وكالات – كتابات :
كتب “بيتر ماس”، صحافي أميركي يهتم بشؤون الحرب والإعلام والأمن القومي؛ وأعدَّ تقارير عن الجنود والمدنيين أثناء حربي: “العراق” و”أفغانستان”، تقريرًا نشره موقع (ذي إنترسبت) الأميركي؛ عن حملة التضليل التي كان يقودها كبار جنرالات “الولايات المتحدة”، في “أفغانستان” و”العراق”، وذلك من خلال تقديم صورة متفائلة ومخادعة عن سير العمليات، مشيرًا إلى التدقيق الذي حدث مؤخرًا بعد أن خالفت تقاريرهم وبياناتهم بشأن قوات الأمن الأفغانية؛ ما حدث على الأرض، خلال الأسابيع الأخيرة.
التأديب للجنود والإمتيازات للجنرالات..
ويستهل “ماس” تقريره بقوله؛ إنه منذ هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، دأب الجيش الأميركي على تأديب الجنود الذين فشلوا في أداء خدمتهم على النحو المطلوب. وعُوقِب هؤلاء الجنود على جرائم بسيطة اقترفوها، مثل التأخر عن الوصول في الموعد، وجرائم أخرى خطيرة، مثل القتل أو الاعتداء على الآخرين. ومنذ عام 2001، كان هناك أكثر من: 1.3 مليون حالة تأديب في القوات المسلحة الأميركية، وفقًا لتقارير (البنتاغون) السنوية بشأن القضاء العسكري.
لكن الجنرالات الذين ضلَّلوا “الكونغرس” والشعب الأميركي؛ بشأن الحروب في: “أفغانستان” و”العراق”؛ لم يكونوا مضطرين إلى الشعور بالقلق بشأن العواقب السلبية على حياتهم المهنية. وبعد مرور 20 عامًا من حملة التضليل بشأن ما كان يحدث بالفعل على الأرض، لم يواجه أي جنرال أميركي أي عقوبة. بل على العكس – حيث جرت الإشادة بهم نظير تقييماتهم المتفائلة حدَّ الخداع وحصلوا على مزيد من النجوم، (الترقيَّات)، وبعدما تقاعدوا وحصلوا على معاشات تقاعدية عسكرية سخيَّة، حصلوا أيضًا على وظائف ذات رواتب عالية في مجالس إدارة الشركات، واستفادوا أكثر من الخداع الذي كانوا يمارسونه.
ويمضي “ماس” إلى أن هذا التناقض، (بين ما أثبته الواقع وبين التقييمات التي قدَّمها الجنرالات)؛ يخضع لتدقيق جديد بعد إنهيار الحملة الأميركية في “أفغانستان”. وفي الشهر الماضي، نشر ضابط في مشاة البحرية مقطع فيديو انتقد فيه جنرالات البلاد بلهجة حادة بسبب الفوضى التي اتَّسمت بها عمليات الإجلاء من العاصمة الأفغانية، “كابول”. وانتشر مقطع الفيديو الخاص به على نطاق واسع، لا سيما على المنصات اليمينية التي تفضل التركيز فقط على الفصل الأخير للحرب في عهد الرئيس، “جو بايدن”. لكن فيديو اللفتنانت كولونيل “ستيوارت شيلر”، الذي أثار رد فعل سريع من ماكينة الإنضباط العسكري، مع إعفاء “شيلر” من قيادته في غضون ساعات، أثار انتقاداتٍ أعمق لجنرالات “أميركا”.
وكتب “أندرو ميلبورن”، وهو كولونيل متقاعد، في مقالٍ نشرته صحيفة (مارين كوربس تايمز-Marine Corps Times)، الأسبوع الماضي: “يُعامل الضباط من حملة الأربعة نجوم، (الجنرالات وهم كبار القادة)، باحترام كبير في الجيش الأميركي. ولا ينبغي أن يسمح لهم موقعهم الجليل بأن يشنِّوا دون نقاش، حربًا مكلفة لا نهاية لها دون غاية محددة. وما هو أسوأ، ما كان ينبغي لهم تقديم تأكيدات مستمرة بأن الحرب تسير على خير حال والواقع يخالف ذلك. وعلى الرغم من حربين شهدتا نصيبهما من الكوارث، لم يُعفَ جنرال واحد من منصبه بسبب عدم كفاءته”.
وألمح الكاتب إلى أنه في “أفغانستان” و”العراق”، لقي مئات الآلاف من المدنيين والمقاتلين حتفهم، (بما في ذلك أكثر من: 07 آلاف جندي أميركي)، وأصبح ملايين الأشخاص لاجئين، وأُهدِرت تريليونات الدولارات. وكان السياسيون مسؤولون عن ذلك، وكذلك كبار المختصون، ومن يُسمون بالخبراء في مراكز الأبحاث كانوا مسؤولون أيضًا. لكن الجنرالات كانوا الأقرب إلى هذه الحروب وأكثرهم وعيًا بها، أو كان ينبغي أن يكونوا كذلك. ولكن لم يكن هناك مَنْ هم أقرب أو أكثر استفادة من شخصين على وجه الخصوص: الجنرال “لويد أوستن”، الذي يشغل الآن منصب وزير الدفاع، والجنرال “ديفيد بترايوس”، أحد أكثر الشخصيات العسكرية التي حظيت بالثناء على مدار العشرين عامًا الماضية.
لقاء في “بغداد”..
وبالعودة إلى عام 2003، دخل “أوستن” إلى اجتماع في مصفاة النفط، بـ”بغداد”، وأظهر كيف كان الجيش الأميركي في طريقه إلى كارثة في الحروب الأبدية.
وفي ذلك الوقت، كان “أوستن”، مساعد قائد فرقة المشاة الثالثة، العمود الفقري للغزو الأميركي لـ”العراق”. وقبل ذلك بشهر كانت القوات الأميركية قد سيطرت على العاصمة العراقية، التي سرعان ما إنزلقت في حالة من الفوضى. وكان “أوستن” يجتمع، في 12 آيار/مايو، مع مدير المصفاة، التي كانت هدفًا لحشود ليلية من اللصوص الذين كانوا يحاولون سرقة كل ما يمكن أن يُسرَق – البنزين والسيارات والنقود والأثاث المكتبي.
وكان لدى “دثار الخشاب”، مدير المصفاة، بند واحد على جدول أعماله. وقال لـ”أوستن”: “المشكلة هي الأمن. وأشياء غير عقلانية بالمرة تحدث في بغداد. بالأمس فقدت إحدى شاحناتِي الصغيرة”.
لم يرد “أوستن” أن يسمع أن الاحتلال كان متخبطًا. وألقى باللوم في أعمال النهب على المجرمين الذين أطلق الرئيس العراقي المخلوع، “صدام حسين”، سراحهم من السجن، على الرغم من أن النهب كان يقوم به إلى حد كبير أي شخص يمتلك عربة يدوية أو بندقية (كلاشنيكوف). وقال إن الأمور تتحسن كل يوم، لكنها في الواقع لم تكن كذلك. قال “أوستن”: “لم نَعِد أبدًا بالتخلص من كل الجرائم في مدينة يبلغ عدد سكانها: 06 ملايين نسمة، لكننا نتعامل مع الأمر. نحن ننشيء شرطة جديدة، ونفعل ذلك بسرعة”.
وكان “الخشاب” مرتديًا ملابس العمل؛ ولم يكن لديه أي عمل، بحسب التقرير. وأجابه قائلًا: “الأمور تسوء، ولا تتحسن. والسرقة مستمرة ولا تزال تحدث هنا”.
ومنذ هجمات 11 أيلول/سبتمبر، فشل الجنرالات الأميركيون باستمرار في رؤية ما كان يحدث أمام أعينهم، أو كانوا يعرفون ما كان يحدث وكذبوا بشأنه. وكان الحديث في “مصفاة الدورة” بمثابة نظرة مبكرة على هذه المتلازمة. ولم يكن هناك أدنى شك يساور أي شخص يتمتع بعقل راجح أن الأمور في “بغداد”، في تلك اللحظة ، كانت تزداد خطورة. ولكن “أوستن” أصرَّ على رؤيته الخاصة للواقع.
وقال “أوستن”: “لو وازنتَ بين إحصائيات الجريمة اليوم، بعد الحرب والإطاحة بنظام صدام، وبين أي مدينة كبيرة في العالم – فستجد أن الجريمة هنا أقل. وهناك تصور بأن الجريمة متفشية. وليس هذا هو الحال”. يقول “ماس”: “كان الخشاب، الذي كنت أتعقبه من أجل كتابة مقال في إحدى المجلات عنه، على وشك الانفجار. وقال: “لكن الشعب العراقي في بغداد يوازن بين الجريمة الآن؛ وبين ما كان عليه الحال قبل شهرين !”.
وكان “أوستن” غاضبًا في تلك اللحظة غضبًا واضحًا. ورد بقوة: “ما كان لديكم قبل شهرين كان دكتاتورًا وحشيًّا قتل الآلاف من الناس”. فأجاب “الخشاب”: “نعم، ولكن لم يكن لدينا من يسرقون السيارات ويسطون على المنازل”.
ثروة “أوستن” والإمتيازات التي ينعم بها..
يقول “ماس”: ووصل الاجتماع إلى نهاية باردة. وبعد مغادرة “أوستن”، بدأ “الخشاب” الحديث عن نصب أفخاخ لدرء خطر اللصوص.
وبعد سنوات قليلة من الغزو، عاد “أوستن” إلى “العراق”، قائدًا للقوات الأميركية هناك، وبعد ذلك تولى قيادة القيادة المركزية، مقر العمليات العسكرية في الشرق الأوسط و”أفغانستان”. وأصبح طريقه الساحر أكثر سحرًا بعد تقاعده من الجيش. وبالإضافة إلى الحصول على معاش تقاعدي شهري يبلغ حوالي: 15 ألف دولار، أنضم “أوستن” إلى عديد من مجالس إدارة الشركات، بما في ذلك مجلس إدارة شركة “يونايتد تكنولوجيز كوربوريشن”، المقاول العسكري الذي إندمج مع شركة “ريثون”، في عام 2020، والتي حصل منها على أكثر من: 1.5 مليون دولار، والمجالس الاستشارية في شركة “بوز ألين هاملتون” وشركة أسهم خاصة تُدعى: “باين آيلاند كابيتال بارتنرز”.
يمتلك وزير دفاع “بايدن” قصرًا بقيمة: 2.6 مليون دولار، في منطقة “واشنطن” العاصمة؛ من سبع غرف نوم ومرآب من خمس سيارات ومطبخين ومنزل صغير على المسبح، (هذا المنزل مصمم لإرتداء الملابس والاستحمام لمستخدمي المسبح).
أخطاء فادحة..
وأوضح الكاتب أنه في الشهادات أمام “الكونغرس”، وفي المقابلات الإعلامية وفي الخطب التي ألقوها أمام قواتهم، لم يلتزم “أوستن” والجنرالات الآخرون؛ الذين أشرفوا على حروب 11 أيلول/سبتمبر بقول الحقيقة.
وقال الجنرال في مشاة البحرية، “جون ألين”، لـ”الكونغرس”، في عام 2012، عندما كان يقود القوات الأميركية وقوات الـ (ناتو)، في “أفغانستان”: إن “القوات الأفغانية أفضل مما كنا نعتقد. وهذا تقدم كبير للغاية”. وكان خليفة “ألين”، الجنرال “جوزيف دانفورد جونيور”، متفائلًا بالقدر نفسه. وقال في “كابول”، في عام 2013: “أتحدث كثيرًا عن الفوز هذه الأيام، وأعتقد إعتقادًا راسخًا أننا في طريقنا للفوز”. وفي الحفل نفسه، أعرب نائب “دانفورد” عن تفاؤل مماثل. وقال الجنرال “مارك ميلي”، الذي يشغل الآن منصب رئيس هيئة الأركان المشتركة، إنكم: “ستنتصرون في هذه الحرب، وسنكون هناك معكم في كل خطوة على الطريق”.
وعندما تولى “أوستن” دوره على رأس القيادة المركزية، ردَّد: “كالببغاء” الحديث السعيد لأسلافه. وفي شهادته أمام “مجلس الشيوخ”، في عام 2016، قال إن الجيش الأفغاني كان يصد (طالبان): “ويزداد قوة وقدرة”. وأضاف: “تظل أفغانستان استثمارًا جديرًا بالجهد وضروريًّا من الناحية الإستراتيجية”.
تجنب ذكر حقائق قتل وحرق المدنيين..
وشدد “ماس”؛ على أنه من المهم أن نفهم ما لم يقله الجنرالات. و”أوستن”، على سبيل المثال، هنأ الجيش الأفغاني على: “استعادة مناطق رئيسة وإعادة ترسيخ الأمن فيها، مثل مدينة قندوز”. ولم يذكر أن معركة “قندوز” شاركت فيها طائرة أميركية هاجمت مستشفى وقتلت: 42 مدنيًّا – أطباء، وممرضات، ومرضى. لقد كان ذلك النوع من مذابح المدنيين هو السمة المميِّزة للعمليات العسكرية الأميركية والأفغانية، والتي أفشلت الحرب الأميركية. وبذل “أوستن”، وجيل كامل من الجنرالات؛ قصارى جهدهم لتجنب ذكر هذه التفاصيل المزعجة، وإنكارها ما لم يواجهوا أدلة دامغة، ثم لم يفعلوا أي شيء يُذكر في أعقاب ذلك لمنع تكرار هذه الفظائع.
وسيكون الأمر محبطًا بما فيه الكفاية؛ لو أن الجنرالات صدَّقوا تفاؤلهم، لكنهم لم يفعلوا ذلك، كما يوضح الكتاب الجديد للصحافي، “كريغ ويتلوك”، الذي يحمل عنوان: (أوراق أفغانستان-The Afghanistan Papers). وبناءً على المقابلات السرية التي أجرتها الحكومة مع الضباط والمدنيين الذين خدموا في “أفغانستان”، يقدم كتاب “ويتلوك” أدلة دامغة على أن القادة العسكريين كانوا يعرفون أن الحرب كانت تمضي في طريق الفشل وكذبوا بشأنها. ويستشهد الكتاب بقول كولونيل بالجيش، يدعى: “بوب كرولي”: “جرى تغيير كل نقطة بيانات لتقديم أفضل صورة ممكنة”. ووصف “ويتلوك” تقييمات الجيش المتفائلة بأنها: “غير مبررة ولا أساس لها من الصحة”، مضيفًا أنها: “ترقى إلى مستوى حملة تضليل”.
إخفاقات وأكاذيب..
يستطرد المحلل الأميركي؛ موضحًا أنه على عكس نظرائهم في عالم السياسة أو الإعلام، ينتمي أفراد القوات المسلحة الأميركية إلى مؤسسة تدَّعي أنها تخضع بقوة لنظام عدالة داخلي يُعاقِب القوات التي تنتهك قواعد السلوك الخاصة بها. ويُحاكم آلاف من الضباط والجنود سنويًّا أمام المحاكم العسكرية، ويُزج ببعضهم في السجون العسكرية، بينما يُواجه عشرات الآلاف منهم عقوباتٍ أخف وطأة، مثل تجريدهم من الرتبة العسكرية أو تنزيل درجتها، بالإضافة إلى تسريح بعضهم من الخدمة تسريحًا غير مشرِّفًا.
وأظهرت المراجعة التي أجراها موقع (ذي إنترسبت) الأميركي؛ على تقارير “وزارة الدفاع” الأميركية، (البنتاغون)، السنوية عن العدالة العسكرية، والتي تعود إلى عام 2001، أن أكثر من: 1.3 مليون حالة تعرضت لعقوبات غير قضائية ومحاكم عسكرية. وفي حين أنه لم يُعاقَب في السنوات الأخيرة سوى عدد قليل من كبار الضباط العسكريين؛ باتهامات تتعلق بتلقي رشاوى وجرائم أخرى، لم يتوفر قدر ولو ضئيل من إمكانية محاسبة الجنرالات المحاربين بسبب المذابح التي ارتكبوها.
وفي هذا الصدد، أشار “بول ينجلينغ”، ضابط متقاعد في الجيش الأميركي ومؤلف مقال انتشرت قراءته على نطاق واسع عن الجنرالات المتهربين من المسؤولية، إلى أن: “أي ضابط زيَّف المعلومات المقدمة لـ (الكونغرس) الأميركي وأسهم في تضليله والكذب عليه، يُعد قد ارتكب جريمة بموجب معايير القانون الموحد للعدالة العسكرية. وينبغي على النقباء والرقباء باستمرار مواجهة عواقب كذبهم أو ارتكابهم سلوكًا مشينًا. إن كل ما أطلبه هو أن نطبِّق المعايير نفسها، التي نتَّبعها في جرائم تزوير وثائق السفر، على إدارة الحرب”.
تطهير الجيش من الجنرالات..
يُنوه “ماس” إلى أن المقال الذي كتبه “ينجلينغ”؛ نُشِر في عام 2007، بعنوان: (فشل في القيادة)؛ وتضمن سطرًا اشتهر حاليًا وهو: “كما تبدو الأمور الآن، فإن الجندي الذي يخسر بندقيته يواجه عواقب أكبر بكثير من تلك التي يواجهها الجنرال الذي يخسر الحرب”. وبعد بضع سنوات، وجَّه “دانييل ديفيز”، مقدم متقاعد في الجيش الأميركي، انتقادات مماثلة في مقاله المنشور في (مجلة القوات المسلحة الأميركية) تحت عنوان: (تطهير الجيش الأميركي من الجنرالات)، مقترحًا إقالة: “عدد كبير” من القيادات العسكرية.
وفي عام 2012، كتب الصحافي، “توماس ريكس”، الذي قضى معظم حياته في تغطية أخبار الجيش الأميركي وتحليلها، مقالًا لاذعًا وصف فيه تاريخ الجنرالات الأميركيين، بعد 11 أيلول/سبتمبر، بأنه عبارة عن: “قصة من عدم الكفاءة التي تفاقمت بسبب انعدام المساءلة تمامًا”. وتابع “ريكس” قائلًا: “والعجيب، أن جنرالاتنا إزدادوا سوءًا بسبب إحتفاء المجتمع الأميركي بهم أكثر فأكثر، لأن هذا المجتمع أصبح الآن يتعامل مع الجيش باحترام شديد على نحو مغاير لما كان يحدث في الماضي”.
ومن جانب آخر، يُشير كتاب “ويتلوك” إلى أحد أسباب فشل الجنرالات: هو “الجبن”. وفي إحدى المقابلات العسكرية السرية، وصف الجنرال البريطاني، “بيتر غيلكريست”، الذي شغل منصب نائب قائد القوات الأميركية و”حلف شمال الأطلسي”، في السنوات الأولى من غزو “أفغانستان”، نظرائه الأميركيين بالذعر أثناء اجتماعاتهم مع وزير الدفاع الأميركي، آنذاك، “دونالد رامسفيلد”. وأوضح “غيلكريست”: “كانت هذه بمثابة صدمة ثقافية حقيقية لي. ويجب أن ترى هؤلاء الرجال، وهم رجال عظماء، وناضجون، وأذكياء، ومتَّزنون، لكنهم بَدَوا خائفين أو مرتبكين بينما كانوا يجلسون أمام وزير الدفاع الأميركي”.
كيف تُنسَج سردية الانتصار ؟
يُوضح “ماس”؛ أن “ديفيد بترايوس”، الجنرال الأكثر شهرة في الحقبة التي أعقبت أحداث 11 أيلول/سبتمبر، كان يخبره كيف كانت تسير الأمور بصورة رائعة، وكان ذلك، في عام 2005، وفي وقت مبكر من الكارثة في “العراق”. وفي ذلك الوقت، كُلِّف “بترايوس” بإنشاء جهاز أمني عراقي جديد بعد حل الجيش العراقي الأساس في بداية الاحتلال الأميركي للبلاد. وكان اختصار مسمى الجهاز الأمني البيروقراطي: “القيادة الانتقالية الأمنية متعددة الجنسيات”، في “العراق”، وكان مقره في “المنطقة الخضراء”، بـ”بغداد”، والتي كانت مطوقة بأميال من الأسوار المتفجرة والأسلاك الشائكة ونقاط التفتيش.
