وكالات – كتابات :
يُحب الأثرياء أن يتبرعوا بأموالهم لجهات خيرية لإقناعك بأنهم أناس صالحون، لا تنخدع بذلك فنحن نُريد أن نجرد هؤلاء المُحسنين من مكاسبهم غير المشروعة أيضًا.
نشرت مجلة (غاكوبين) الأميركية تقريرًا؛ لـ”نيك فرينش”، المحرر المساعد في المجلة المعروفة بأنها صوت اليسار الأميركي، تحدث فيه عن أصحاب الثروات الطائلة، وحقيقة مساعداتهم التي يزعمون أنهم يقدمونها لخدمة المجتمع. وناقش الطرق المتعددة التي يضر بها هؤلاء المجتمع، والعاملين، والموظفين.
شيطنة الأثرياء بين القبول والرفض..
يستهل الكاتب تقريره بالقول: يعود الفضل إلى الاشتراكيين الديمقراطيين في أن بُغض الأثرياء أصبح سائدًا في السياسة الأميركية. فالسيناتور “بيرني ساندرز”؛ لا ينفك يُدين: “أصحاب الملايين والمليارات”، الذين أبتاعوا نظام “أميركا” السياسي، وأرسوا ركائز الاقتصاد لتعمل لمصلحتهم. ورأت النائبة “ألكساندريا أوكاسيو كورتيز”؛ أن مجتمعًا يعيش فيه المليارديرات بجانب القابعين في الفقر المدقع لهو مجتمع غير أخلاقي، ودعت إلى إعادة توزيع الثروات في البلاد.
وفي اجتماع مع بعض المانحين الأثرياء قال؛ “جو بايدن”، عندما كان نائبًا للرئيس: “نحن لا نُريد أن نشيطن أي شخص لأنه يكسب المال”. ومضى ليؤكد أنه في ظل رئاسته: “لن يتغير مستوى المعيشة لأي شخص”، قبل أن يتوسل إليهم قائلًا: “أحتاج إليكم بشدة”. وتُثير هذه التعليقات سؤالًا مفاده: هل من الصواب شيطنة جميع الأثرياء ؟
ففي النهاية هناك أشخاص طيبون يتبرعون بمقدار كبير من المال لدعم القضايا النبيلة؛ مثل: “بيل غيتس” و”وارن بافيت”. وربما تعتقد أنه حتى وإن كان هناك أثرياء سيئون، لكن يجب علينا أن نشكر الصالحين منهم ونرجو منهم مزيدًا من الدعم لحل مشكلات المجتمع، ولكن ربما يكون هذا خطأ أيضًا أن نستثني الأثرياء المُحسنين لأنه عند الفحص الدقيق نرى بأنهم ليسوا مُحسنين كما قد يظهر لنا.
صاحب العمل الطيب..
يرى “فرينش” أنه من أجل فهم السبب علينا التفكير في كيفية عمل الرأسمالية. فعلى عكس معظم الناس؛ يحصل الأثرياء على نصيب الأسد من دخلهم من الاستثمار، وليس الأجور؛ فهم رأسماليون وليسوا موظفين. ويعتمدون على الشركات التي يمتلكون أسهمًا فيها، أو من الفوائد، أو من إيجار العقارات. واعتماد هؤلاء الأثرياء على الاستثمارات يُخضعهم لمقتضيات اقتصادية تُجبرهم على خفض الأجور، وتسريح الناس من وظائفهم، ومحاربة السياسات الاقتصادية التي تصب في مصلحة الموظفين.
يقول الكاتب: تخيل معي صاحب مصنع أحذية، وهذا العمل مُربح؛ إذ تتجاوز إيرادات بيع الأحذية تكاليف صُنعها. وصاحب المصنع السيد “لايسز”، رجل لطيف للغاية. فهو يعامل موظفيه بلطف، ولا يوجه لهم الإهانات أو يحتقرهم، فقد نشأ في عائلة تحترم هذه المباديء. لذا فهو يدفع أجورًا ومزايا جيدة ويقدم تبرعًا كبيرًا كل عام. ولكن للسيد “لايسز” منافسون كُثر يبيعون الأحذية أيضًا، والطريقة الوحيدة التي تجعلهم يكسبون هذه المنافسة هي أن يبيعوا الأحذية بأسعار أقل من الآخرين. ومن أجل الحفاظ على مصنعه، يجب على السيد “لايسز” أن يُنافسهم، ومن ثم يضطر إلى تخفيض الأسعار. وهذا الأمر يقود المنافسين لتخفيض أسعار الأحذية أكثر فأكثر.
وينُجم عن هذه الانخفاضات المتوالية في الأسعار قلة في الأرباح؛ ما لم تتمكن الشركة من تخفيض تكاليفها. ويمكن للسيد “لايسز” أن يُخفض من تكاليف مصنعة بإحدى الطرق التالية: إما دفع أجور أقل للعمال، أو عن طريق تسريع وتيرة العمل ومن ثم ساعات عمل أكثر أو العمل بطرق تضر بالبيئة. وفي مواجهة هذه المنافسة الشديدة لا يبقى أمام السيد “لايسز” خيارات كثيرة؛ حتى وإن كان رجلًا طيبًا.
يمكن أيضًا أن يُخفف السيد “لايسز” – بحسب كاتب المقال – من تكاليفه عن طريق الاستثمار في التحسينات التكنولوجية؛ مثل الآلات التي تخيط الأحذية بدل عملها يدويًّا. ولكنها ضارة بالعمال أيضًا من ناحية أخرى، إذ إنها تسمح لصاحب العمل أن يُنتج القدر نفسه من السلعة، ولكن بتوظيف عدد أقل من العمال.
وربما يكون التحسين التكنولوجي أمرًا جيدًا لو أن العمال أنفسهم استفادوا منه بتقليل الجهد الذي يبذلونه مع الحفاظ على ثبات أجورهم. ولكن عندما يقع الأمر تحت تصرف أصحاب العمل، فهم يبحثون عن زيادة أرباحهم وليس عن رفاهية العمال. ومنطق الربحية والتنافسية هذا يجعل أمثال السيد “لايسز” يُعارضون سياسات الحكومة التي تصب في مصلحة العمال والموظفين.
وإذا ما واجه السيد “لايسز” اختيارًا بين أن يتبنى سياسات تضر بالعمال والمجتمع ككل أو أن يُغلق مصنعه تمامًا، فماذا سيختار ؟.. ففي نهاية المطاف لا يرغب السيد “لايسز” أن يعود إلى مرتبة الموظف أو العامل. وحتى لو قرر أن يأخذ موقفًا أخلاقيًّا ضد هذه السياسات المُجحفة في حق العمال، ألن يأتي الرأسماليون الآخرون ويدفعون هذه السياسات كي تدخل حيز التنفيذ ؟.. وسيُعارضون القوانين التي ترفع تكاليفهم مثل رفع الحد الأدنى للأجور، أو قوانين السلامة، والحفاظ على البيئة، وغيرها.
وللسبب نفسه يُعارض الأثرياء سياسات التوظيف الكامل؛ لأنه في وضع كهذا، تتنافس الشركات على عدد محدود من الموظفين؛ الأمر الذي يمنح الموظفين نفوذًا أكبر للتفاوض على العقود، ويجعلهم أكثر استعدادًا لتنظيم أنفسهم. ولكن على العكس من ذلك، عندما تكون هناك بطالة كبيرة، يتنافس بعض العمال مع بعض على عدد محدود من الوظائف. وهذا يجعلهم أكثر استعدادًا للقبول بوظائف سيئة، وأكثر خوفًا من فقدانها.
المسألة إذًا ليست فيما إذا كان الأشخاص أمثال السيد “لايسز” طيبين أو أشرار، لأنهم إذا أرادوا النجاح في أعمالهم، فعليهم التصرف ضد مصالح العمال.
الجانب المظلم للعمل الخيري..
يتساءل “فرينش”: ولكن الأثرياء أنفقوا كثيرًا من الأموال على الأعمال الخيرية، وسعوا للقضاء على الجوع، وتحسين التعليم، والقضاء على الأمراض، ألا يجعلهم ذلك قوة من أجل الصالح الاجتماعي ؟
ويجيب أنه في الحقيقة إن إرث هذه المشروعات مختلط على أحسن الأحوال. وفي أسوأها، تعمل المؤسسات الخيرية التي يمولها المليارديرات كحصان طروادة لتمرير السياسات التي تُعزز مصالح الأثرياء على حساب الأغلبية العظمى. وتُعد حركة “إصلاح التعليم” المدعومة من فاحشي الثراء مثالًا على ذلك. إذ سعت مؤسسة “برود” ومؤسسة “عائلة والتون” ومؤسسة “بيل آند ميليندا غيتس” إلى خصخصة التعليم من أجل انتزاع الرقابة الديمقراطية والسيطرة على نقابات المعلمين وتدميرها؛ (أحد آخر معاقل العمل المنظم في الولايات المتحدة).
وهناك انتقادات كثيرة ضد “العمل الإنساني” الممول من المليارديرات. خذ مثلًا استثمارات “هوارد غراهام بافيت”؛ (ابن وارن)، مئات المليارات من الدولارات لتحفيز التنمية وتعزيز الحفاظ على البيئة في “جمهورية الكونغو الديمقراطية” و”رواندا”. فكما ذكرت المحققة الصحافية؛ “زهرة مولو”، مكَّن “بافيت”؛ شركة “مونسانتو” وشركات أخرى، من السيطرة على اقتصاد بذور إفريقيا وطرد السكان الأصليين من الأرض لإنشاء “حديقة فيرونغا الوطنية”؛ في “الكونغو الديمقراطية”. وقاد عمله في “رواندا” إلى التقرب للديكتاتور العنيف؛ “بول كاغامي”، حتى أنه وصف “رواندا” تحت حكمه بأنها: “الدولة الأكثر تقدمًا في القارة”.
ويُشير “فرينش” إلى أن هؤلاء الأثرياء لا يتنازلون حقًا عن نصيب كبير من ثرواتهم، فقد كتبت المؤلفة؛ “نيكول أشوف”، قائلة: “حقق الأثرياء عائدًا سنويًّا لا يقل عن: 8% في محافظهم الاستثمارية على مدار العشرين سنة الماضية، ومع ذلك فهم يتبرعون بنحو: 1.2% من ثرواتهم كل عام”.
وفي الوقت نفسه تستمر عدم المساواة في الارتفاع على مستوى العالم. ووفقًا لمنظمة (أوكسفام)، في عام 2009؛ امتلك: 380 شخصًا القدر نفسه من المال الذي امتلكه: 50% من الناس الأفقر على مستوى العالم. بينما في عام 2017؛ كان: 42 شخصًا فقط يمتلكون القدر نفسه من المال الذي امتلكه: 50% من الأشخاص الأفقر. ويسود هذا النمط أيضًا في “الولايات المتحدة”، حيث يمتلك ثلاثة رجال ثروة تُعادل مجموع ما يملكه النصف الأدنى من الأميركيين.
العالم ليس في حاجة إلى الأثرياء بل لثروتهم..
إن وجهة النظر القائلة إن العمل الخيري هو الحل لمشكلات العالم؛ تعتمد على فكرة أن الأثرياء عليهم الأخذ بزمام المبادرة في مكافحة الفقر، والمرض، والمشكلات الاجتماعية الأخرى، ولكن وجود هؤلاء الرأسماليين نفسه هو ما يخلق هذه المشكلات في المقام الأول؛ إذ إن موقع هؤلاء الرأسماليين في الهيكل الاقتصادي يُجبرهم على التصرف بطرق مدمرة اجتماعيًّا. وغالبًا ما تكون جهودهم الخيرية هذه غير فعَّالة في تغيير المشهد. وكذلك كثيرًا ما يُقدم هؤلاء مصالح الأثرياء على حساب الأشخاص الذين يزعمون أنهم يساعدونهم.
لطالما تحقق التحسن في حياة الفقراء والعاملين على مدار التاريخ عن طريق الحركات الجماهيرية التي تأتي من الأسفل. وبعد عقود من التعدي الرأسمالي على النقابات العمالية، واللوائح، والسلع العامة، فإن آخر شيء يجب أن نفعله هو أن ننظر إلى هؤلاء النخب على أنهم متبرعون محسنون لنا.
ويختم الكاتب بالمصادقة على ما دعى له؛ “بيرني ساندرز”، ويقول إننا بحاجة إلى بناء حركة جماهيرية قوية بما يكفي لمواجهة أصحاب الملايين والمليارات كي نتمكن من السيطرة على الثروة وإخضاعها للرقابة الديمقراطية العامة، ثم يمكننا البدء في حل المشكلات التي لم يستطع الأغنياء حلها.