كيف تم تخطيط وتنفيذ انقلاب 1958 في العراق؟

كيف تم تخطيط وتنفيذ انقلاب 1958 في العراق؟

كتب أحمد باش أعيان : لم يكن مخططا لبحثي عن انقلاب الرابع عشر من يوليو (تموز) 1958 أن ‏يتبلور ليصبح كتابا قائما بذاته. ذلك أن الدافع وراءه كان، في بداية الأمر، مجرد فضول شخصي، سببه ‏الحاجة الملحة لفهم ما الذي جرى في العراق صبيحة ذلك اليوم تحديدا.‏

كانت لهذه اللجاجة عدة أوجه؛ أولها الوجه الشخصي المباشر، كون أسرتي من بين أشد المتضررين ‏من وقوع هذا الانقلاب، وكان لي من العمر أقل من ثماني سنوات يوم وقوع الانقلاب. ومن الطبيعي ‏أن يتأثر المرء أشد ما يتأثر بالأحداث التي تمسه هو أو من يحب مباشرة، خاصة إذا ما كان الحدث من ‏نوعية الأحداث الخطيرة والتغييرات التي جاء بها هذا الانقلاب، والتي مست كل أوجه الحياة في ‏العراق. والوجه الآخر لاهتمامي بهذا الموضوع هو أنه سرعان ما اتضح أن هذا الانقلاب شكل نقطة ‏تحول مفصلية على المدى البعيد، ليس بالنسبة للعراق وحده، بل للمنطقة بأسرها. يضاف إلى ذلك كله ‏فضولي الشخصي وولعي بالتاريخ بصورة عامة.‏
منذ وقوع ذلك الانقلاب كنا نسمع روايات مكثفة عما كان يدور في العراق من أحداث، وعلى مر ‏الساعات. وكان معظم هذه الروايات مشوشا، لأن أكثره كان ارتجاليا أو منحازا. فقد كانت تتردد على ‏مسامعنا أسماء الشخصيات الرئيسة المرتبطة بالانقلاب، والصراعات التي جرت بينهم، ومسلسلات ‏الأحداث الدرامية المتسارعة والمعقدة، التي سبقت الانقلاب وتلته. ولم يكن بالإمكان لطفل وجد نفسه ‏في خضم هذه الأحداث المتلاطمة ترتيب الأحداث حسب تسلسلها الزمني، وربط الأسباب بمسبباتها، ‏ووضع الشخصيات في أطرها الصحيحة. وطبيعي أن يتولى العقل الباطني دفع هذه الأمور إلى طبقات ‏داخلية من الوعي، لكي يفسح المجال أمام مشاغل الحياة اليومية. لكن، ومع مرور الزمن، كانت هذه ‏التساؤلات والتأملات تطفو على السطح كلما تعرضت لمحفزات تستثير الذاكرة المرتبطة بها، لتعود ‏فتطمس، ولكن إلى حين. فعندما كبرت وبلغت سن النضج، كنت أتحين الفرص لالتقاط ما أمكنني من ‏معلومات من الأهل وجيلهم من الأصدقاء، عن ذكرياتهم وتجاربهم في ما يخص ذلك الحدث الجلل، ‏فكان البعض منهم يفيدني بما عنده، والآخر يتحاشى تذكر تلك الأحداث، التي تركت في أعماق نفوس ‏عامة العراقيين، خاصة أولئك الذين تضرروا منها مباشرة، ندوبا راسخة ومشاعر مرة.‏
ورغم ذلك، فقد سعيت، بين الحين والآخر، للبحث في بعض المصادر المنشورة، أيا كانت خلفيتها، من ‏أجل تبين خيوط الحدث، خلال ما تيسر لي من أوقات الفراغ، كوني غير متخصص في أي من العلوم ‏الإنسانية. وبعد تقاعدي عن العمل الوظيفي وجدت أمامي متسعا من الوقت، مكنني من متابعة هواياتي ‏المتنوعة بنفس جديد وتفرغ. ومن خلال هذا البحث الارتجالي، تمكنت من الوصول إلى عدد من ‏المصادر الجديدة (بالنسبة لي)، كان أكثرها من نوع الكتب المنشورة، قديما وحديثا، من التي تتعلق ‏بالانقلاب، مباشرة أو غير مباشرة. وقد كان لكل واحد من هذه المصادر حسناته وسيئاته، فإلى جانب ‏الحسنات، كان بعضها مليئا بالتفاصيل المهمة، والتي لم يسبق أن اطّلعت عليها؛ وأخرى منها كانت ‏تستند إلى روايات شهود عيان؛ كما كان البعض الآخر من السعة والعمق بأنه ضم خلفيات تاريخية ‏مهمة للانقلابات الأخرى في العراق والتي سبقت انقلاب 14 تموز هذا، وكذلك حاول الربط بين ‏الانقلاب المذكور وسياسات الدولة العراقية في العهد الملكي، الداخلية منها والخارجية؛ وكان للبعض ‏الآخر من هذه المصادر الفضل