ويسرد الكاتب أن “بترايوس” كان لديه أربعة أجهزة كمبيوتر على مكتبه، مما ترك انطباعًا أن مكتبه يبدو وكأنه مركز عمل تاجر عُملات، وكان هناك وعاء فاكهة فوق منضدة ماهوجانية. واستخدم “بترايوس” مؤشر ليزر لإبراز إحصائيات ملف عرض تقديمي، (باور يوينت)، بعنوان: (ملخص القيادات)؛ وعرضه على شاشة تلفزيون مستوية أمام جمهوره المكون من شخصين، وهما أنا ومراسل أميركي آخر.
وبقدر كبير من الحماس، أو ما أراد “بترايوس” أن يُفهم على أنه حماس، قال إن “الولايات المتحدة” وزَّعت: 98 ألف مجموعة من الدروع الواقية لجسم الإنسان على أفراد القوات العراقية الجديدة، وأن هؤلاء المقاتلين العراقيين زودتهم “الولايات المتحدة”؛ بـ 230 مليون ذخيرة طلقات و100 ألف بندقية (كلاشينكوف)؛ و5.400 من الرشاشات الثقيلة. بالإضافة إلى إنشاء أربع قواعد في “العراق”؛ يضاهي حجمها حجم منطقة “فورت دروم” الأميركية، بإجمالي: 92 كتيبة تشغيلية يزيد عدد أفرادها عن: 40 ألف جندي. وحينئذ، قال “بترايوس” إن: “الناس لا يكفون عن التساؤل بشأن متى سيتولى العراقيون مهام السلطة. وكان العراقيون قد تولوا مسؤولية إدارة بعض المناطق”.
ويصف “ماس”؛ ما قاله “بترايوس” بأنه كان وهمًا إلى حد كبير. وكانت قوات الأمن العراقية تلك لا تزال في مهدها وغير مؤثرة بوجه عام، بالإضافة إلى اعتمادها اعتمادًا كليًّا ليس على الإمدادات الأميركية فحسب، ولكن على الجنود الأميركيين لكي يقودوا المعركة. وكان “بترايوس” يفعل تمامًا ما كان يفعله معظم الجنرالات الذين خدموا في: “العراق” و”أفغانستان”، إذ كان يجمع أي بيانات يمكنه العثور عليها وينظمها في سلسلة واحدة حتى تبدو وكأنها قصة نجاح. وكانت الإحصائيات الموجودة عرض (باور بوينت) الخاص به قديمة جدًّا قِدَم “حرب فيتنام”، وكانت الوسيلة هي البحث عن أرقام كبيرة واعتبارها انتصارًا.
جرائم حرب..
يتابع “ماس” أنه؛ كان في ذلك الوقت في مكتب “بترايوس” للحصول على الدعم والسماح له كي يرافق إحدى القوات العراقية المميزة التي بدت على استعداد للمشاركة في المعارك. وكان يُطلق عليها: “مغاوير الشرطة الخاصة”، وكان “بترايوس” أرسل أحد كبار مستشاريه، “جيم ستيل”، للعمل معهم. وحصلت منه على الضوء الأخضر للإنضمام إلى القوات، وركبت طائرة (بلاك هوك)؛ وذهبت إلى مدينة “تكريت”، ثم إلى مدينة “سامراء”، في شمال “بغداد”، حيث شاركتْ القوات الخاصة العراقية في إحدى الهجمات العسكرية إلى جانب القوات الأميركية.
كانت التكتيكات التي استخدمتها قوات (الكوماندوز) المدَّربة على أيدي القوات الأميركية غير قانونية بالمرة. ورأيت بعض المعتقلين يتعرضون للضرب، وسمعت أحد السجناء يصرخ من التعذيب، وشاهدت عملية إعدام وهمي، (حيلة تُعد تعذيبًا نفسيًّا؛ إذ يُمارس فيها إيهام الضحية عن عمد أو بالتلاعب أن إعدامه أو إعدام شخص آخر بات وشيكًا). وبعد أن أصبح واضحًا أنني رأيت كثيرًا من جرائم الحرب، أُبلِغت فجأة أن الإذن الخاص بي لمرافقة القوات قد انتهى، ويجب عليَّ حمل حقيبة الظهر والصعود إلى المروحية القادمة للذهاب إلى أي مكان آخر. وبسرعة، تواصلت هاتفيًّا عبر الأقمار الصناعية مع أكبر عدد ممكن من المسؤولين في الدقائق القليلة المتوفرة قبل إبعادي عن القاعدة الأميركية الصغيرة التي كنت أُقِيم فيها، وفي اللحظة الأخيرة، قيل لي إنه يمكنني الاستمرار لبضعة أيام أخرى.
ويشير “ماس”؛ إلى أن استخفاف أشهر جنرالات “أميركا”، (بترايوس)، تجلى مع نشر تقريره بعنوان: “هل نحاول أن نجعل العراق مثل السلفادور ؟”، في إشارة إلى الحرب الأميركية، “القذرة”، – بحسب وصف الكاتب – في “السلفادور”، في ثمانينيات القرن الماضي. وكان “ماس” يتوقع أن ينزعج “بترايوس”، لأن تكتيكات متدربيه العراقيين كانت عبارة عن انتهاكات صارخة لـ”اتفاقية جنيف”. وبدلًا عن ذلك، وبعد ساعات قليلة من نشر التقرير على الإنترنت، أرسل “بترايوس” رسالة عبر البريد الإلكتروني إلى “ماس” ليطلب تصحيحًا؛ يذكر أنه كان مسؤولًا عن إنشاء مغاوير الشرطة الخاصة. وكان “بترايوس” منزعجًا لأن الكاتب لم يمنحه التقدير الكافي في تكوين هؤلاء البلطجية الذي يرتدون ملابس المقاتلين.
إستراتيجيات لتبرير استمرار الحرب !
وفي عام 2007، عُيِّن “بترايوس” قائدًا للقوات الأميركية في “العراق”؛ وأصبح مشهورًا بتنفيذ إستراتيجية مكافحة التمرد التي صورها على أنها تركز على حماية المدنيين وكسب قلوبهم وعقولهم. وكان هذا على عكس ما كان يأمله في أن يُنسب إليه الفضل في تشكيل قوات (الكوماندوز) الوحشية قبل عامين، وأظهر هذا التناقض الإفتقار إلى الإخلاص في أي من الإستراتيجيتين. ومع ذلك، تشترك هذه الإستراتيجيات في شيء واحد: تقديم مبرر لاستمرار الحرب وتصدير وَهْم تحقيق النصر الذي يلوح في الأفق.
وألمح الكاتب إلى أن “بترايوس”، الذي أشُيد به بوصفه المُخلِّص في “العراق”، أكمل في قيادة القوات الأميركية و”حلف شمال الأطلسي”، في “أفغانستان”؛ من عام: 2010 إلى عام: 2011. وأثناء وجوده هناك، رسم صورة وردية مزيفة لما كان يحدث. وكما يوضح “ويتلوك”، في كتابه: (أوراق أفغانستان)، أن “بترايوس” أفاد لـ”الكونغرس”، في عام 2011، أن الجنود الأميركيين والأفغان شاركوا في: “عمليات محددة بدقة استنادًا إلى معلومات استخباراتية”، والتي أسفرت عن مقتل أو إلقاء القبض على: “حوالي: 360 من قادة المتمردين المستهدفين”، خلال مدة نموذجية استغرقت: 90 يومًا؛ وأن عدد مناطيد وأبراج المراقبة زاد من: 114 إلى: 184 منطادًا وبرجًا. كما أخبر لجنة القوات المسلحة بـ”مجلس النواب” الأميركي أن: “الأشهر الثمانية الماضية؛ شهدت تقدمًا ملحوظًا، ولكن بشق الأنفس. كما استولت القوات الأميركية على الملاذات الآمنة الأساسية التي كان يأوي إليها المتمردون من حركة (طالبان). وقُتل عديد من قادة المتمردين أو أُلقي القبض عليهم”.
بيد أن – بحسب كتاب “ويتلوك” -: “ضباط القوات المسلحة الأميركية في ساحة المعركة كانوا يعرفون أن أرقام الإحصائيات لا تعني شيئًا. والحقيقة الأكثر أهمية هي أن عدد الضحايا المدنيين آخذٌ في الإزدياد. وأظهرت أرقام الضحايا أن أفغانستان كانت تزداد اضطرابًا وانعدامًا للأمن، وهو ما يناقض تمامًا الذي كان من المفترض أن تنجزه إستراتيجية الولايات المتحدة لمكافحة التمرد. بالإضافة إلى ذلك، أثارت تقييمات المخابرات الأميركية شكوكًا بشأن التقدم الذي أحرزته الحرب. وأعدَّ محللو المخابرات في وكالة المخابرات المركزية والجيش تقاريرًا تتسم بالتشاؤم أكثر من تصريحات القادة العسكريين في ساحة المعارك. لكن من النادر أن يتحدث مسؤولو المخابرات علانيةً وتظل تقاريرهم طي الكتمان”.
ويؤكد “ماس” أن التقييمات العامة من الجنرالات كانت أشبه بنوع من الخداع. وفي مقال لاذع، نشر الأسبوع الماضي، كتبته “سارة تشايس”، إحدى مستشاري “بترايوس”، في “أفغانستان”، استدعت فيه إلى الأذهان كيف أنها قدمت مجموعة من المقترحات لوقف الفساد في الحكومة الأفغانية المدعومة من “الولايات المتحدة”، في العاصمة الأفغانية، “كابول”. وقالت “تشايس”: “لم تُنفذ أي من هذه الخطط على الإطلاق. واستجابت لطلبات بترايوس المتكررة؛ حتى أدركت أنه لا ينوي تنفيذ توصياتي؛ على اعتبار أنه كان مجرد عمل فني”.
تآمر السياسيين والعسكريين على استمرار إراقة الدماء..
يُضيف “ماس”؛ أن “بترايوس” استمر في الترقي في المناصب واحدًا تلو الآخر. وفي أواخر عام 2011، اختاره الرئيس الأميركي، “باراك أوباما”، لتولي رئاسة “وكالة المخابرات المركزية”، ولكن في عام 2012، سقط متلبسًا وهو يُشارك معلومات سرية جدًّا مع صديقته وكاتبة مذكراته. واستقال من “وكالة المخابرات المركزية” وتجنب الوقوع تحت طائلة اتهامات المسؤولية الجنائية والحكم عليه بالسجن المطول الذي دمَّر حياة أشخاص آخرين سرَّبوا معلومات سرية.
وبدلًا عن ذلك، عقد “بترايوس” شراكة مربحة في عملاق الأسهم الخاصة، شركة “كولبرغ كرافيس روبرتس”، (شركة استثمار عالمية أميركية تُدير فئات أصول بديلة متعددة)”. وغالبًا ما يلقي خطابات إلى الجماهير الودودة، ويظهر مرارًا وتكرارًا على التلفزيون، حيث انتقد بشدة انسحاب “الولايات المتحدة” من “أفغانستان”، في الأيام الأخيرة.
من جانبهم؛ يؤكد بعض المنتقدين العسكريين مثل “ينجلينغ”، على ضرورة استجواب “بترايوس” والحصول على إجابة منه لعدد من الأسئلة الصعبة التي يوجهها له “الكونغرس” الأميركي، وليس الإجابة على الأسئلة البسيطة التي يطرحها مذيعو التلفزيون. وتحدث “ينجلينغ” إلى موقع (ذي إنترسبت)؛ قائلًا: إن “الكونغرس يتمتع بسلطة استدعاء الشهود وإجبارهم على الإدلاء بشهاداتهم. ويُمكنهم استدعاء الجنرال بترايوس؛ وإرغامه على تقديم شهادته. ويمكنهم وضع الوثائق أمامه ليسألوه عما كان يعرفه، عندما علم بها. وإذا لم يفعلوا ذلك، فإن هذا الفشل في حد ذاته يُعد تواطؤًا”.
ويختتم “ماس” مقاله بالإشارة إلى أن “ينجلينغ” يعلم جيدًا أن رغبته في إجراء تحقيق نزيه في “الكونغرس” لا تزيد عن كونها مجرد أحلام يقظة؛ لأن القادة السياسيين الأميركيين كانوا متآمرين مع الجنرالات في استمرار إراقة الدماء خارج “الولايات المتحدة”. ومع إنقشاع الغبار، بعد 20 عامًا، من الحرب الأميركية في “أفغانستان”، يمضي “الكونغرس” قدمًا في طريقه للموافقة على ميزانية عسكرية ستكون الأكبر على الإطلاق.