وكالات – كتابات :
نشرت مجلة (نيويورك بوست) الأميركية تقريرًا يستعرض دور وسائل التواصل الاجتماعي في تشويه الحقائق التي نعرفها.
أوهام جماعية..
وفي البداية يُشير التقرير إلى أنه قد يكون كل ما تظن أنك تعرفه تقريبًا عن آراء الآخرين خاطئًا. ويتمثل أحد الأسباب الرئيسة لهذا الأمر في وسائل التواصل الاجتماعي؛ ذلك أننا نُعاني جميعًا مما يُطلِق عليه “تود روز”؛ (عالم نفس أميركي)، مصطلح: “الأوهام الجماعية”، وهي أكاذيب اجتماعية تدفع الأفراد إلى أن يوافقوا على ما يظنون أن غالبية الناس تؤمن به، على الرغم من مخالفتهم لهذا الرأي بصورة شخصية.
وينوِّه التقرير إلى أن “الأوهام الجماعية” موجودة تقريبًا منذ بدء الخليقة، ولكنها الآن: “مشحونة على نطاق عالمي”، ويرجع الفضل في ذلك جزئيًّا إلى العجائب المنشورة على بعض منصات التواصل الاجتماعي مثل: (فيس بوك) و(تويتر)، كما كتب “روز”، الذي صُدر له كتابًا بعنوان: (الأوهام الجماعية: التوافق، والتواطؤ، والسبب العلمي، وراء اتخاذنا قرارات سيئة، أو Collective Illusions: Conformity, Complicity, and the Science of Why We Make Bad Decisions).
وجاءت أولى الوثائق التي تؤكد هذه الأوهام؛ عام 1932، عندما استقر باحث من جامعة “سيراكيوز”؛ في مدينة “إيتون”، بولاية “نيويورك”، وهي عبارة عن مجتمع ديني متماسك بالقرب من مدينة “أوتيكا”.
وشرع الباحث في التحقيق في رأي سكان المدينة بشأن السلوك السليم، بعد أن طرح سؤال: “ماذا تعتقد أن يقول معظم سكان هذا المجتمع عن التدخين، وشرب الخمر، ولعب القمار ؟”.. ويجيب: “سيقول معظم الناس إن هذه نشاطات خاطئة للغاية”. غير أنه سرعان ما اكتشف الباحث أن معظم سكان المدينة يتمتعون بممارسة هذه النشاطات بصورة انفرادية.
ويتمثَّل سبب هذه المفارقة في: أن هناك عجوزًا مؤثرة تعيش في كنيسة، وتُدعى السيدة “سولت”، والتي أعربت عن آرائها البروتستانتية علنًا وجهرًا. وخلُص سكان المدينة خطأً إلى أنها تتحدث باسم الأغلبية.
إجماع زائف..
ووفقًا لما كتبه “روز”؛ توظِّف وسائل التواصل الاجتماعي مليون شخصية رقمية مثل السيدة “سولت”، وهو ما يُسهِّل التحوُّلات السريعة في: “الإجماع المُتصوَّر؛ مما يُمكِّن بعض الجهات الفاعلة الهامشية من صناعة أوهام من خلال إعطاء انطباع بتحقيق أغلبية وهمية ليست موجودة على أرض الواقع”.
ويرى “روز” أن هذه الظاهرة، لا سيما على الصعيد السياسي، أدَّت إلى: “إحساس يُثير قلقًا شديدًا بأن ثمَّة شيئًا ما خطأ في مجتمعنا”. ويُضيف: “يبدو الأمر كأن قيم مجتمعنا تغيَّرت بين عشية وضحاها تقريبًا؛ إذ نشعر بالحيرة، والإحباط، والاستياء، وعدم ثقة بعضنا في بعض”. ويؤكد التقرير أن المشكلة تكمن جزئيًّا في الطريقة التي تصل بها أدمغتنا إلى الاستنتاجات.
وفي تصريح لمجلة (نيويورك بوست)، قال “روز”: إن “الأدمغة تستهلك الطاقة، وقد تشكَّلت من خلال التطوُّر لتأخذ اختصارات لكل شيء”. وأضاف: “قد يبذل عقلك مزيدًا من الطاقة في أخذ عينات أفضل، ولكن الاختصار الموثوق هو الشيء الذي يسمع الشخص عنه كثيرًا، والأشخاص الذين يُعربون عن آرائهم قد يُمثِّلون إجماعًا”.
وبحسب “روز” أصبحت هذه الميزة عبئًا ثقيلًا في عصر وسائل التواصل الاجتماعي؛ لأنه: “من السهل للغاية إعطاء انطباع بالإجماع”. ويُضيف: “تُدرك روسيا والصين أهمية هذا الأمر وقد أمضيا وقتًا كثيرًا للتعامل معه”.
اكتساب الزخم..
ويُضيف التقرير: وفي أيام ما قبل التكنولوجيا، واجهت الأفكار الهامشية صعوبة في اكتساب الزخم، ولكنها لم تُعد تواجه هذه الصعوبات. وخلصت إحدى الدراسات إلى أن الحسابات الآلية التي تتظاهر بأنها أفراد حقيقيين، والتي تُمثِّل بالفعل: 19% من التفاعلات عبر الإنترنت، تحتاج إلى تمثيل خمسة إلى: 10% فقط من المشاركين في مناقشة ما قبل أن يُصبح الرأي الذي تُقدمه الآلات هو الرأي السائد.
وفي عام 2013؛ أغلق (تويتر) أكثر من: 06 آلاف حساب آلي جرى برمجتها بهدف إعادة تغريد المحتوى الذي ينشره الرئيس الفنزويلي؛ “نيكولاس مادورو”. وعلى الرغم من أن الحسابات الآلية لم تُشكِّل سوى: 0.5% من متابعي الزعيم الفنزويلي، فإن حذفها تسبَّب في انخفاض مُعدَّل إعادة تغريداته بواقع: 81%.
وعلاوةً على ذلك خلُص الخبير الاقتصادي؛ “خوان موراليس”، في وقت لاحق؛ أن حذف الحسابات الآلية ارتبط بارتفاع وتيرة الانتقادات الموجَّهة للرئيس الفنزويلي. وفي الحقيقة دفع الإجماع الزائف الذي قَّدمته الحسابات الآلية معارضي الرئيس إلى إلتزام الصمت. يقول “روز” إن الخطر الكبير الآخر يتمثَّل في أن: “الأوهام الجماعية لهذا الجيل أصبحت آراءً خاصة للجيل القادم”.
أوهام الشهرة..
على سبيل المثال أجرت مؤسسة (بوبليس-Poplace) التي يترأسها “روز”، دراسة مُكثَّفة حول ما يجعل الحياة ناجحة. وخلُصت الدراسة إلى أن الشهرة هي أول ما يعتقد الأميركيون أن الآخرين يهتمون به. وفي واقع الأمر جاءت الشهرة في ذيل قائمة الاهتمامات، ولكنَّ الإعلانات ووسائل الترفيه والإنترنت تُعزِّز الوهم الجماعي بشأن أهمية الشهرة.
وبحسب التقرير، أجرت جامعة “كاليفورنيا”؛ في “لوس أنغلوس”، دراسة عن كيفية تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في الطرق التي يستوعب بها طلاب المرحلة الإعدادية القِيم.
يقول “روز”: “حتى سنوات قليلة مضت، كانت الموضوعات السائدة تدور حول الشخصية، إذ أراد الطلاب أن يكونوا أصدقاء صادقين للغاية”. وأضاف: “وقبل بضع سنوات تغيَّرت اهتمامات الطالب في هذه المرحلة العمرية حتى أنه أصبح: (يُريد أن يُصبح نجمًا مشهورًا على يوتيوب)”. وتابع قائلًا: قد يبدو الأمر قاتمًا، ولكن لا يزال هناك أمل، “فعلى الرغم من قوة الأوهام، فإنها هشة في الوقت ذاته”. وتتمثَّل الخطوة الأولى في كسر هذه الأوهام ببساطة في الاعتراف بوجودها، وهو ما يفعله أقل من: 3% من الأميركيين.
ويختم الكاتب تقريره بما ذكره “روز”: تُعد وسائل التواصل الاجتماعي كرنفال مليئًا بمرايا مضحكة، ولكنها ستشوِّه الصورة، ولا يمكننا فعل أي شيء حيال ذلك، ولكنَّنا نتحكم في مدى إمكانية أن يُغيِّر هذا التشويه الطريقة التي نتعامل بها مع بعضنا بعضًا من عدمه.