في بحث الخلفيات الأسرية والمهنية للشخصيات الرئيسة التي شاركت ‏في الانقلاب. وأما من ناحية الجانب السلبي، فإنني لم أجد مصدرا واحدا يسرد الأحداث بتسلسل زمني ‏متين، أو يجمع بين كل المزايا الإيجابية المذكورة، حيث إننّي وجدت كل هذه المزايا الإيجابية متناثرة ‏بين المصادر المتنوعة. ومهما يكن من أمر، فقد تكونت أمامي صورة عن هذا الانقلاب هي أشد ‏وضوحا وتنسيقا من ذي قبل، رغم أنها ما زالت صورة غير كاملة. وبعد قيامي بتدوين المعلومات التي ‏أفرزتها سلسلة البحوث هذه، وترتيبها بالتسلسل الزمني، وجدت أمامي مادة حرية بأن تكون كتابا ذا ‏فحوى لا يستهان به، ربما كانت ذات فائدة عامة.‏
لكني في تأملي لفكرة نشر ما توافر لي من معلومات، وجدتني أواجه ثلاثة تحديات رئيسة، هي:‏
‏ 1) أن المصادر المعتمدة، رغم كونها لا يستهان بها، فإنها تبقى محدودة، كوني لم أبحث أو أطلع إلا ‏على جزء قليل نسبيا مما نشر حول هذا الموضوع، ولكون معظم المصادر الأولية تقبع في أرشيفات ‏وعلى رفوف دوائر السجلات الرسمية والمكتبات في أماكن متفرقة ومتباعدة في أرجاء العالم، يتعسر ‏على من مثلي الوصول إليها.. 2) كوني قد ينظر إلى على أنني منتم إلى طرف من أطراف الحدث، ‏وهذا من شأنه أن يعرّض شهادتي للتساؤل.. 3) كوني غير متخصص في موضوع البحث.‏
وقد تعاملت مع هذه التحديات بأن سعيت إلى الاجتهاد، بقدر ما هو ممكن بشريا وعمليا، لتقليص ‏تأثيرات كل هذه العوامل في موضوعية البحث وسلامة التحليل. ولا أدعي بأنني وفقت إلى ذلك مائة ‏في المائة، لكن العبرة هي في صدق النوايا والسعي إلى تحقيق أقصى درجة من الاجتهاد، ويبقى ‏الكمال لله سبحانه وتعالى وحده. وبما أن عقل الإنسان والعلوم البشرية مهما تطورت ونمت فإنها لا بد ‏أن تظل ناقصة، فإن كل مرحلة من مراحل البحث المعرفي تنتهي بأمل أنها تكون قد أسهمت في ‏تمهيد جزء من الطريق الساعي إلى بلوغ الحقيقة، ليأتي آخرون ويبدأوا من حيث وصل من سبقهم في ‏هذا الاتجاه، ويتابعوا مسيرة البحث هذه، وهكذا، تباعا، يتم تطور الأفراد وترتقي الجماعات بثقافتها ‏وحضارتها.‏
وعليه، فقد حرصت، قدر المستطاع، على إيلاء عملية التوصل للحدث الوقائعي، بموضوعية مادية ‏مجردة، أهمية أولية، ومن ثم أن أنتقل بها إلى مرحلة التحليل، وبعد ذلك إلى السرد الانطباعي للحدث. ‏وأما الجانب التحليلي فقد حرصت على أن أفصله عن الجانب الوقائعي بشكل واضح، تحاشيا لخطر ‏الخلط بين الواقعة المادية وما يترتب عليها من استنتاجات منطقية من جهة، وبين اجتهاداتي كمؤلف، ‏من جهة أخرى. كما اعتمدت طائفة من المراجع المتنوعة في مصادرها ووسائطها النقلية، والتي ‏شكلت في مجملها المورد الأساسي للبحث.‏
يركز الكتاب على تفاصيل التخطيط والتنفيذ لانقلاب 14 تموز بالذات، وأسباب نجاحه، وتداعياته على ‏العراق. أما الجانب التحليلي فإنه يبحث في أسباب وظروف نشوء التنظيم السري الذي قام بتنفيذ ‏الانقلاب والأحداث السياسية المفصلية في العراق وسائر العالم العربي التي أفرزت حركات المعارضة ‏والتمرد في العراق خلال ذلك العهد، ابتداء بانقلاب بكر صدقي عام 1936، وانتهاء بقيام الاتحاد ‏العربي بين العراق والأردن خلال شهر فبراير (شباط) 1958. كما يبحث الكتاب، وبشيء من ‏الإسهاب، في علاقات ومواقف كل من بريطانيا والحزب الشيوعي العراقي والتيار الناصري بالنظام ‏الملكي والحركة الانقلابية.‏
صدر الكتاب في 443 صفحة من الحجم المتوسط عن دار «الحكمة» في لندن.‏

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة