لماذا فازت دول وخسرت أخرى ؟ .. حينما تُصبح “التنمية” مجرد مقامرة للنخبة !

لماذا فازت دول وخسرت أخرى ؟ .. حينما تُصبح “التنمية” مجرد مقامرة للنخبة !

وكالات – كتابات :

شهدت العقود الثلاثة الأخيرة تغيرات هائلة في العالم النامي، إذ انخفض معدل الفقر بشكلٍ عام، وأصبح الناس يعيشون حياة أطول وأكثر صحة، وتبدلت الاقتصادات، وبرزت هذه التغييرات أكثر في منطقة “آسيا”؛ (بحسب الإحصاءات الغربية والأممية التي تعتمد آليات مضللة وغير حقيقية)، بينما تُعاني “إفريقيا” معدلات متصاعدة للفقر المدقع؛ وإن استطاعت بعض دول القارة السمراء خوض مسارات تنموية ناجحة.

من هنا، يسعى “ستيفان ديركون”؛ في كتابه الجديد: (المقامرة في التنمية)، إلى الإجابة عن تساؤل وهو: لماذا ازدهرت بعض الدول وفشل البعض الآخر ؟.. وذلك عبر استخلاص الدروس المستفادة على مدار: 30 عامًا من البحث في التنمية العالمية، بالإضافة إلى خبرته لعشر سنوات من مجال التنمية في “المملكة المتحدة”، إذ عمل كبيرًا للاقتصاديين في “وزارة التنمية الدولية”، ثم مستشارًا سياسيًا لوزير الخارجية البريطاني.

ويُجادل “ديركون” أن التنمية تحدث عندما تُريد “النخب المحلية” – السياسيون وكبار البيروقراطيين وأحيانًا القادة العسكريون الذين يمسكون بزمام الدولة – أن يحدث ذلك، فهؤلاء هم الأشخاص الذين يتمتعون بالسلطة السياسية والاقتصادية، وعندما يقررون أن أفضل رهان لإدامة سلطتهم ورفاهيتهم هو السعي لتحقيق مكاسب واسعة النطاق تعود على قطاعات واسعة من السكان، فإنهم يجعلون النتائج الجيدة للتنمية أكثر احتمالية، في المقابل، عندما لا تتسم صفقة النخبة بأنها تنموية؛ لكنها تسعى بدلاً من ذلك إلى الإثراء الذاتي من خلال السرقة أو المحسوبية، فلن يحدث التطور.

إطار عام..

ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام، أولها، يُقارن بين آراء مفكري التنمية المعروفين حول التجارب المتباينة للبلدان أثناء سعيها لتحقيق التنمية والنمو، إذ يقدم كل مفكر إطارًا تنافسيًا لما يُفسر النجاح والفشل في التنمية، مع ذلك لم تقدم هذه الأُطر – من وجهة نظر “ديركون” – تفسيرًا كافيًا لبعض قصص النجاح الحديثة.

ثم ينتقل الكاتب إلى شرح فكرة صفقة النخبة التنموية عبر مزيج من عوامل السياسة والاقتصاد مع استعراض أبرز مؤشرات التنمية لعدد من الدول الناجحة والمتعثرة.

يستعرض القسم الثاني التجارب المتنوعة للبلدان الناجحة، إذ يُقدم أمثلة لثلاث بلدان – “الصين وإندونيسيا والهند” – ظهرت فيها صفقات إنمائية مؤخرًا، حتى لو كانت بطرق مختلفة، ثم ينتقل إلى فحص طبيعة هذه الصفقات في خمس عشرة دولة.

هنا؛ يُسلط الكاتب الضوء على أنواع ودوافع السياسات الاقتصادية التي جاءت كنتيجة صفقة بين النخبة، وكيف ساعدت أو أعاقت التقدم في التنمية ؟

ويُبرز الكتاب أزمة (الإيبولا) في “سيراليون”، وفضائح الفساد وسوء إدارة “سوق الذرة” في “ملاوي”، والإصلاح الدستوري في “كينيا”، وبرامج الإغاثة في “جنوب السودان”، واجتماعات العمل في أرض “الصومال”، والنجاح غير المتوقع للنمو في “بنغلاديش” و”إثيوبيا”، وهو ما تم بناءً على محادثات مع رؤساء الوزراء ونواب الرؤساء وموظفي الخدمة المدنية، وكذلك مع الرجال والنساء العاديين وأصحاب الأعمال الصغيرة في هذه البلدان.

ويناقش القسم الثالث كيفية تعزيز التنمية حتى في بعض أسوأ الظروف؛ (محليًا وكذلك من قبل الجهات الفاعلة الدولية)، كما يعرض ما يمكن القيام به لمساعدة المزيد من البلدان على تحقيق صفقات إنمائية ناجحة، وتحسينها، ودعم استدامتها، ويختتم باستكشاف ما يمكن فعله لدعم السكان الذين يعيشون في فقر، على الرغم من الفرص الضئيلة لإحراز تقدم حقيقي في التنمية، مبرزًا دور السياسات الدولية في زيادة احتمالية التنمية الناجحة والسماح للدول والنخب القيادية فيها بالمقامرة على التنمية طويلة الأجل على الرغم من التحديات التي تواجهها.

عوامل التنمية..

يستخلص “ديركون”؛ عبر أقسام الكتاب، أربعة عوامل مؤثرة في عملية النمو والتنمية في الدول النامية، الأول: أن البلدان والشعوب فقيرة بسبب ضعف مواردها، والثاني: أن فشل السوق مكلف للفقراء وقد يوقعهم في براثن الفقر، والثالث: أن معوقات النمو تنبع من إخفاقات السوق المكلفة للبلدان الفقيرة، بينما الرابع: يتمثل في أن معوقات النمو تنبع من الإخفاقات في الدول وحوكمتها، وبالرغم من هذه العوامل، فإن الكاتب يستنتج أنه لا يوجد “معيار واحد ومحدد” يُمثل حلاً واحدًا يناسب الجميع في مساره للتنمية.

ويتناول الكاتب ما نشره “جيفري ساكس”، في كتابه: (نهاية الفقر)؛ في عام 2005، وهو الأول من بين الكثير من الكتب التي تقدم رؤية كبرى للتنمية، ويرى أن هناك دافعين كبيرين للفجوات وانخفاض النمو في بعض البلدان، الدافع الأول، هو معاناة بعض البلدان من انتشار الفقر؛ لأنها تواجه تحديات جغرافية ومناخية تؤدي إلى مشاكل صحية خطيرة، مثل (الملاريا) أو غيرها من الأمراض المعدية الإستوائية، وبالتالي لن تتغلب الأسواق بسهولة على مثل هذه الأمراض.

أما الدافع الثاني، فيتعلق بأن إخفاقات أسواق الائتمان العالمية تمنع البلدان الفقيرة من بناء رأس المال الذي تحتاجه للاستثمار في الصحة أو غيرها من البنية التحتية الاقتصادية أو الاجتماعية، وهنا يكمن الحل في دفعة كبيرة من المساعدات الدولية لتقديم المعرفة والتمويل في هذه البلدان من خلال دعم التنمية، وخاصة فيما يتعلق بالصحة.

مقامرة المانحين..

يُجادل “ديركون” بأن أحد الجوانب الأكثر إقناعًا لنظرية صفقات التنمية؛ هو أنها مقامرة للفاعلين المحليين، إذ لا يوجد ضمان للمكافآت أو النجاح، لكن أحد الآثار المترتبة على ذلك هو أن المانحين الذين يرغبون في دعم صفقة إنمائية يخوضون مقامرة مزدوجة نظرًا لأنهم يواجهون معلومات غير كاملة وغير متماثلة حول المحتوى الحقيقي لصفقة النخبة الإنمائية.

ومن ثم، فإن المانحين غير متأكدين من الطبيعة الحقيقية للصفقة، ويجب عليهم أولاً أن يُراهنوا على ما إذا كانت صفقة التنمية موجودة أصلاً.

وإذا تأكد المانحون من وجود مثل هكذا صفقة، فإنهم بحاجة إلى المقامرة مرة أخرى عن طريق وضع الأموال خلفها لتسريع التقدم في الأنشطة الداعمة للتنمية، مثل المشورة بشأن السياسات ومحاولات التغيير وتحسين الإدارة الاقتصادية، مع احتمالات غير مؤكدة للنجاح.

وتختلف المقامرة المزدوجة عن الاتجاه العام لكيفية عمل المانحين، حيث يبحث المانحون عن تدخلات فعالة من حيث التكلفة والعوائد الجيدة المتوقعة، كما يتضح من أعمال: “المشتريات الذكية”، التي قام بها “البنك الدولي” و(FCDO)، مؤخرًا في مجال التعليم، لكن المعنى الضمني لأطروحة “ديركون” هو أن العديد من أنواع الدعم التي تفشل في سياقات أخرى يمكن أن تنجح عندما تكون صفقة التنمية في مكانها الصحيح، فإذا كانت النخب في بلد ما تراهن على التنمية على المدى الطويل، فيجب أن يكون المانحون على استعداد لمضاهاتهم، حتى في ظل خطر إنهيار الصفقة وتحقيق القليل.

تجارب إفريقية..

يعترف “ديركون” أنه في أواخر الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، كان الأمر: “محبطًا بشكلٍ خاص لأولئك الذين يعملون في إفريقيا”، لكن بحلول مطلع الألفية الجديدة، بدا أن “إفريقيا” تتحول إلى منعطف جديد، حيث وجدت القارة أخيرًا استقرارًا يمكن أن يُغير آفاقها الاقتصادية.

وتحت عنوان: “لا يوجد ما يكفي من النفط ولا الماس”، يُحلل الكاتب في إثنتين من أهم دول “إفريقيا”، وهما: “نيجيريا” و”جمهورية الكونغو الديمقراطية”.

بالنسبة لـ”نيجيريا”، يؤكد الكاتب أنه على الرغم من أنها أكثر ثراءً من حيث موارد النفطية مقارنة بالدول الإفريقية الأخرى، فإن العديد من مؤشراتها الاجتماعية أقل بشكلٍ يرثى له، فمستويات الفقر المدقع، على سبيل المثال، بائسة، كما أن معدل وفاة الأطفال قبل بلوغهم سن عام واحد في “نيجيريا” يبلغ ضعف معدله في: “كينيا وأوغندا وغانا”.

وتؤكد ظروف “نيجيريا” أحد الاستنتاجات الرئيسة للمؤلف، وهو أنه لكي يتطور بلدٍ ما، يجب على النخبة عقد صفقة بين حماية مصالحهم والسعي لتحقيق التقدم الاقتصادي.

ويعتقد “ديركون” أنه لكي تنجح صفقة التنمية؛ يجب أن تكون لها ثلاث سمات مشتركة، الأولى: أن تكون سياسات الصفقة لصالح التنمية حقيقية وذات مصداقية، وليست مجرد بيان رسمي أو تصريح رسمي غامض. والثانية: استخدام قدرات الدولة لتحقيق أهداف الصفقة، لكن الأهم من ذلك أن تتجنب الدولة القيام بأكثر مما تستطيع التعامل معه. وثالثًا وأخيرًا: أن تمتلك الدولة قدرة سياسية وتقنية على التعلم من الأخطاء وتصحيح المسار.

وعلى الرغم من أن التساؤل يظل مطروحًا حول مدى قدرة “نيجيريا” على تحقيق هذه الشروط المسبقة، لكن هناك بعض الأمل في أنه مع تولي الأجيال الجديدة السلطة، ستفسح المجال لبيئة سياسية أكثر تقدمًا واستقرارًا.

الأمل ذاته ينطبق على العملاق الإفريقي – “جمهورية الكونغو الديمقراطية”، إذ كان للبلاد تاريخ مؤلم من الاستغلال الذي حدده “ديركون”، بدءًا من الحقبة الاستعمارية الوحشية للملك “ليوبولد”، وحتى نهب “موبوتو سيسي سيكو”، للدولة.

مع ذلك، يؤكد المؤلف أن بعض الحكومات المحلية تُحاول تحقيق خدمات وظيفية، ودفع رواتب جيدة، والحفاظ على خدمات صحية معقولة.

وتُشير البيانات إلى أن “جمهورية الكونغو الديمقراطية” لا تتجه نحو المزيد من الخسارة أو الاستنزاف، حيث استقر الاقتصاد، وكان النمو مقبولاً، وإن كان عند مستويات منخفضة للغاية.

ومع ذلك، من الواضح أن هذا البلد لم يكن يسير فيما مضى على طريق التنمية أو السلام، لذلك كان التغيير ضئيلاً للغاية.

في النهاية، يؤكد الكاتب، أنه رغم الصورة القاتمة التي رسمها لتجربة بعض البلدان في مسار التنمية، مازال التفاؤل قائمًا، فقد تحسنت العديد من البلدان، التي بدت وكأنها حالات ميؤوس منها قبل عقود قليلة، بشكل كبير، حتى لو لم تصل بعد إلى مستويات المعيشة التي يستحقها الناس، ويدعو “ديركون” القادة السياسيين والاقتصاديين، والمفكرين، والأكاديميين، والمواطنين بشكلٍ عام في تلك المناطق التي توصم بالفشل ولازالت تُخاطر بالبقاء في المؤخرة، أن يتعلموا الدروس من هذه النجاحات – ويُخاطروا بالمقامرة على التنمية.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة