماغ للمشاهد بالنسبة لما يستسيغ حضوره لدى ذهابه الموسمي إلى السينما.

الأزمة اليوم؛ تعيش مرحلة جديدة وغير مسبوقة. بعد الإنكماش بالإنتاج السينمائي والتغيرات النوعية التي رافقته بنوعية الأفلام الذي رافق الهيمنة الخليجية، ظهرت أوجه هيمنة جديدة أصبحت تطال ما تبقى من روح ومظاهر تعبير مستقلة داخل السينما العربية. ما حدث خلال السنوات العشر الأخيرة، وخصوصًا بعد موجة المهرجانات السينمائية بالخليج، تمخض عن حالة جعلت من مفهوم “السينما المستقلة” مرتبط، في معظمه، بما يجري تحديده ورسم معالمه من قِبل مؤسسات وشركات وكيانات “غير حكومية” خليجية أو غربية ورأسمالية محلية ريعية ومهرجانات سينمائية أضحت تحكم أطر دعم إنتاج وتوزيع وتسويق تجلياتها الخاصة، لما كنا نطلق عليه سينما “مستقلة”.

إذاً بعد الإضعاف البنيوي للصناعة السينمائية في مصر وبدء الهيمنة الخليجية على بعض هذه الصناعة، في أواخر القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحالي، نعيش اليوم مرحلة محاولة إعادة تشكيل السينما المصرية والعربية بما يكرس ضعفها وتبعيتها لرأس المال الخليجي الكومبرادوري ذو المصلحة؛ بابقاء السوق العربي كسوق مستهلك لسينما هوليوود، وليس كمنافس محلي لها. هذا باختصار أساس ومسار الأزمة الحالية.

(كتابات) : تقر تلك الآراء أيضًا أن أصل الأزمة وأساسها هو الدعم المادي والتمويل تحديدًا.. ومن هنا برز مصطلح “صناعة السينما” التي تخضع لكل قوانين السوق وأحكامه، التي تبرر إغفال الكثير من جوانبها الجمالية والثقافية والتوعوية.. فما رأيك ؟

  • أوافق من حيث المبدأ على أهمية عوامل الدعم المادي. لكن لا أوافق على اعتبار “الصناعة السينمائية” أو “صناعة السينما”؛ حكمًا أو بالمطلق كإطار سلبي في معادلة تطوير السينما المصرية والعربية.

صناعة السينما في مصر، وحتى الستينيات، أفرزت نتاجًا اختلطت ضمنه كل أنواع وتوجهات التعبير السينمائي المعروفة عالميًا في ذلك الوقت. في مرحلة ما قبل التحولات الناصرية، ما ساهم بتحديد مسار هذه السينما كان رغبة رأس المال المحلي العامل في السينما في تثبيت هيمنته في السوق المصري والعربي. هذا كان له عامل إيجابي جدًا في خلق وتطوير سينما قوية وناجحة وذات جذور في مجتمعها وبيئتها. في تلك المرحلة، كانت البورجوازية المصرية ما تزال تعمل بهاجس المنافسة من منطلق كونها بورجوازية “وطنية” إذا شئت.

في مرحلة الخمسينيات والستينيات، أدى إنشاء الدولة لسُبل دعم رسمي وعام للسينما؛ ليس فقط في الإنتاج، بل بتوسيع أطر العرض، إلى تحفيز نسبي حتى لـ”الصناعة السينمائية”، التي كانت تعاني من بعض الضعف نتيجة للتأميمات. هذا ساهم في حينه في الحفاظ على مستوى مقبول، بل جيد، من التركيز على النوعية في الإنتاج وليس فقط على السلعة. ولا ننسى هنا أن الثقافة المجتمعية العامة والتوسع غير المسبوق في مروحة التعليم والاهتمام الرسمي بالثقافة الفنية في تلك المرحلة كانت تشهد تغيرات إيجابية على كل المستويات. كل هذا ساهم بالطبع في الضغط لفرز نوعية أفضل من الأفلام والإبداع الفني في مصر بشكل عام، وذلك حتى من قبل “الصناعة السينمائية” في حينه.

المشكلة إذاً ليست في وجود “صناعة سينمائية” بحد ذاتها، بل بالهوية والدور الذي تحدده هذه الصناعة لنفسها لتلعبه في أي مرحلة. للأسف نحن اليوم في مرحلة هيمنة بورجوازية الاستيراد والتصدير. هذا النوع من البورجوازية الطفيلية فاسد ومفسد لكل من يعمل به، وبرأي لا يمكن التعويل عليه بأي مساهمة في التطوير الجدي للسينما.

أما الدعم والتمويل للسينما وللشباب الصاعد في هذا المجال، فإذا لم يكون للدولة دورًا أساسيًا في رفده وتشجيعه، فسنواجه صعوبات مستمرة في القدرة على المحافظة على تقوية وبزوغ قدرات إبداعية مستقلة في أي مجال ثقافي، بما في ذلك في السينما.

(كتابات) : مصطلح “صناعة السينما”.. ألا تراه مهد لتحول السينما في وطننا العربي إلى ما يمكننا تسميته بـ”تسليع السينما” من ناحية، ومن ناحية أخرى أصبحت السينما – كمكون ثقافي بثقلها في التوعية المجتمعية – أداة هامة من آليات “العولمة الثقافية” المفروضة علينا الآن ؟

  • لا أعتقد أن إزدياد استعمال المصطلح، أو المعني بهذا المصطلح، هو الذي لعب الدور بإضعاف سينمانا، بقدر المتغيرات التي طرأت على طبيعة المهيمن على تلك السينما. فالصناعة نفسها من الممكن أن تكون في يد بورجوازيات محلية مهتمة فعليًا بالسينما، أو يمكنها أن تكون بيد قوى طبقية تساهم بتدميرها. الصناعة يمكن تشجيعها للعب دور إيجابي في رفد الإبداع الفني المحلي. وهذا يحدث، حتى وبأشكال مختلفة، حتى في دول المركز الرأسمالي. فهناك دائمًا أطر ووسائل لحماية الإنتاج والتوزيع للمنتج السينمائي ودفعه للعمل بما يخدم المصلحة الوطنية، حتى في إطار العلاقات الرأسمالية التابعة، “الهند” مثال تاريخي في هذا المجال.

ما حدث ويحدث، في مصر والعالم العربي؛ هو انتقال الهيمنة إلى رأسمال كومبرادوري طفيلي لا اهتمام لديه بتشجيع السينما المحلية، وإن ظهر من وقت لوقت كمشجع لبعض السينمائيين “المستقلين” وأفلامهم.

لكن الهاجس الأساس لهذا الرأسمال غير المنتج وغير المهتم بالسينما أصلاً، والذي أصبح مؤخرًا مرتبطًا بشكل كبير برأس المال الخليجي، هو تحقيق الأرباح السريعة. وهذا ما توفره بسهولة أكثر، عملية تشجيع الاستيراد السينمائي عوضًا عن الإنتاج محليًا. وفي أحسن الحالات، يقوم هذا الرأسمال بتمويل ما تعجز هوليوود عن تلبيته، مثل أفلام الآكشن باللغة العربية، وما شابه. هذا يعني أن التركيز اليوم يجري باتجاه إفساح الساحة المصرية والعربية  وتهيئتها لاستيعاب المزيد من المنتج الهوليوودي، والذي هو نفسه اليوم أصبح يخضع لمعايير “سينما مارفيل” الاستهلاكية بإمتياز.

هذا ليس تنظير، بل واقع سياسي واقتصادي مادي يحصل أمام أعيننا: فقط قارن نسب عرض الأفلام العربية للهوليودية في دور العرض العربية، وكذلك نسبة عرض أفلام “مارفل” للأفلام الهوليوودية الأخرى؛ وتطور ذلك خلال العقدين الماضيين، تفهم بالظبط ما أعنيه.

إن التغيرات التي طرأت على طبيعة رأس المال الاحتكاري المحلي الكبير أو الكارتيل المهيمن، وبشكل خاص إزدياد دور حلقات رأس المال الخليجي ضمن بنية الإنتاج والإدارة في الشركات السينمائية العربية، وهيمنتها على العديد من شركات التوزيع والدعاية والعرض الملحقة وشركات التلفزيون والصحافة، تحولت في الواقع إلى عامل سياسي اقتصادي متكامل الأطراف والقوة. فجزء ضخم من صناعة السينما بمفهومها الأوسع في العالم العربي أضحت مرتبطة بكارتيل ضخم ودوائر متفاعلة وواسعة تشمل اليوم حتى إدارات المهرجانات السينمائية الكبرى وشركات الدعاية للأفلام وصالات العرض من الشعبية إلى سينمات المولات التجارية إلى دور العرض الفجة في بذاختها وأسعارها.

وتعمل بعض المكونات الإنتاجية لهذا “الكارتيل” اليوم على إضفاء صورة مزيفة عن نفسها كداعم “للسينما المستقلة”. فضمن وضع أطر محددة لعملها، تسهم هذه الحلقات من خلال إرتباطاتها المالية والإعلامية والسياسية في تشجيع وتكريس رؤى محدودة و”مبسترة” للتعبير السينمائي في العالم العربي. ويتم هذا عبر حصر مفهوم التعبير السينمائي “المستقل” ضمن أطر تتلاءم، أو بالأقل لا تتناقض مع ما هو مسموح به أو ما يتناغم مع تفكير ومصالح القوى السياسية/الاقتصادية الطبفية والسياسية المهيمنة عليها.

وفي إطار تراجع العديد من الدول العربية، مثل “مصر”، عن سياسات الدعم الرسمي للدولة للإنتاج السينمائي المحلي، فإن التنسيق المتعدد الوجوه بين قوى الهيمنة الجديدة من ناحية، وبين بعض المؤسسات “الغير حكومية” المحلية أو التابعة لبعض الدول الخليجية أو لدول الاتحاد الأوروبي، (والتي توفر بعض أشكال الدعم المالي أو اللوجيستي لأعمال سينمائيين شباب من العالم العربي)، من ناحية أخرى، أدى إلى مزيد من التدجين الفكري والفني والإيديولوجي للثقافة السينمائية العربية الصاعدة. ويدخل على الخط من وراء الكواليس أيضًا بعض الشركات الداعمة لإسرائيل أو المعروفة بتأييدها المباشر لإنتاج وتوزيع السينما الإسرائيلية أو الداعمة للصهيونية.

ولزيادة “الطينة بلة”؛ فقد وضع العديد من النقاد والصحافيين والعاملين في الإعلام السينمائي أنفسهم رهن توجيهات وإرادة هذا “الكارتيل” ودوائره الفرعية في الصحافة والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.

من يساهم بتسليع السينما اليوم ليست “آلهة” شريرة، بل قوى مادية تعمل على الأرض.

(كتابات) : أليس هذا نوعًا من تفسير ماركسي يحاول تركيب مقولاته على واقع قد لا يخضع لها بالضرورة ؟

  • أنا أحاول قراءة وتشخيص واقع أصبح يفرض نفسه في عالم الثقافة السينمائية عندنا.

نشاطات هذه المنظومة والحلقات، الاحتكارية التابعة لها أو التي تعمل معها، أصبحت علنية اليوم ويتم الترويج لها بوضوح من خلال أوساط مرتبطة بشكل مباشر بشبكات إنتاجية وتسويقية وتوزيعية و”مهرجانية” وصحافية و”نقدية” موجودة على الأرض وبقوة، وهي تعمل بدعم قائم على أعلى المستويات السياسية التي تتكامل وتتفاعل معها وتمولها. ونعطي على سبيل المثال لا الحصر ما حدث عام 2018، حين قام مركز يدعى “مركز السينما العربية”، (وهو مركز ممول في كل ميزانيته تقريبًا من قبل شخصيات ومتمولين وهيئات خاصة ورسمية في دول الخليج)، بإصدار لوائح لأسماء ما اعتبره: “أهم الشخصيات المؤثرة في الصناعة السينمائية العربية اليوم”. ومن المفارقات التي لا يمكن تجاهل مغزاها السياسي، تضمنت تلك اللوائح أسماء مثل ولي العهد السعودي، “محمد بن سلمان”، الأمير السعودي، “الوليد بن طلال”، وغيرهما من الشخصيات السياسية من السعودية ومن دولة الإمارات. تم نشر هذا التقرير ضمن فعاليات ومهرجانات السينما في الدول الأوروبية وفي دول أخرى.

والمركز نفسه تأسس عام 2015، وكما تشير وثائقه، من خلال شركة “ماد سوليوشن”، وذلك بهدف التواصل المحترف مع صناعة السينما في أنحاء العالم. وهذا يتم من ضمن: “الفاعليات التي يقيمها وتتيح تكوين شبكات الأعمال مع ممثلي الشركات والمؤسسات في مجالات الإنتاج المشترك، التوزيع الخارجي وغيرها”. كما يقوم المركز المذكور بتنظيم أجنحة في الأسواق الرئيسة للمهرجانات ولقاءات بين السينمائيين العرب والأجانب، واجتماعات مع مؤسسات ومهرجانات وشركات دولية، وإصدار “مجلة السينما العربية”؛ والتي يجري توزيعها على رواد أسواق المهرجانات. كل هذا في إطار الهدف العام المعلن للمركز في مساعدة صناع الأفلام العرب للوصول إلى الأسواق العالمية، ومساعدة ممثلي صناعة السينما العالمية “في التعرّف بسهولة على إنتاجات السينما العربية”.

أما “ماد سوليوشن”؛ فهو استديو يقدم خدمات استشارية وتسويقية وخدمات توزيع للسينما العربية و”صناعة الترفيه”. وتشارك هذه المؤسسة في أكثر من عشرين فعالية سينمائية في العالم، بينها المهرجانات السينمائية المحلية والعالمية، والمؤتمرات وورش العمل ومن بينها مهرجانات (كان)، و(برلين)، و(أبوظبي)، وغيرها. كما تم في نفس الإطار إنشاء أداة توزيع للسينما “المستقلة”؛ وبهدف زيادة “المعرفة والاهتمام بفن السينما”، وهي تعمل بشكل أساس الآن في دولة الإمارات تحت اسم “سينما عقيل”. ويعتبر “الصندوق العربي للثقافة والفنون”، (آفاق)، والذي تأسس عام 2007، من المؤسسات “الغير حكومية” العربية القليلة جدًا التي تدعم مشاريع فنية ومؤسسات عاملة في الفنون المختلفة بما فيها السينما. من مهام هذه المؤسسة تشجيع المشاريع “المستقلة” الطابع، وتضع لنفسها معايير منفتحة لجهة ما تعتبره مؤهل للدعم من قبلها.

من الناحية العملية، ومن خلال قراءة لأنواع المشاريع التي يجري دعمها، فإن السمة المشتركة لهذه المشاريع هي تفادي الخوض في مواضيع سياسية أو اجتماعية حساسة، والتركيز على كل ما يمكن اعتباره فنون تعبر عن رؤى “شخصية” أو “خاصة” للفنانين العرب. وعلى الرغم من أن الصندوق قد ساهم بدعم العديد من المشاريع ذات أهمية على صعيد الأسلوب والحرفية، فإن الإطار العام للمروحة الفكرية والإيديولوجية التي يسمح بها لا تتجاوز بالنهاية ما هو مسموح به من قبل الطبقات الاجتماعية والقوى السياسية المهيمنة في المنطقة. ويعكس هذا التوجه بطبيعة الحال طبيعة الممولين الرئيسيين لهذا الصندوق، سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات.

(كتابات) : لكن كيف تقيم بعض الإيجابيات التي تحصل نتيجة الدخول الواضح لرأس المال المحلي الكبير في دعم الأنشطة الثقافية السينمائية ؟

  • كل هذا يبقى في الإطار المسموح به، والذي يتناغم بالنهاية وإلى حد كبير مع النشاطات السينمائية لرؤوس الأموال المحلية الأخرى والغير تابعة بالضرورة لمصالح أو لتوجهات قيادات دول الخليج، وإن تماهت معها طبقيًا وسياسيًا.

فإحدى خاصيات المرحلة التي نعيش فيها اليوم؛ تكمن في ظاهرة إعادة تسويق السينما كممارسة ثقافية نخبوية. على سبيل المثال، فـ”مهرجان الجونة السينمائي”، وفي خضم التوقف المفاجيء لـ”مهرجان دبي”، عام 2018، يتم الترويج له في الإعلام المصري والعربي والعالمي اليوم؛ كمثال على المهرجان السينمائي العربي الناجح. هذا على الرغم من أنه يجري في منطقة سياحية شبه معزولة في مصر ولا يتجاوز عدد سكانها مع المحيط الجغرافي الذي يحيط بها، الثلاثين ألف نسمة. ولا يتجاوز عدد مشاهدي الأفلام في المهرجان بضعة آلاف شخص، ربما ثلاث إلى سبعة آلاف. وبغض النظر عن مستوى الأفلام أو التنظيم العام للمهرجان، والذي بالمقارنة مع معظم المهرجانات المحلية والعربية يتميز بالحرفية وحسن الإدارة وتنوع البرمجة والانفتاح النسبي، فإن التسويق لمعيار “النجاح” لهكذا حدث، وبعيدًا عن تقييم مدى صلته وقدرته على التفاعل الجماهيري الواسع، يمثل نوعًا من إعادة التدوير والتكريس العلني للمقولة الطبقية البائدة عن أن الثقافة هي الحيز الطبيعي للعب وترفيه الطبقات “العليا”.

وإذا أخذنا بالاعتبار الحجم الهائل للشعب المصري ولتاريخ السينما الطويل في هذا البلد، فإن هكذا توجه تسويقي يعكس مثالاً فجًا على ما أشرنا إليه من تزايد لهيمنة الاتجاهات النخبوية ضمن الثقافة السينمائية العربية بمفهومها الأوسع. كما يعكس هذا التوجه درجة عالية، وغير مسبوقة على حد علمي في تاريخ المهرجانات السينمائية في مصر، من الاستخفاف والمعاداة تجاه الفئات العاملة والفقيرة والجمهور الأوسع من الشعب المحب للسينما.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة