10 أبريل، 2024 11:09 م
Search
Close this search box.

“كتابات” تنفرد بنشر النص الكامل لرواية “ألكاتم” .. تسجيلية بامتياز تحتاجها المرحلة 

Facebook
Twitter
LinkedIn

كانت ” كتابات ” قد تبنت تظاهرات يوم الغضب العراقي التي دعت اليها في يوم 25 – 2 – 2011 اثر بيان وردها من مواطن عراقي .. استجاب الى ذلك عشرات الكُتّاب ومئات المثقفين العراقيين في الداخل والخارج وانضم اليها آلاف العراقيين في تظاهرات عدت الأولى من نوعها في تاريخ العراق عمت اغلب المحافظات . الحكومة العراقية وعلى رأسها نوري المالكي تعامل بقسوة شديدة مع هذه التظاهرات لن ينساها له الشعب العراقي وراح ضحيتها شباب عراقيون بعمر الزهور .
هذه التظاهرات اربكت الحكومة والأحزاب ومجلس النواب وكل من قدم مع الأمريكان من السياسيين العراقيين الذين شجعوها على احتلال العراق وتفكيكه بحجة تعدد مكوناته .. في البدء انضمت اليها المرجعية وقبل انطلاقها بساعات تراجعت عن ذلك اثر ضغوط من المالكي عليها ..
من الأوائل الذين استجابوا الى هذه الدعوة وانضمامهم اليها هو الشهيد الشجاع الفنان هادي المهدي وكان محركا اساسيا لها .. وكان ايضا احد المشاركين الشجعان في مؤتمر اسطنبول للحركات الاحتجاجية في العراق ، التي دعت اليه ” كتابات ” في حزيران من عام 2011 ..
استمرت التظاهرات الاحتجاجية لأسابيع عدة بعد 25 – شباط – 2011 واضحت تقليدا اسبوعيا وجدت في ساحة التحرير التاريخية مكانا لها ضد من سرق الوطن وشجع على احتلاله وتفكيكه .. وكان الشهيد المهدي حاضرا في كل هذه التظاهرات ومن خلال برنامجه الاذاعي الشهير ” ياسامعين الصوت ” .. وتعرض للإعتقال من قبل قوات عسكرية تابعة للمالكي ، تأتمر بامره واطلق سراحه مع مجموعة من المثقفين العراقيين استجابة لضغوط اعلامية وشعبية ..
الفاسدون في الحكومة وفي مجلس النواب وفي احزاب الاسلام السياسي لم يرق لهم استمرار الشهيد المهدي في فضحهم عبر وسائل الاعلام ، حتى اجتمعوا في ليلة ظلماء وقرروا اسكات هذا الصوت الشجاع في ظهيرة الثامن من ايلول عام 2011 .. وضاع دمه بين هؤلاء !! .
الرواية ادناه التي تنفرد ” كتابات ” بنشرها كاملة تتحدث عن هادي المهدي ، بصوته وبصوت الآخرين عنه .. نضعها بين ايدي جمهورنا الكريم ليتأملها ، علها تحفزه لإنتفاضة اخرى تؤكد للحكومة ولكل الفاسدين من معممين وغيرهم ان هذا الشعب مازال شعبا حيا لن ينسى لهم افعالهم المشينة بحقه وبحق الوطن .
كتابات في 12 – ايلول – 2012
———

تمهيد لا بدّ منه

بعد مرور عام على جريمة اغتيالي التي حولها أعداء الحرية إلى جريمة جنائية قيدت ضد مجهول، وكذلك استشهاد عدد من زملائي وزميلاتي بشكل غامض يثير الشبهات، يضاف إليها خمود همة من كنت أتصور أنهم سيتقدمون ويكملون مشوار الحرية واستعادة كرامة العراق والعراقيين بعدنا نحن شهداء الكلمة، شهداء ساحة التحرير.
أجد نفسي اليوم مسؤولاً أمام أصدقائي وقبلهم أسرتي الصغيرة التي أفتقدها كثيراً مثلما أفتقد نصب الحرية وشوارع بغداد اليوم، على وضع هذا الكتاب أمام أعين من تراجع، من نسي، من خاف، من تحول إلى ضفة السلطة، ومن صدق ويصدق كل أوهام ومسرحيات الجلادين.
إلى كل هؤلاء أقول من مات لم يمت وهو يعود إليكم بهذا الكتاب الذي سأعتبر كل سلطة تحاول منع توزيعه سواء في العراق أو خارجه، هي سلطة إما أن تكون قد تورطت بدمنا أو أنها ستتورط في أعمارنا حال منعها لهذه الوقائع التي نريد منها كشف من يريدون رأس العراق والعراقيين لا رأس الإمام.
شهيد الحرية
2012

«من يريد أن يحكم العراق، عليه امتلاك المال».
د. أحمد الجلبي من كتاب الرجل الذي دفع أمريكا للحرب
« المتهم مُدان حتى تثبت براءته».
نوري المالكي، رئيس وزراء العراق
«عدتم مرفوعي الرأس وأنجزتم المهمة، تاركين خلفكم عراقاً مستقرّاً، آمناً، حرّاً وديمقراطياً».
الرئيس أوباما مخاطباً الجنود الأمريكان بعد انسحابهم من العراق 2011

كفى
«كفى، إنني ومنذ ثلاثة أيام أعيش حالة رعب، فهناك من يتصل بي ليحذّرني من مداهمات واعتقالات للمتظاهرين، وهناك من يقول: ستفعل الحكومة كذا وكذا، وهناك من يدخل متنكّراً ليهدّدني في الفيس بوك. سأشارك في التظاهرات وإني من مؤيديها، وأنا أعتقد أن العملية السياسية تجسّد قمامة من الفشل الوطني والاقتصادي والسياسي وهي تستحق التغيير، وإننا نستحق حكومة أفضل، باختصار، أنا لا أمثل حزباً، ولا أية جهة، إنما أمثل الواقع المزري الذي نعيشه، لقد سئمت مشاهدة أمهاتنا يشحذن في الشوارع، ومللت أخبار تخمة ونهب السياسيين لثروات العراق».
آخر ما دوَّنه الشهيد المهدي على صفحته في الفيس بوك
قبل ساعات من اغتياله في الثامن من أيلول 2011
According to Human Rights Watch, just hours before his death, he posted the following message describing recent death threats against him:
“Enough… I have lived the last three days in a state of terror. There are some who call me and warn me of raids and arrests of protesters. There is someone saying that the government will do this and that. There is someone with a fake name coming on to Facebook to threaten me. I will take part in the demonstrations, for I am one of its supporters. I firmly believe that the political process embodies a national, economic, and political failure. It deserves to change, and we deserve a better government. In short, I do not represent any political party or any other side, but rather the miserable reality in which we live… I am sick of seeing our mothers beg in the streets and I am sick of news of politicians’ gluttony and of their looting of Iraq’s riches.”

«المدافعون عن البؤس هم الذين يستفيدون من بداهة هذا البؤس، وبما أن المجتمع على بيّنة منه، فإنه لا يجوز لأحد التحدث عنه ويمكن للأمور أن تستمر على ما هو عليه من دون تأجيج وتحت غطاء الصمت».
ثيودور أدورنو من كتاب الحياة الدنيا

الفصل الأول
المدافعون عن البؤس

أشعر بقربك الآن. فبالتأكيد أنت تسمعني هذه الساعة بشكل مباشر لأنني أتلمّسك ، وأبصر جوانب حضور صوتك البهي.
لقد تصوّر القتلة أنهم بموتي قد تقرّبوا إليك زلفة. هل حقاً أنت عاصمهم من الخطايا كما يحاولون أن يخدّروا هذا الشعب المدافع عن البؤس؟!!.
أعرف أنك غاضب علي، أنا السكّير الماجن الصاخب بحب الحياة، كل هذا كان قبل يوم الغضب، أي قبل يوم 25 شباط 2011.
لكنني ما نسيتك حتى وأنا في أعتى حالات الثمالة، فجبروتك لم يغب عنّي. كنت أنتخي بك وأصرخ أينككككككككككككككك؟؟؟؟؟؟.
أينك؟ يا جبّار، أينك يا مهيمن، وأينك يا قهّار، أينك…..؟!.
هل أنت مدرك بما حلّ بنا وبالعراق؟!.
هل يعقل أن تكون المشيئة هي التي قرّرت كل ذلك؟!
كيف لم تتبرأ هذه المشيئة من الذين يستأجرونها ليقتلوا الناس تحت رايتها؟
تحت راية المظلومين كانوا يدفعون بالظلم إلى الظلام.
حكّامنا يحملون رأسك ورؤوس محبيك وأولياءك سيوفاً مسلطة فوق رؤوس الأحرار المدافعين عن دستور الحياة الكريمة وعن قدسيّة الحرية!
الحرية التي نريد أن نصنعها نحن. وببساطة فإن حرية العراقي تتلخّص في مفردات واضحة: هي الخدمات والأمان والأمن ، العدالة والسفر، هذه هي الحرية التي نريد، لا الحرية التي ولدت من أجل أن تحبل أرحام العراقيات وتولد ببراميل النفط الملعونة.
الحرية التي لا تقسمنا إلى شيعة وسنّة أو إلى عرب وأكراد وتركمان، إلى مسيحيين ويهود، إلى صابئة وأيزيديين وشبك.
لا…. يا أنت، لقد ولدنا أحراراً ونريد أن نبقى هكذا بشراً وليس مسوخ أشباح للبشر.
حالنا حال أهلنا في الإمارات على سبيل المثال لا الحصر، أو حال الدنماركيين الذين تتمتع كلابهم وقططهم بحجم من الإنسانية لا تتوفر لأرقى مخلوق من شعب العراق.
يتهادى صوت يتحدث إلى الشهيد هادي المهدي، الشاكي والمحزون، شهيد الحرية، أبو شهداء الحرية العراقية: يا هادي يا ولدي،
لقد تحدّثت وأعرف جرحك وهمّك، أريدك أن تفسح مكاناً له، فهو يريد أن يجيبك على ما تفيض به روحك من شجن. فهل بالإمكان أن تهدأ قليلاً؟
أنت الآن في بيت الحرية. هذا بيت أمين لن يبلغه أحد غير القدّيسين وأمثالك.
الحرية هنا هي حرية لن يلاحقك أحد بسببها. أنت الآن وجهاً لوجه مع من أنجبها.
أعرف أيها الحاجب، يجيب هادي.
لا، أنا لست الحاجب، أنا شهيد سبقك، هل نسيتني؟!
اسمي كامل شياع(1)، ثم يتبعه صوت آخر يتحدث بوقار شيخوخة الأب لولده:
يا هادي: أنا شهاب التميمي(2) يا ولدي. وهو يومئ بعصاه إليها.
وإنها القديسة أطوار بهجت(3).
يا الله كل الطيبين في هذا المكان، يا لها من حظوة لا توصف أن تكون بجوار شهداء مغدورين، شهداء اعرفهم ويعرفونني.
أنا لا أملك السعادة اليوم بل أحيا فيها بشكل لم أحسّ به من قبل أبداً.
وهذا أحمد آدم(4) ورحيم المالكي(5) ورعد مطشر(6)….. وشهداء مغدورين أثاروا الأسئلة ذاتها التي طرحتها قبل قليل، فكان الصمت. لماذا هذا الصمت؟
فهو يبصر ويعرف القتلة المأجورين ويعرف أسيادهم ويحصي في سجله السرّي ما ارتكبت أيديهم وما يرتكبون من أفعال مشينة بحق الإنسان أينما كان.
لكن هادي يعلي من نبرته ومن غضبه وهو يضيف:
لارقابة في جنّتك ولا حساسيات من الأسئلة، فأنا لن أحيد عن إصراري على معرفة أسباب صمتك الذي يناقض عدلك.
إن سلطان الشر قد غلب الخير والحق. إنهم يقتلوننا، ويكيلون التهم ونحن لم نقصدهم حينما خرجنا للتظاهرات وحشدنا إليها، لم نكن نقصد أحداً غير الشر، غير القتلة وغير الفاسدين. أهذه جريمتنا الكبرى؟!! ألم يقولوا إنهم جاؤوا من أجلنا، من أجل خدمتنا ولكن كيف؟؟!!!! وهل يعقل كل الذي حدث ويحدث؟!!!!!
الناس تتوسّلك، ورغم كل الذي مرّ بها وتمرّ به فهي لم تيأس من رحمتك، حتى لم يبق لها كما كانت من قبل غيرك، ولكنها في ظل الخوف هذا تنساق خلف الكذّابين والمزوّرين للحقائق، خلف السارقين، أو تصمت وهي تدري أن عليها أن تنفجر لا أن تصمت.
لقد خذلني صمت شعبي هذا.
كما خذلني بعض من زملائي بكذبهم وبدجلهم وبجبنهم.
حتى إن النساء والبنات من زميلاتنا كُنّ أشجع بكثير من هؤلاء الرجال، وكانت الواحدة منهن بألف رجل من رجال العراق.
تعرّضن للشتائم وللضرب وللاعتداء، للاعتقال وللخطف وللاغتصصصصصصصاب لمجرد حملهن علم عراق جديد لم يكتب عليه سوى عبارة «أحبك يا عراق»!!!
هل الحب والوطن أصبحا جرماً يكفّر صاحبه ويُحبس ويُدان بسببه؟!
وفي أقل تقدير رصاصة من كاتم مجهول!
لماذا صمتك وكأنك شريك بكل ما يحصل؟!
هل حقاً استجبت لدعاء الكويتيين الذين فتك بهم نظام صدام حينما شهقوا للسماء بصوت واحد: «اللهم اهدمها حجراً على حجر»(7)
ولكن ما ذنبنا نحن؟ لم نكن يومها أصحاب قرار في حيواتنا؟
حاكم جائر يبيعنا، عفواً يسلبنا من حاكم ظالم، من طغاة يتناسلون في كرسي، حتى إن البلاد أضحت كرسياً اختزل في المال وفي السرقة وفي قتل المختلف معه.
اختزل وطننا في اللاحياة.
فإذا كنّا فائضين عن الحاجة، أرسل لنا زلزالك ، ماحياً هذي البلاد عن بكرة أبيها وخلّصنا. ألست أنت المخلّص لكل عبادك؟!!!!.
يتسلّل صوت غريب ليوقف هذا المونولوج، مخاطباً هادي:
أصمت يا هادي قليلاً، إنه يسمعك وقد سمعك بما فيه الكفاية، ما وصفته هو امتحان لإرادة البشر.
يردّ هادي معنّفاً هذا الصوت الغريب:
«لا، بل اصمت أنت، هل جئت لتزايد على موتي؟!
ما هذا..! حتى في الموت وفي الجنة لم أخلص منكم .
أنا لست في حضرة قائد وحاكم،
أنا في حضرة من خلقني. من له حق عليَّ ومن لي حق عليه أيضاً.
أعرف أننا لم ولن نتساوى يوماً، ولكنه اختارني بجواره وأنا محمّل بآهات الأمهات، أي والله إن آه الأم العراقية لا تشابه أية آه في الدنيا كلها.
فأنا محمّل بدموع الأيتام، وبيأس الأرامل وبحسرات الشباب.
كل هؤلاء في بلدي قد حمّلوني سؤالهم. فالناس في بلدي تعبت من لعبة الصبر، وأنا مت من هذا الصمت.
لا…. إنهم يختارون مصيرهم»
قاطعني هذا الغريب قائلاً:
«الخوف هو من جعلهم يقبلون بالصمت، لا تنسَ، لقد ربّاهم الطغاة على الصمت».
فقاطعته:
«لا ، لقد اختاروا حياة الصراصير لكي يأمنوا يومهم».
«وأين هو يومهم؟» يكمل هذا الزائر الثقيل:
«يومهم في انتظار الفرج».
لكنني أوقفه:
أرجوك لا تكمل هذا الحوار العقيم، أي فرج!!!
كما ترى الربيع العربي في كل مكان إلا في العراق، فإنهم يريدوه خريفاً بل شتاءً قاسياً على الناس.
اغتالوني لمجرد أنني صرخت – بكفى-.
قتلوا الشجاعة لدى العديد من الناشطين.
إنهم لم يغتالوني فقط، إنهم اغتالوا ساحة التحرير ودنّسوا نصب الحرية.
لا يا بني، لا… يتكرر هذا الصوت وتعاد هذه الكلمات وهادي يستمر في سرده لما حدث:
«أكاد أسمع صوتاً لم أسمع مثله بهذا الحنو، بهذا الشجن، إنه صوت وكأني قد سمعته من قبل، كأنني سمعته يقول: «استمروا في ساحة التحرير».
إنه الصوت ذاته الذي كان يرنّ في أذني وأذن العديد من الذين سألوني عن مصدره،
هناك تحت نصب الحرية.
إنه هو ، الصوت ذاته الذي يتحدث معي الآن.
لم أشعر بهذه الصيرورة والحنو في حياتي كلّها. كأن الصوت هذا، هو مرآة تستجمع حزمة من الضوء فتشبّ حريقاً. إنه صوت لا شبيه له في أصوات الدنيا جميعها.
أسمعه يتحدّث وينصت لي ولأطوار ولأحمد وللأستاذ شهاب وأستاذ كامل، وفجأة تعلو نبرته قائلاً لنا: «انظروا تحت أقدامكم، تمعّنوا في النظر جيداً وانصتوا جيداً، سيهولكم ما سترون وما ستسمعون!!».
نظرنا إلى الأسفل، وإذا بحفرة كبيرة تنفتح وكأنها ستارة مسرح عائم في الصحراء.
صرخنا: «يا إلهي، إنها بغداد.
شوارع بغداد المغبّرة، مقاهيها المطفأة الأنوار.
ساحاتها وجدرانها العازلة وشفاه أهلها المشقوقة من الظمأ.
إنها هي… وإنهم هم. هم الوجوه ذاتها الملثّمة بقناعها، بلثامها الأسود. لها عيون الدبابات التي لا تمتهن غير الموت».
فرحت أطوار لتخبرنا: «إنه حي المنصور، تطلّعوا هناك.. إنه مكتب قناة العربية قبل تفجيره».
وأشار كعادته كامل شيّاع إلى شارع حيفا ومبنى وزارة الثقافة. ثم صوّب عالياً عصاه شهاب التميمي إلى شارع المغرب: «إنها النقابة، نقابة الصحفيين».
فرح أحمد آدم مزهواً: «إنه شارع أبي نواس، إنها جريدة المدى».
لكنني توجّهت للصوت: «أيها الضوء، انظر هل تعرفها؟ أيها البهاء، إنها الكرادة التي ما صدقت تتخلص من احتلال طواغيت الدكتاتور لها حتى داهمها احتلال الرعاع الجدد».
قاطعني الدليل ليرشدني إلى مجموعة رجال كانت تتهامس فيما بينها، قائلاً لي: «هل تعرف هؤلاء؟»
صرخت: «يا لله إنه هو القاتل ذاته الذي طلب مني إحضار الشاي له ، وبصلافة تجاوزت صلافة أمهر القتلة وأخسّهم في العالم كله. إنه هو، وكذلك صوته الأجش . الصوت ذاته. استمعوا يا أصدقائي إليه، اسمعوه جيداً:
«نتمنى أن نشرب من يديك الكريمة ستكان شاي».
نعم، هذا هو القاتل نفسه. فبمجرد ذهابي للمطبخ لإعداد الشاي والقيام بأصول الضيافة وإكرام الزائر الغريب هذا، تقدّم نحوي وصوّب كفّه الحاملة لكاتم الصوت فأرداني قتيلاً وأشار لزميله: «هيا لنخرج بسرعة من هنا».
أجابه الآخر: «ولماذا العجلة، لا تنسَ أننا محميون ولن يتوصل أيّ قاضٍ في العالم إلى معرفة الحقيقة التي ستسجّل ضد إرهابي أو طالب ثأر».
«سيقولون عنه سكّير ومخمور ولا يتورّع عن تعاطي الحشيش من أجل أن يصرخ بالحرية».
«ها ها هاهههههههه، وحينما يثمل، فإنه يتفوّه بأي شيء، ومن كثرة ما تعرّض للناس وشرفهم قرر رجال هذه الأسر أن يأخذوا بالثأر لشرف نسائهم وسمعتهم».
«إذاً سيضيع دمه بين القتلة وطالبي الحق الشخصي؟!».
علق المجرم الشريك في مهنة القتل قائلاً:
«قضية ستسجّل ضد إرهابي».
«لا، هذا الهادي لا يستحق أن يوصف بأنه شهيد. فإذا قتله إرهابي يعني أنه سيصنّف تحت بند الشهداء المغدورين ولكن هذا نذل، غدر بطائفته وبالمذهب.
إن تصفيته يجب أن توحي للآخرين بأنها ثأر شخصي، أي أنها جريمة جنائية. يجب أن نمنع تحوّلها أو حتى وصفها بأنها جريمة سياسية».
«أولاد الزنا، أولاد الكلب »، صرخ هادي بأعلى صوته حتى قاطعه شهاب التميمي:
«ألم أقل لكم إنهم عملاء ومهنتهم هي القتل.
إنهم مأجورون. مجرد مافيات جاءت في عرس انتخابي لتفرّخ بهؤلاء السفاحين، أعداء الحرية».
قاطعني الصوت وأشار لأطوار لكي تحدّق بمجموعة كانت تتهامس فيما بينها وتضحك:
«آه، شهيدة لا يهم ليصفوها بأية صفة، المهم أنها انطمرت وطمرت معها السر الكبير».
ويضيف الآخر الذي يشاطره هذا الحديث: 
«لولا هذه العملية التي نفّذناها بكل إتقان ولم تنكشف أسرارها حتى اليوم، لما كانت لنا تلك الأيام التي استمتعنا فيها كثيراً ونحن نرى فيها العراقي يخطف صديقه ويغدر الجار بجاره ويقتل الخال ابن شقيقته ويذبح الرجل امرأته أو أمه لكونها رافضية(8)، ويخطف الجار جاره ويهجره من داره ويحتلها عنوة ولن يتركها إلا وهي كومة خرائب حاملاً أجداث النواصب(9) خلف السدة، عراقيون يقتلون بعضهم البعض على الهوية وبدونها. لقد كان تفجير الإمامين العسكريين هو ذروة إخراج الفيلم الذي عملنا على إنتاجه وإخراجه منذ عقود والذي كما تعرف غيّر خارطة المنطقة كلها ووفر حيامن النفط، العظام أي جماجم هذا الشعب».
بكت أطوار وأشارت إلى أحدهم وهي تقول: «إن تفجير الإمامين حتى وإن كان في سامراء فقد غيّر وجه بغداد،  غيّر قلوب الناس، شقّ العراق بخنجر الطائفية المسموم ومزّق هوية العراقيين إلى سنّة يقتلون الشيعة وشيعة يتخلصون من السنّة، وهكذا يا هادي إنهم الثلاثة أنفسهم، الثلاثة ذاتهم الذين كانوا في شقتك، انظر إلى هذه الوجوه القبيحة هناك».
قلت لأطوار: «هل تعرفين أنهم أخبرونا حكاية مغايرة أخرى عن استشهادك؟ وبثوا اعترافات المجرمين من على شاشات التلفاز. كانوا يدّعون أنهم من أبناء جلدتك. ولكن ما الذي جاء بقتلتي ليعبّروا عن نشوتهم بنتائج تفجير مرقد الإمامين في سامراء؟! فهل هم من تورّطوا بجريمة التفجير أيضاً؟!»
تنوح أطوار باكية: «هادي، والله هذا أمر محيّر حقاً. لم تعد أعصابي تتحمّل هذا اليقين. إنه أكبر من عقولنا هذا الذي يحدث».
في الطرف الآخر تنفتح ستارة كبيرة بعرض السماء وإذا باعترافات هؤلاء تُعاد علينا نحن شهداء الحقيقة.
المجرم الذي يصف أدق تفاصيل عملية تصفية أطوار يستمر في التأكيد على أنهم هم من قتلوها بأمر من القاعدة، وأطوار تحتج كطفلة غاضبة وكأم ذبح وليدها أمام عينيها:
والله كذّابين، كذّابين.
القاعدة هي القناع.
القاعدة هي البعبع.
فهؤلاء القتلة يبيدون الشعب مرّة بحجة الدفاع عن السنّة ومرّة بحجة القضاء على الروافض، هؤلاء هم لا أحد غيرهم ولكنهم من من هم؟!.
إن الإجرام والإرهاب قد وضعوا له وجهاً قميئاً اسمه القاعدة.
إن ملوك الطوائف يا أهلي الأسرى هناك هم القاعدة،
كل من قسّم العراق هو القاعدة يعني هؤلاء.
الكره هو القاعدة، الثأر هو القاعدة والقاعدة هي هؤلاء أيضاً.
ولكن من هي هذه القاعدة التي تقول التقارير بهويتها السنّية وأسلحتها الإيرانية الصنع وقادتها، أعني سفاحيها، الذين يمرحون عبر حدود إيران وسوريا ليدخلوا العراق، حتى الزرقاوي الأردني تقول الأخبار إنه لم يدخل أرضنا المقدّسة من حدود طريبيل بل دخل عبر الحدود الإيرانية، أليس هذا لغز محير أم أن أعداء العراق قد تحولوا بفعل عداوتهم لنا حلفاء استراتيجيين؟!
من أوجد هذا السرطان الذي يفتك بجسد الإسلام وبعدالة السماء؟
فإذا حصدت أفعال القاعدة يوم الحادي عشر من سبتمبر في نيويورك أربعة أو خمسة آلاف إنسان بريء!؟ فكم هو عدد ضحايا القاعدة في العراق؟
هل تجاوز المليون حتى هذه اللحظة؟!
لم أوصف نفسي أنني بنت سامراء أو صلاح الدين فأنا بنت العراق كله »
قاطعتها:
«أطوار، قسماً بشرفك وبطهرك يا سيدة الشهيدات، أخبرينا القصة الحقيقية إذاً».
قبل أن تبدأ أطوار بسرد القصة، تغلق ستارة هذه الفوهة الكبيرة التي تحيطها الحرائق من كل حدودها والتي شاهدنا فيها اعترافات لمجموعة مثّلت وأتقنت الدور جيداً على أنها هي التي نفّذت اغتيال أطوار، في الوقت الذي تظهر الستارة الأكبر التي تنفتح على حفرة بحجم الأرض كلها ، وأطوار تصرخ: «يا إخوتي انظروا إلى هذا الرجل بدشداشته وهو يتجه صوبي. شاهدوه جيداً ربما هو الآن حي في مكان من آلامنا هذه».
«من هو؟» سألها التميمي.
«إنه أحد رجال سدنة الإمامين»، وأكملت قصتها: «حينما أذيع الخبر كنت على مشارف مدينة كركوك، وهي كما تعرفون في الطرف الآخر من حدود لا تبعد كثيراً عن سامراء، اتصلت بمديري في قناة العربية وقلت له: يا أبا الجود ـ أرجوك أستاذ اسمعني جيداً، فهناك من اتصل بي ولديه تفاصيل عملية تفجير قبة الإمامين العسكريين كلها. لقد كان أحد الشهود الذي أنجاه الله ليخبر العالم عن حقيقة ما جرى، فهل تأذن لي بالذهاب إلى هناك؟ فنحن كما تعرف لدينا كافة المعدات التي ستؤمن بثاً حياً للعالم أجمع. فنستطيع أمام حدث كهذا أن نعتذر لمحافظ كركوك الذي كان من المفترض أن نجري حواراً معه ونغيّر وجهتنا ونعود إلى سامراء».
صرخ المدير: «لا، المسألة خطيرة جداً وأبعادها لا تحتمل أن تجافزي بنفسك ولا بالكادر الذي معك».
لكنني أجبته في الحال: «كلا يا أستاذ ي. إن الحقيقة تستحق أن يجازف من أجلها الصحافي الحقيقي، فهذا ما كنت تردده دائماً أنت حينما تتحدث وإيانا عن صفات الإعلامي الفريد من نوعه، وهذا سبق كبير لمكتبنا، وقناة العربية ستكون ممتنة لنا وقبلها الشعب العراقي كله وكذلك الحكومة».
قاطعني وهو يردد كلمة واحدة: «عودي الآن إلى بغداد ولا تذهبي إلى أي مكان».
ولأنني كنت أعرف مدى إصرار المدير الذي بالطبع كان حريصاً على سلامة الفريق العامل في محطة العربية ، اضطررت للاتصال بالمكتب الرئيسي في دبي، وفي الحال رحبوا بمقترحي وقالوا سوف نوفر لك أي دعم لوجستي إذا احتجتِ له وسنوجّه المدير في بغداد بإسنادك بأي دعم تحتاجينه أنت والفريق الفني العامل معك».
وفعلاً توجهنا على ضوء مكالمة الشخص الذي شاهدتموه الآن وهو ضحية هؤلاء القتلة، وبدأنا التسجيل، لحظة استمعوا: «ست اطوار، أقسم لك بشرفي وبشرف العراق أنني لا أخبرك إلا الذي شاهدته وسمعته بنفسي، والله على ما أقول شهيد» ثم اكمل هذا الرجل وهو يلهث من خوف وصدمة بانت على ملامحه والتعب الذي لفّ صوته أيضاً.
والله لقد كنا في حضرة الإمام مع الكليدار وشقيقه وإذا بنا فجأة نطوق بفرقة كبيرة ترتدي لباساً كأنه لباس الحرس الوطني ومجاميع ترتدي الثوب الأسود وكأنها فدائيو صدام أو ميليشيات المهدي»، بالطبع الرجل كان يردد ما تعود على سماعه من مسميات كانت قد شاعت في حياة العراقيين، ويضيف: «دخلت هذه المجاميع وأوثقت أيدينا إلى الخلف وأعصبت وجوهنا بلفافات سوداء أيضاً وركلتنا وأمرتنا بالصمت وعدم النطق بكلمة واحدة .
كنا في الباحة الخلفية للحضرة العسكرية، وهم كانوا يعملون طوال تلك الليلة ونحن لا نسمع غير «ضِبطها، ضبطها بحيث لا تبقي على المبنى من أثر يذكر».
وسمعت أحدهم يسأل على ما يبدو مديره بعد ساعات طويلة من عمل فريقهم قائلاً له: وهؤلاء، وكان يقصدنا نحن، أنا والسيد الكليدار وشقيقه؟».
فأجابه: «لا داعي لقتلهم، فهم في كل الأحوال ميتون لامحالة بعد أن تنجز المهمة. فلماذا تخسر فيهم طلقتين أو ثلاث؟!!!».
في تلك الأثناء انسحبت هذه الجماعة وقد مكّننا الله من فتح وثاق أيدينا بمساعدة بعضنا البعض وكأن الله أراد لنا أن نعرف الحقيقة لكي يطفئ نار الطائفية التي أراد أن يشعلها هؤلاء أو يحاولون الآن جعلها معركة عراقية شيعية سنية وهي على ما سمعت أكبر من ذلك وبعيدة كل البعد عن أبناء العراق».
«إنهم لا يريدون رأس الإمام علي»، تمتم هادي، 
«إنهم يريدون رأس العراق(10)….»،
تكمل أطوار:
«بمجرد أن انتهت مكالمتي معه والتي كنت أسجلها لتبثّ على الملأ بعد دقائق، وقبل أن أكمل شهقتي الفرحة بالوصول إلى الحقيقة حتى شعرت بالمسدسات والرشاشات وقد توجّهت إلى رأسي وبطني والصفعات والشتائم البذيئة».
بكت أطوار، استمرّت في البكاء، وإذا بالصوت الحاني يربّت على رأسها: «لا تبكي ولا تيأسي، إنك الآن أعلى شأناً من هؤلاء، إنك في مرتبة الصدّيقات والأولياء وهم، أين هم؟! سوف تشهدين بعد ذلك مصيرهم.
افرحي وابتهجي يا أطوار البهجة والشرف».
أطوار تشير إلى اعترافات القتلة أو هكذا وصفوا حينما ألقت الحكومة القبض على مجموعة ضمن مسلسل ساذج الإخراج يذكرنا بغدر البعث بشعبه حينما أراد إيهام الناس وتخويفهم بحكاية سفاح بغداد في السبعينات «أبو طبر»، لكن هكذا مسلسلات قد خبرها العراقيون ولن تنطلي عليهم اليوم في ظل الربيع العربي».
الصوت يعلو ويعلو: «انظري يا أطوار، يا ابنة الباحثين عن الحقيقية، انظري إلى هؤلاء».
نظرنا جميعاً مع أطوار إلى فوهة بغداد التي تشابه فوهة مدفع والتي لا أعرف لماذا اختارها الله لتكون تحت أقدامنا؟!
«إنها الوجوه ذاتها، إنهم الثلاثة ذاتهم».
قلت في سرّي: «هل يعقل أن يكون هؤلاء الثلاثة خلف كل مصائبنا؟! ، هل من المعقول استمرار نشيج هذه الأرواح في مسلسل الموت القاسي من أجل هؤلاء الثلاثة؟!» .
عدت إلى سيل الأسئلة يا هادي مرة أخرى. ألم تعرف أنهم أرادوا قتلك لكي يستمروا هم في إنجاز هذا الفيلم بكل مشاهده المظلمة، إن هذا الفيلم سيستمر، فليس للعدالة أي معنى إذا لم يقابلها الغدر والظلم والجور والفساد والكذب والسرقات والقتل والحروب.
هذه الأدوات المهمة في أي تأسيس للعدالة، فلو كان العالم سعيداً وآمناً ولايحتوي إلا على الصالحين والمؤمنين والطيبين أمثالك لما كان الشيطان هنا بجوار هذا المكان الخالد، ولما كانت النار مأوى لهؤلاء، ولما كان للحياة السفلى هذا الطعم من الشعور بالألم. فهذا الوجع هو أيضاً زكاة في الدنيا والآخرة».
«هذه الفلسفة ليس لها محل في تواتر الموت وصعود خطاب العنف. ربما احتاج نقاشها معك في جو لا يحتوي رائحة الموت العبثي هذا». يرد هادي على من كان يريد إقناعه بالأقدار.
«علي الآن استجماع أدلتي ومشاهداتي لأصفع بها وجه الصامتين أو الذين يغالطون الحقيقة ولا يذهبون يمارسون حقهم في الرفض والاحتجاج، لذلك قلت للأستاذ شهاب: يا أبا ربيع، لقد حيّرني أمر اغتيالك، فبماذا سيخيفهم رجل دخل مشارف الثمانين، بماذا؟».
قبل أن أكمل أضاف هو: «يا ولدي المشاكس، لو عدت لجميع حواراتي ونداءاتي، فإنها كانت تصبّ في إدانة الاحتلال الذي ورّط البلاد والعباد بكل هذا والذي جاء بالظلاميّين الجدد وفسادهم الذي كنت أحد شهوده. فكيف وأين صرفت الملايين التي كانت قد أطلقت كمساعدات إلى الصحفيين العراقيين؟ ! كلما حاولت إثارة هذا الموضوع للتوصل إلى إجابة، كلما كانت الأكف ترشقني بإشارة تطالبني بنسيان هذا الموضوع واللوذ بالصمت.
لو كنت فقط حاضراً معنا في مؤتمر باريس الذي عقد للمثقفين العراقيين والإعلاميين بعد الحرب مباشرة وتحت عناوين برّاقة ودعائية لا غير: عناوين «مساعدة الإعلاميين والمثقفين العراقيين»، لو شاهدتهم كيف كانوا يتوسلون لي للسكوت وعدم عرض هذا الموضوع ، أي – موضوع المنح – الذي كنت أطالب بعدالة توزيعه على الجميع وخاصة عوائل المتضررين الذين غيّبهم الموت جراء الأعمال الحربية وبعد ذلك الهجمات الإرهابية.
كانوا يقولون: «إذا أجّلت هذه القضية فإننا سنقوم قريباً بكشف كافة السُرّاق وملفاتهم، ولكن للأسف لم يحدث أي شيء سوى طلقة كاتم غادرة وجريمة اغتيال قيّدت ضد مجهول».
وأكمل:
«أرادوا قتلي كي يطمروا وثائق عدّة، كي يجيئوا بأناس يشرعون الظلم والكذب ويضفون عليه صفات العراق الجديد.
كنت شوكة في قلب هذا المشروع الكبير للفساد وشراء ذمم الصحافة بسكوتها عن فضح الظلم وتعرية القتلة والسارقين فأزاحوا تلك الشوكة بقتلي. إن القتل هو الوسيلة الأسهل للتخلّص من مسببي هذا الصداع، وهذا هو العراق اليوم وبالطبع ليس بأفضل حال من عراق الأمس».
تحسّر هادي بحزن طغى على نبرة صوته: «طلقة كاتم كافية في عراق اليوم وهي تعتبر دستور العراق الجديد».
أنا مثلك حينما كنت ألوّح وأدعو مع بعض الجماعات الخيّرة من الشباب والناشطين إلى الخروج والاحتجاج السلمي ضد سرقات تجاوزت حدود اللامعقول كلها، كذلك الإرهاب الذي جاء به هؤلاء السُرّاق والمهزومون سواء أيتام النظام السابق أو أصحاب المشروع الرجعي الذي يريد العودة بالبلاد إلى العصور المظلمة بحجة الطائفة والمذهب مرّة ومرّة بحجة الحفاظ على التقاليد وروايات عديدة. لقد خرجت للتظاهر من أجل تغيير كل هذا، ولكن تهمتي كانت جاهزة كما تعرف، وهي: إما البعثية البغيضة كما اتهموا الناشطين والناشطات وتظاهرات ساحة التحرير، وإما القاعدة الكريهة الصيت الملطخة بدماء الأبرياء من العالم، وإما…اتهام ذويك بسرقة المال العام…. أي إن النزاهة جاهزة هي والقضاء لإصدار مذكرات إلقاء القبض على كل من يعتبرونه صوتاً نشازاً لا ينتمي إلى أصواتهم المرعبة وغير المؤمنة بالحرية».
أخيراً ينطق الأستاذ كامل شيّاع، صديق المثقفين الذين صدموا حينما جاءهم خبر استشهاده، وهو الذي لم يملك من جريمة غير تسامحه مع الجميع، لم يمتلك غير ابتسامة ما فارقت وجهه حتى حينما غدر به قتلته، فقد واجههم بابتسامة سخرت من جبن القاتل والمحرّض على القتل.
«يا هادي، أما أنا فإذا ندمت على شيء في حياتي، فهو ندمي بتصديق أن هؤلاء قد جاؤوا فعلاً من أجل خدمة العراق وأهله وأن العراق سائر باتجاه ديمقراطي ليبرالي تعددي وأن الحرية قد فتحت لكل العراقيين وتحديداً للمثقفين أبوابها وأنهم سيدخلونها آمنين.
كنت أدعو كل من أراه في الخارج إلى العودة وأقول له: إن العراق اليوم هو غير عراق الأمس، وهذا الأمر ربما وبالحد الأدنى صحيح لأن الحرية التي تجعلك تذهب وتنظم تظاهرة وتصدر صحفاً متعددة وقنوات فضائية وتعددية حزبية حتى ولو كان كل ذلك شكلاً كارتونياً فإنها موجودة.
وكما تعرف إنها المنجز الوحيد الذي يحسب للأمريكان. لكن كل هذا اليوم يواجه خطر الإلغاء والإقصاء كما حدث في أزمنة العراق السود التي سبقت يوم 9 نيسان 2003.
لمجرد أنني حذّرت في أيامي الأخيرة من هذا الخطر، أي إلغاء الآخر والقبول بصوت واحد، كان نصيبي طلقة كاتم كما الصديق عماد من قبل لا أعرف ما أسميها، غير أنها طلقة لقتل الفكرة وقتل التفكير وقتل الثقافة مثلما فعلوا بالتميمي تماماً. إنها الطلقة التي أعلنت موت الصحافة الحرة حينما قاموا باغتياله ليكون تحذيراً كبيراً لمن يريد أن يصدق بأمر الصحافة الحرة غير المحكومة بثقافة الحزب المتنفذ الذي يتربّع على عرش السلطة».
الغريب أن كل تحذيراتهم حتى وإن حجمت من استعداد البعض للمواجهة ولكنها أشّرت لنقطة التحوّل والمنعطف الذي يأخذ بالعراق إلى مشروع الدولة البوليسية، وهي ما أطلقت عليه: «أم المصائب».
ضوء ينثر حبات اللؤلؤ، ضوء تتغير ألوانه مثل ألوان قوس قزح على وقع إيقاعات مفردات الأستاذ شيّاع الذي يبدو أنه لم ينتبه إلى هذا المشهد الذي طوّق المكان.
قاطعته: «أستاذ، استدر من فضلك، تطلّع إلى هذا الضوء، ضوء يكاد يشعرني بدفء لم أشهد مثيله طوال حياتي كلها. ضوء يتحدث بلغة الشمس ولغة الألوان ودفء حنان يشابه لهفة رضيع إلى حليب أمه، هذا الصوت كان يحيطنا علماً بكل ما يجري هناك مردداً جملته: حفرة بغداد تنتظر أبصاركم، انظروا تحت أقدامكم».
نظرنا جميعاً إلى الأسفل، وفعلاً إنها شوارع بغداد ومجاميع من الشباب الحائر العاطل عن العمل وهم يحاولون أن يتوصلوا إلى حلول لحياتهم الخربة.
أنصتنا جميعاً إلى هذا الحوار العراقي بامتياز:
«عباس، أنت اليوم تريد أن تقدم على مشروع الزواج. ولكن قل لي، إذا دبّروا أهلك عروسة لك ودفعوا تكاليف العرس وبالتأكيد ستسكن في منزل العائلة ولكن ماذا بعد؟ كيف ستسير الأمور بعد الزواج؟ وماذا عن مسؤولية الأسرة القادمة؟ حيث لا عمل ولا حتى وعد بتعيين قريب أو مؤجّل؟!!!».
يقاطعه عباس: «أعرف يا وليد كل هذا الذي ذكرته الآن ، ولكن ما هو الحل؟. كيف نجبر حكومتنا على تنفيذ ما وعدت به؟ مثلاً: القضاء على البطالة، كذلك توفير الخدمات والتعيينات وتوفير السكن وقبله الكهرباء. أي كيف نجعل هؤلاء النواب الذين كانوا مثل الغربان تنعق بجملة واحدة قبل انتخابنا لهم وهي: نحن في خدمة الشعب، كيف نجبرهم على الانصراف عن خلافاتهم والبدء ببناء العراق وخدمة الناس وإعادة حقوقنا؟؟».
يجيب وليد:
«لا يوجد حل إلا التظاهرات ، والله إن الاحتجاجات هي التي ستغير وجه العراق وتخجل السياسيين، هذا إذا ما زالت هناك نقطة الحياء في وجوههم».
محمد يشير بقناعة مماثلة: «أتفق معك مائة بالمائة، ليس أمامنا وسيلة ناجحة في ظل هذه التغيرات غير التظاهرات السلمية، لا تنسوا أنها بند صوتنا عليه في الدستور، فهي حق مشروع وليست منّة من هؤلاء».
أما ليث فيقول: «سنذهب للتظاهر، ولكن ما أخشاه هو أن يعيدوا إلى الواجهة سمومهم الطائفية. وكل ما أخشاه هو أن نحسب على هذه الجهة السياسية أو تلك ونحن شباب مستقل لا نعترف لا بالسياسة ولا بهؤلاء، نريد أن نحيا كبشر، هذا كل ما في الأمر».
«لا»، يصرخ بهم وليد «لماذا هذا التردد، ألم تعرفوا أن زمن الخوف قد ولّى؟! أنت ستخرج من أجل الخدمات، أنت ستخرج من أجل أن تعيش بكرامة ولا تذل على أبواب الدول. يا شباب صار الشعب مثل لقيط يبحث عمن يتبناه أو يعترف به ويرعاه. في الغرب يسعى المشاهير والأثرياء إلى تبني اللقطاء، فمثلاً أنجلينا جولي ومادونا وغيرهما ممّن ذهبن إلى أقاصي البلدان الفقيرة الجائعة لغرض مساعدة تلك البلدان خاصة اللقطاء منهم، واحنة ماكو واحد يتطلع بخلقتنا».
فضحك عباس بوجه وليد: «ماذا تريد أن نأتي لك بأنجلينا جولي حتى تنحل مشكلة الشعب العراقي؟!».
«لا»، يكمل وليد «غير التظاهرات لا شيء سيغيّر الحال».
ولكن فجأة يدير ذلك الضوء الساطع وجوهنا إلى زاوية أخرى ولكنها زاوية سوداء مظلمة نمسك بظلامها على ملامح بشعة لمجموعة أخرى، ولكن هادي يصرخ بزملائه:
«انظر يا أحمد، يا رعد، يا أستاذ شهاب، ، ويا أستاذ كامل ويا أخيتي أطوار. هؤلاء هم الذين ضربوني وضربوا أصدقائي الإعلاميين بضربات مميتة كادت أن تقتلنا بعد انتهاء التظاهرة.
أريد فعلاً سماع خطابهم حتى لا أندم أبداً على يتم عائلتي. إنهم أوغاد، لقد فرّقوا شمل تظاهرات ساحة التحرير باتهامنا بالبعثية مرة، ومرة أخرى بالقاعدة، وحينما فشلوا ولم يتوصوا إلى أي دليل يثبت ذلك جاؤوا إلينا بقصة الطائفية. لقد كان حدسي في مكانه عندما قلت لزملائي إنهم سيعيدونها إلى الواجهة وسيحرّضون الناس البسطاء على المتظاهرين بحجة أننا ندافع عن القتلة حينما خرجنا من أجل الدفاع عن المعتقلين الأبرياء الذين تحتجزهم السلطات من دون أوامر قضائية ومن دون محاكمات، والدستور ينص على أن يقدم المتهم للمحاكمة في مدة لا تتجاوز اليومين في أسوأ الأحوال».
أصوات حتى نبرتها تشي بالحقد، استمعوا جيداً.
«سيدي، لا تقلق، أقسم لك بشرفي إنهم زعاطيط(11) ومندسّون مشاغبون، سوف يملّون من موضة التظاهرات التي هي محاكاة لتظاهرات مصر وتونس. ولأننا نظام ديمقراطي فلا خوف علينا. أمريكا من أمامنا وإيران من خلفنا لا خوف إذاً علينا أبداً. بالإضافة إلى العناصر الإعلامية التي تتعاون معنا والتي قد أعدت لنا الآن قائمة بالمحرّضين على التظاهرات الذين سيدفعون ثمن هذا الذي يقومون به عاجلاً أم آجلاً. فلو أدبنا واحداً من هؤلاء فإن الآخرين سيتراجعون. لا تنس المال، فمن يريد أن يحكم العراق عليه امتلاك المال، ونحن الآن نمتلك الشعب بسلطة المال الذي هو أب السلطات».
يضيف أحدهم: «وخاصة هذا، أي المدعي هادي المهدي الذي لم يبق أي أحد إلا وشتمه واتهمه تحت غطاء الحرية التي نوفرها نحن لهم. إنهم يسيئون إلى تلك الحرية، هؤلاء يريدون إغراق البلد بالفوضى».
«المهدي يجب أن يكون أول الكش ملك، بعدها سيتناثرون كما أسلفت أنت بين خائف وبين متردد وطامع في تعيين، أو في مكرمة، والأمور الأخرى التي نعرفها كلنا. سنتنفس الصعداء حينما نكنسهم جماعة إثر جماعة».
ويتواصل هذا المستشار إسداء النصح وتقديم المقترحات: «سنزيد من فترة قطع الكهرباء لأن هذا الأمر سيوقف التواصل الإنترنيتي التي تقول تقاريرنا إنه زاد إلى أكثر من معدل النصف في الآونة الأخيرة. علينا بإخراج قضية أكبر من أن يشك أي أحد بأمرها».
«وجدتها» يصرخ عرابهم ويضيف: «الوتر الطائفي، فهو حسّاس ولا يمكن لمراجعنا أن تتساهل بمستقبل شبابها وقضية المذهب. إذاً لنذهب ونحتكم إليهم ونشدد على عودة الطائفية فهي السبيل الوحيد لإدامة وتقوية هذا البقاء ولاستمرار العراق بمجموعة عراقات تحكمها حزمة المصالح المشتركة. لا تنسوا أن العراق سيغيّر خريطة هذا العالم مثلما غيّر وجهة الكون بعد عام 1990».
صرخت: «آه، أصدقائي وأنت يا أطوار، وأنت يا ربي كلكم قد سمعتم، نعم سمعتم وشاهدتم وتيقنتم الآن أكثر من أي وقت مضى، إنهم لا يريدون رأس الحسين أو يبكون من أجله. إنهم يريدون رأس العراق ورؤوس العراقيين جميعاً».
لكن غياب الضوء المباغت قد أصابنا بالدهشة، فلم نجد غير غمامة سوداء تقف على بوابة المكان الذي نتواجد فيه.
وأطوار تسألني: «لماذا ذهب وجه بغداد فجأة؟ فقد كنّا نرى العجب العجاب. أين هي بغداد؟ لماذا غابت الشوارع، كيف تستطيع أن تستدعي هذه الحفرة مرة أخرى؟ لقد أبصرت وعرفت كل شيء. أريد أن أخبر مديري في قناة العربية القصة كلها فهو لا زال هناك، لأنني عرفت منك قبل ساعات أنه صدق قصة الاعترافات التي شاهدها على شاشة التلفاز» .
«لا يا أطوار ، إنك بذلك تحكمين عليه بالموت، أعني بالشهادة». أجابها هادي.
ولكن أطوار تكمل بقلق يوشح صوتها:
«لا، لا أريده أن يموت. إنه لا زال هناك يحفر بالكلمات ويرسم وجهاً للريح من أجل أن يبقى العراق عراق الفقراء. سلاماً أرض بغداد أبلغيه سلامي ودعائي».
أنهت عبارتها بلؤلؤة تناثرت من عينها لتسقط في حجرها.
قلت: «أطوار ولو حلماً تصوري إذا تحول دمع كل الشهداء إلى لؤلؤ كما هو الحال مع دمعتك، فما الذي سيحصل بعد ذلك؟. سيبتلى العراق بثروة عفواً بنقمة جديدة هي اللؤلؤ. فلو جمعنا دموع ملايين الشهداء قبل وبعد 2003 لكانت أرض العراق أرض اللؤلؤ بامتياز ولنسينا أمر النفط وارتحنا من الموت، فالنفط معادل الموت».
من دون موت البشر، لن تكون هناك قطرة نفط في هذا العالم.
«ولذلك فإن العراق الذي تقول الإحصاءات بتمتعه بأكبر مخزون من النفط العالمي والنفط الصافي الذي لا يحتاج إلى تكرير، لأنه يحمل في ترابه ملايين، لا بل مليارات الأجداث التي تعيد صياغة أسطورة العظام التي هي نطفة عفواً حيمن النفط».
«ولكن يا هادي، ما علاقة عظامنا بالنفط؟!» تسأل أطوار باستغراب.
«حسناً، لقد فهمت دعابتك بشان اللؤلؤ وأحببت دموعي وحتى دمعة رعد على ولديه وأسرته ودموع احمد والأستاذ شهاب على صغاره وكامل ودموعه التي كتبت أسماء عديدة مثل حيدر ويحيى وصفاء، كنت أشاهد لالئ دموعهم غير مصدقة هذا الذي أراه، ولكنني حينما أمسكت بدمعي عرفت أن دمع الشهداء لآلئ غير موجودة إلا في محارات وأصداف أحزاننا وموتنا السريالي، ولكن حقاً فسّر لي علاقة النفط بالموت».
«ألم تعرفي يا أطوار، أن الارض التي تختزن في جوفها أجداث الناس تحول بفعل كيمياء التراب كل عظام البشر إلى سائل منوي، بكلمة أخرى حيامن النفط. هذا السائل وبالقدرة والمصادفة أيضاً كان قد اكتشفه الغربيون في أرضنا. وبعد تجارب عدة توصلوا إلى أنه أفضل وسيلة ستستخدم في توليد الطاقة. وفعلاً نجحوا وكتبت لهم براءة الاختراع هذه. وبما أنهم بحاجة مستمرة وخانقة لهذا الوقود من أجل التكنولوجيا ومعامل الإنتاج وتوليد الكهرباء، أي باختصار إنه العمود الفقري والبنية التحتية لهذه المدنية الغربية التي يتحسّر عليها كل أبناء شعبنا العربي والكردي على السواء.
ومن أجل أن تستمر هذه الطاقة بتوفير المخزون لكل ما أشرت إليه، إذاً على العراقيين الاستمرار بالموت. ولكن ليس وفق المنظور الطبيعي للأشياء، إذ لا وقت للغرب حتى يهرم العراقيون ومن ثم تتحول عظامهم إلى نفط أي إلى وقود، فابتدعوا وابتكروا لنا الطغاة، ولأن أي طاغية لا يمكن له ان يستمر في حكمه إلا بالخوف وهذا الخوف يحتاج الموت كوقود أيضاً، والموت السريع والشرعي هو موجود في جبهات القتال، وفي حروب طويلة ستدفن معها رفات المجهولين من الجنود ومن المدن التي ستكتسح بالعمليات العسكرية ومن أجساد ضحايا القصف والمدنيين والمتخاذلين، لذلك تميزنا عن شعوب العالم بريادة القتال والموت المجاني .
إذاً إنه سوق وبازار كبيرة للموتى أي للعظام التي هي نواة البترول، فكانت حرب إيران التي حصدت ما حصدت، وبعد أن تشبعت الأرض بالأجساد أرادوا أن يفسحوا للتراب ولديدانه وقتاً كافياً لهضم أجساد أهلنا، والسنوات الثماني كانت على ما يبدو كافية ولكن النفط قد ولد وتكرر وبيع ضمن صفقات التهريب تحت غطاء القانون الدولي «النفط مقابل الغداء».
ونحن جميعاً نتذكر كيف كان للحصار عرابين أيضاً وتجار كبرت كروشهم على حساب موت العراقيين، لكن الأرض وتحديداً عام 1991 همست بتجار الدم العراقي: «هيا اضحكوا عليه، أوقعوه في حرب ستكون هي أم الحروب والويلات لكي يتخصّب رحم الأرض بحيمن الطاقة ويولد رب الكون الجديد – النفط – وما أدراك ما النفط يا صديقتي؟!
وإذا بالأوامر تتجه بالطاغية وحربه الغبية ضد الكويت. وفارت الأرض من جديد بالأجساد الشابة التي هي خير مادة أولية لخير نفط في العالم، فكانت كما سماها صدام «أم المعارك» لأنها عبّدت للموت طريقاً أطلق عليه الأمريكان «الطريق السريع للموت» كما وصفته الكاتبة الأمريكية سوزان زونتاغ بالقصف السجادي.
ترتعب أطوار حتى إن الخوف قد تدلى من خضرة عينيها وهي تهمس: «أنت تخيفني، تقصدها بغداد، طريق الموت؟».
«لا يا أطوار، طريق الموت هو طريق المطلاع – بصرة، حيث القصف السجادي للأمريكان ضد أرتال الجيش العراقي المنسحبة من الكويت بعد إعلان وقف إطلاق النار الرسمي عام 1991 والذي لم يلتزم به الأمريكان كتعبير أخلاقي عن مبادئ القتال والأعراف الدولية في الحروب، فاستمروا بقصف هذه القطعات العزلاء المهزومة في حرب الأخوة الأعداء، أو لأكن منصفاً ودقيقاً في حرب صدام الحمقاء والخاسرة من الأساس.
وبعد ذلك دفن الآلاف من العراقيين بمقبرة جماعية هناك، طالما تمنيت من المدافعين عن حقوق المقابر الجماعية أن يفتحوا أمر هذه المقبرة المخزية في تاريخ الجيش الأمريكي وتاريخ الحكومة في العراق التي تحفظت على ذكرها أو تسهيل تعرّف أهاليها على أبنائهم. إن السلف والخلف الجديد قد تحفظا على إثارة أمر هذه المقبرة لأنهم لو فعلوا ذلك لخذلوا كمية الناتج المتوقع للبترول المعد للتهريب أيام الحصار أو أيام الاحتلال هذه».
ويجب علينا أن نذكر الناس بمقبرة جماعية سكت عنها الخصوم والحلفاء في العراق الجديد هي مقبرة أهالي الزركة، هل نسيتم الإفراط في استخدام القوة ضد جماعة ادعت أن زعيمها هو المهدي المنتظر؟ لقد بقيت جثث النساء والأطفال والشيوخ في شوارع هذه القرية التي نكبت بسلاح العراق الجديد حتى صدور فتوى السيد السيستاني بدفن الجثث، إنها قبل أعوام قليلة عام 2007، وهذه العظام أضيفت إلى سجل الحقول التي سيتم الكشف عنها ربما في القريب العاجل وضمن صفقات السياسيين مع شركات النفط الحليفة للسلطة السياسية في بلادنا اليوم، لذلك من لا يعرف الآلية الكيمياوية التي يولدها من رحمها البترول، لن يفهم سبب تلك الحروب ولا تناسل المقابر الجماعية في كل الحقب، ولن يفهم آلة الموت التي تفتك بالعراقيين. من أجل المزيد من العظام، المزيد من المواد الأولية للإنتاج».
ولكن حين فكر المعنيون بأمر الحروب العابرة، هيأوا لحرب كبيرة ستنجب حروباً لا يُراد لها أن تتوقف أبداً. فكانت حرب 2003 التي هي بامتياز حرب الحروب لأنها ولدت ميليشيات، وفرق موت وإرهاب يحصد كل من أمامه وفساد لم يشهده أي بلد في الكرة الأرضية، وبراءات اختراع وتفنناً في طرق تصفية العراقيين لبعضهم، أخلاقياً وجسدياً.
ولّدت سارقين بزيّ رسمي، تناسلت بطغاة ، تناسلت بمجرمين سفّاحين، جعلت للعراقيين جلوداً تشبه جلد الفيل أو لا، كما قال أحدهم: تحولنا إلى صراصير لا تستطيع العيش خارج مستنقع الخوف والموت هذا».
قبل أن أكمل، صرخ صوت الحاجب بوجهي: «الآن عليك أن تهدأ، لقد أسرفت كثيراً بالتحدث عن الموت، لا تنسَ أنت في الحياة الأبدية وعليك أن تقدم الشكر لهؤلاء الذين كانوا سبباً في مجيئك هنا».
«يا أيها الصوت، يا أيها الغريب، لقد صدمت بهذا المنطق الذي يذكّرني بأن العذاب والبلوى هما اختبار وهما ملاذ الصابرين، لماذا أسموها حياة إذاً؟! ليستبدلوها بمقبرة ويسموها الموت!!».
«أنا لا أفهم هذه الصيرورة، فمن الموت إلى الموت ومن ثم يقولون لولا هذا الإجرام لما كنا ننعم بهذه الحياة الأبدية!!!».
ويستمر هادي في خطابه:
«أريد فلسفة واضحة، أريد حياة طبيعية، وسلاماً لأهلي ولجميع البشر، هذا كل ما أردته!
أردت أن يصبح القانون هو السيد ولا يستخدم بيد المتنفذين الذي يسخرون القضاء لتجريم البريء وتبرئة المجرم الحقيقي.
أردت وأعيد، حياة كريمة لا ينقصها أي شيء، حالها حال حياة شعب الإمارات ولن أتجرّأ وأقول حال الشعب الدانماركي، هل هذه الأمنيات لا المطالب الجد طبيعية والبديهية هي مطالب مستحيلة تتعارض والإرادت السماوية والأرضية؟!
آه كم هو سخيف وفارغ ومتشيئ هذا العالم، لا شيء على هذه الأرض يستحق الحياة، وعذراً منك يا محمود درويش، فلقد أسرفت كثيراً في تفاؤلك حينما جعلت قصيدتك تقول لقرائها: على هذه الأرض ما يستحق الحياة».

الفصل الثاني
الأسيرة ساحة التحرير

اللعنة على ساحة التحرير وعلى نصب الحرية. لقد عملنا وعلى سنوات عديدة من أجل إرساء الطائفية والعرقية وبذلنا الغالي والنفيس من الدريلات وكواتم الصوت والمجانين الذين قمنا بتفخيخهم هنا وهناك والسيارات التي فجرناها والأموال التي صرفناها على جدران العزل ولكن اليوم بغداد، تصوروا يوحدها نصب فني!! اللعنة على الفن، اللعنة على الفنانين، إنهم قردة الشيطان، هؤلاء يسيئون إلى المذهب، يسيئون إلى الله الذي حرم الفن، فكيف نغضب الله وخلفاءه من السادة القائمين على إحقاق الدين على وجه الأرض؟!!!!.
«إذاً سيدي العزيز علينا بمحاصرة نصب الحرية، أي ساحة التحرير».
«نعم عليكم بساحة التحرير، عليكم بتحويلها إلى ساحة ترهيب حتى لن يتجرّأ أي أحد من هؤلاء الصراصير إلى التفكير بالذهاب إلى هناك، إلا الذين يذهبون للهتاف بدعم حزبنا ضمن الخطة التي ناقشناها ليلة امس. ولا تنسوا أن القضاة الذين هيأناهم من أجل تحرير وإصدار مذكرات إلقاء القبض ضد النشطاء والناشطات، هم أيضاً سيكونون ضمن خطة الطوارئ في مكتب السيد القائد.
نريدهم أن يكفروا بالساعة التي فكروا فيها بالذهاب إلى هناك، خاصة بعض المترددين وبعض الذين غرروا بهم تحت حجة مطالبهم المشروعة والدفاع عن الحريات.
علينا أن نجعل ساحة التحرير تغزوهم في منامهم مثل كوابيس مملوءة بأعواد المشانق».
يضيف شيطانهم الكبير:
«ألم تكن هي الساحة ذاتها التي كانت مسرحاً قبل أعوام خلت لأعواد وحبال المشانق؟». الخمسينيات أو الستينيات.
«اليوم سننصب فيها مشانق غير مرئية. مشانق ستكون في العقول وفي الضمائر التي تفكر ولو بالحلم بإزعاجنا، أو تفريق ما حشدنا له خلال سنوات من الاستراتيجية الطائفية، إنها ملاذنا يجب أن نحمي هذا السر وهذه التعويذة بكل ما نملك».
يرد عليه أحد مريديه: «نعم سيدي، مولاي، فنحن الآن نملك كل شيء. إذاً لنوظف كل ذلك من أجل تحويل ساحة التحرير إلى شبح للخوف يتراءى لكل من يريد الذهاب والتظاهر هناك. وكأنها حبل مشنقة ستلتف حول أعناقهم عاجلاً أم آجلاً».
«إذاً لنعمل على هذا الأمر».
ويسأله الآخر: «وماذا عن ساحات التظاهر الأخرى في عموم العراق؟».
«لا عليك، إذا أنهينا رمز الاحتجاج هذا أي النصب وساحته اللعينة، فظله وأشباحه جميعها سوف تتلاشى بالتدريج، حتى وإن ضخت هذه المحطات التلفزيونية اللقيطة في رئة ساحة التحرير هواءها المسموم المحرّض كله فإنها لن تنجح أبداً في تحريك أية تظاهرة معادية احتجاجية بعد ذلك».
«هذا الإعلام ستكون قبالته مفاجآت بكشف رموز الإرهاب وعناصره التي ستعترف بمموليها الرئيسيين، فكلما فككنا تقارب المعارضة المتعدد إلى تقاطعات، كلما نجحنا في الانقضاض على ساحة التحرير».
«ولكن يا سيدي إذا سمحتم لي أن أدلو بدلوي؟».
«تفضل»، يجيبه سيده الذي دائماً تذكرك حركات شفتيه المثيرة للغثيان بشخصية غير واثقة بنفسها وغير مصدقة أنها من يحكم بلداً بحجم العراق.
«منذ أن راقبت التحشيد ليوم الغضب العراقي 25 شباط عبر الفيس بوك والإيميلات، أو عبر هذا الإعلام المدسوس، كنت أشعر أن المحتجين أو الناشطين الحقيقيين ليس لهم علاقة بخصومنا وأن الآخرين أي خصومنا هم المستفيد الأول من هذه الاحتجاجات، لأن أي احتجاج أو تظاهر ضد أي حكومة في العالم هو إشارة إلى عدم شرعية هذه الحكومة، وهذا ما يريده الخصوم، لذلك أرى أن علينا القضاء على هؤلاء الناشطين بوسائل شتى على سبيل المثال: إما استقطابهم والتحاور معهم ومحاولة إغرائهم، ومن يرفض ويصر على الذهاب أبعد بتلك التظاهرات فإننا سنعرف كيف نتعامل معه».
يجيبه سيده:
«أتفق مع وصفك ولكن المشكلة هي أن التظاهرات تصبّ في صالح الخصوم كلهم وأنتم تعرفون أنهم كثر، بل حتى الأطراف المتحالفة معنا والتي ما انفكت بالتآمر علينا ونحن نعرف حتى وإن تظاهر هؤلاء بإدانتها ولكنهم يدعمون هذه الاحتجاجات في الخفاء ويفرحون باستمرارها».
«توكلوا على الله».
«تفكيك الخصوم أولاً والإطاحة بهم سياسياً، وبما أننا كنا نوحي عبر إعلامنا أن هذه التظاهرات هي وجه هؤلاء البشع، إذاً سيكون هناك التفاف شعبي طائفي بالدرجة الأولى حولنا».
كما قلت لكم، إنهم يريدون الإطاحة بالمذهب واليوم المذهب هو الذي يحكم ويسود».
صرخ هادي: «لا، لا كفى كفى»، وهو يطالع هذا المشهد في العالم السفلي أي بغداد.
«عليك التحرّك الآن، هؤلاء أكثر الناس الذين خدعوا أصحاب المذهب، فما هو حال مدن الجنوب اليوم ومدينة كربلاء والنجف والقائمة تطول لتشمل البلاد كلها باستثناء مناطق كردستان بالطبع.
«فاليوم العراقيون بعضهم يلتحف بالمقابر لكي يتخذ منها مسكناً، وهذا الأمر كان مثار انتقادنا لحياة المصريين من الطبقة الفقيرة المعدمة وتعاطفنا معهم حينما كنا نشاهدهم في الأفلام المصرية ونشهق بآه عالية مدوية، إذ كيف بالبشر والأطفال أن يشاركوا الموتى سكناهم ويعيتبرون الموت بيتهم؟!!!!!» .
هذه وحدها كارثة كبيرة في بلد يعد من البلدان المنتفخة بثروات لا مجال لحصرها الآن.
لا، لا، والطامة الكبرى انظروا، انظر يا أستاذ شهاب، هل تصدق عيناك، هل تصدق؟!!!
لا، إنه خياط كيف له أن ينضم إلى هكذا اجتماع؟!!!
أنا حقاً لم أعد أفهم».
«يا أستاذ شهاب، أنا الآن في هذا المكان بدأت أفهم جيداً أو بالأحرى أتيقّن من شكوك كنت أطرد يقينها من ذهني. ولكن كيف لي أن أكذب عينيك وعينيّ أيضاً وعيون شهود الحقائق المؤلمة؟!!!.
كان خياط يتصل بي كل يوم ويقول: «هادي أينك؟ أين بياناتك بشأن التحشيد لجمع التظاهرات؟ ما هي آخر تحديثات الفيس بوك؟» وأنا بطيبة قلبي، لا، بل بغبائي كنت أخبره بكل شيء، فلم أتصور أبداً أن صديقي خياط كان أحد جواسيسهم، هذا شيء معيب والله، أن نتحول في زمن الحرية إلى جواسيس!!!
هذا الأمر كان بديهة في زمن الديكتاتورية والقمع والمغريات، أما الآن… أنت حر وأنت تدافع عن هذه الحرية التي ارتضينا أن نقايض بها وطناً ونأتي بالأمريكان كي نلمسها لمس اليد، كي نتعرف عليها».
فيقاطعني كامل شيّاع: «لكن يبدو أننا لم نحسن استخدامها أو الحفاظ عليها، المهم أنك تعرفت عليهم على خطئهم، فهم بهذا قد دنّسوا شرف المهنة.
أن تكون كاتباً أو إعلامياً هذا يعني أنك تحمل ضميراً لا ينحاز إلا للحقيقة، ضميراً لا يشترى ولا يباع حتى ولو بمال العالم كله.
ابتسم يا هادي، اضحك واشكر الأقدار أنك هنا ولست هناك، ألم يكفك نفاق الأصدقاء؟!
لقد تابعت جنازتك، لم أر أصدقاءك الذين كنت تحدثني عنهم وعن بطولاتهم، لقد خافوا حتى من موتك ومن رمزية ما تشير إليه وهي أن تكون صوتاً رافضاً للقمامات التي تملأ أفواه المدن، خافوا غضب أسيادهم.
العراقيون لا ينظرون إلا إلى سلطة الكرسي، ومن جلس فوق هذا الكرسي فهو بالنسبة لهم سيدهم، السلطة يا ولدي لها شهوة مثل شهوة الرجل العنين إلى امراة عاهرة، تخيلها فقط، تصور أية شهوة هذه!!!!».

 
الفصل الثالث
الأمهات العراقيات والوزير النزيه

 

اتصل بي أحد الخبراء الدانماركيين من بغداد وطلب اللقاء بي، فاندهشت لأنني كنت أعرف هذا الرجل كونه خبير كومبيوتر وليست له أية علاقة لا من قريب ولا من بعيد بعالم السياسة والاحتلال، فإذا بي أمام مكتب مليء بالسيديات والأشرطة وأجهزة تشبه أجهزة الصوت في الاستوديوهات التي اعتدت العمل بها.
بعدما حيّيته بوصفه الآن ضيفاً في بلدي سألته على الفور: «من جاء بك إلى بغداد وماذا تفعل؟ بربك أخبرني».
قال، إنه انتدب بعقد من قبل القوات الأمريكية للعمل كخبير في مجال حل بعض الشفرات لتسجيلات عديدة حصلت عليها تلك القوات من خلال مراقبتها الساكنين في المنطقة الخضراء، ولأنه لا يثق بأي أحد على حد تعبيره ولمعرفته بي منذ سنوات إقامتي في الدانمارك فقد قرر منذ البدء أن يستعين بي كمترجم وسيط حيث أترجم له من العربية إلى اللغة الدانماركية وهو يعيد صياغة ترجمتي إلى الإنكليزية حتى هذه اللحظة تنتهي مهمتي التي سأقدم فيها خدمة له بالطبع ولوطني وسلامة وأمن المواطنين والمقيمين الأجانب كما كان يؤكد هو ذلك .
ولم أسأله عن الأجور التي ظل يلح في إعادة عبارة وكأنها لازمة موسيقية:
«إنها أجور مجزية حقاً».
بالطبع هذا الأمر لم يكن ليهمني، ما يهمني بالدرجة الأولى هو معرفة محتوى السيديات هذه، واسترسلت في أسئلتي: «كيف تم لهم كل ذلك؟!».
حتى إن أرفع مسؤول في الدولة العراقية التي يظن هو أو حزبه من يقودها ، لكن الأمر المضحك والمبكي حينما اكتشفت أنهم كلهم مسيرون مراقبون من دون حتى معرفتهم بذلك.
يا للسخرية والمهزلة، أردت أن أعكس الأمر وأتصوّر أن يذهب المسؤولون العراقيون وينصبون أجهزة تنصّت على أوباما ومن قبله بوش وكل إدارتهم من دون إخبارهم بذلك، فقط لكي يضمنوا سلامة وأمن أمريكا والأمريكيين!!!!!
والله لقد صار حال العراق حال لا تشابه أية دولة في العالم، لا بجبن شعبها ولا باستهتار حكومتها وغبائها الذي وصل إلى حد أنهم المراقبون وشعبهم من قبل أصدقائهم وحلفائهم!!!
ما سمعت وما رأيت وكأنني هو الذي رأى كل شيء،  فلطمت في موته بلادي.
ولكن للأسف بلادي حتى حزنها علي كان مخجلاً حقاً، لأنه وقع بين المزايدين وبين الخائفين وبين القتلة، حتى القتلة كانوا أكثر عدداً من أصدقائي في جنازتي.
الأهم الآن ما تكشف لي من فضائح ، فالرجل الذي كنت أراهن على نزاهته بوصفه آخر ما تبقى من المسؤولين في بلادي والذي كان ولو بصوت خافض ولكنه مدوٍّ يقول ويردد عبارته: «مهمتي الأولى هي إنهاء عصر الفساد في هذه الوزارة وتطهير الوزارة الأخرى التي كان يديرها بالاستعارة».
إن ما سمعته ورأيته قد أصابني بالخرس، من براءة اختراعات جديدة في الفساد والمتمثل بحلب المقاولين المتعاقدين مع وزارته بعمولات قد فاقت ميزانية وزارة الثقافة التشغيلية على سبيل المثال.
وإليكم هذا المشهد:
سأعيد فقط تشغيل قرص السيدي الذي بقيت ساعات عاجزاً عن ترجمته لصديقي الدانماركي ليس بسبب عسر اللغة، بل بسبب الصدمة واللعنة التي حلت في ضمير العراقي، وهي النهب والسلب والفساد.
المتحدث في هذا المشهد هو صديق الوزير واسمه عزوز الذي يتحدث مع صديقه الوزير: «معالي الوزير، سيأتي المقاولون بعد عشر دقائق، سوف أرسل لك العقود بالبريد المغلق بيد الملازم زيد، وما عليك إلا توقيعها وإعادتها بيده وسوف آتيك ليلا بالمقسوم».
يتقاطر المقاولون الواحد بعد الآخر كل واحد منهم حاملاً حقيبة على ما يبدو كانت عامرة بهذا المقسوم الذي تحدث عنه عزوز.
المقاول رقم 1: «دكتور، هذا مليون دولار ولكن بالله عليك ومثل ما وعدت به وهو أننا سنتمكن الليلة من استلام العقود المتأخرة موقّعة من قبل الوزير الذي كما كنت تخبرنا يرفض توقيعها من دون الحصول على هذه المبالغ».
أُثير الرجل الوسيط المسمى بعزوز معنفاً المقاول رقم 1: «أستاذ شنو يعني تلعب وية زعاطيط: هذا اتفاق رسمي وكلام شرف، سلم… تستلم، فقط انتظر خمس عشرة دقيقة بعد أن تشرب الشاي سوف يكون العقد في جيبك».
وفعلاً طرق الباب وإذا بزيد يعود حاملاً ظرفاً تفوح منه رائحة الشيكات المؤجّلة التي يصار إلى تأخيرها من قبل الوزيروطاقمه المتواطئ معه من أجل هذه الحقيبة أي حقيبة المقسوم».
انتهى المشهد
وبعد سيديات حرت في أية جهة أتقيأ بعيداً عن وجه صديقي الذي بادلني بشعور السخرية ولكنها بالطبع سخرية لم تصل إلى حدود الوجع الذي كنت أمر به، غير أني لم اعد أتحمل المزيد من المشاهد المثيرة للقرف والغثيان وكأنني كنت أشاهد أباً يزني بابنته وشقيقاً يزني بأخته وأماً تعتدي جنسياً على ولدها، نعم، إنهم يزنون بالعراق بشكل لا أعرف لماذا لم يقزز خالقهم حتى هذه الساعة منهم ومن أفعالهم؟!!!
قهقه الدانماركي وهو يتحدث إلي: «يبدو يا صديقي أن العراقيين شعب ماهر بالدهاء واستغفال القانون والسرقة وفق طرق متحضرة لا تعرف لها أي طريق للفضيحة إلا بتقارير العراقيين حول بعضهم كما عشت هذا الأمر هنا مع الأمريكان أو من خلال هذه السيديات الذكية التي تتفوق بتقنيتها على السارق وقدرته في إخفاء آثار جريمته أو ما يدل عليها».
صرخت به: «كلا، العراقيون يا صديقي لا يغدرون بأحد. العراقيون لا يسرقون الغير، نعم يسرقون أنفسهم».
لكن الرجل قاطعني: «لا يا هادي فلو حدثتك عن قصص استغفال العراقيين للقوانين في الدانمارك أو في بريطانيا حيث تقيم عائلة زوجتي، وكما قلت لك استغفال لأن مفردة – سرقة – يبدو أنها كلمة حساسة بالنسبة لك ولكنها الحقيقة.
إنها قضية جينات، ربما هي جينات العراقيين التي تأبى إلا أن تسرق، من يدري؟!!، خذ هذا النموذج: كاتبة عراقية تعرف نفسها بأنها كاتبة يسارية! ذهبت هاربة من جحيم صدام، وقد كانت قبل هربها تسكن بلداً عربياً وفر لها حياة باذخة هي وأسرتها ولكنها ارتأت أن تجد لها محطة دائمة في عاصمة الضباب لندن، فوصلت إلى هناك تاركة أفراد الأسرة مصطحبة واحدة من بناتها، ادعت أمام السلطات البريطانية أن زوجها قد قتل في بغداد تحت التعذيب وأنها لا تمتلك غير هذه البنت التي خرجت بها من الدنيا، وفي هذا الوقت أي بالتوازي كان ابن هذه السيدة وهو أكبر أولادها يقيم في بلد خليجي قام بتزوير بطاقة شخصية لجواز فرنسي واشترى منزلاً في لندن. دفع الابن عربوناً لهذا المنزل والمبلغ المتبقي من شراء البيت يفترض أن يسدده عبر ما يسمى بالموركج أي القرض البنكي، وعلى مدى 15 سنة. ولكن ما الذي فعلته هذه السيدة؟
عفواً يا هادي، كيف استغفلت البلد الذي منحها الحرية والأمن هي ووحيدتها كما كانت تدعي!
لقد قامت بالاتفاق مع ولدها الذي هو ليس بولدها أمام السلطات البريطانية باستئجار المنزل لتتحمل بلدية لندن قيمة الإيجار وتدفعه شهرياً إلى هذا الفرنسي أو بالأحرى ولدها السري، وحينما سددت كافة أقساط المنزل استمرت هذه السيدة بالكذب وبالضحك على هذه السلطات فالمبلغ الذي يدفع من قبل دافعي الضرائب يذهب لحسابها وحساب عائلتها وبهذا ضربت عصفورين بحجر: شراء منزل بفلوس البريطانيين والعصفور الآخر هو استمرار الدولة بتقديم المساعادات المالية كونها لا تملك عملاً ولا سكناً.!!
«هادي، هل وجدت سرقة أبشع أيضاً من هذه السرقة؟!، ماذا تسميها؟».
هذه السيدة وأسرتها المتواطئة معها أيضاً تزني بالبلد الغريب الغربي الذي أواها. وبالمناسبة هذه واحدة من ملايين القصص للعراقيين الذين يسرقون المعونات من دافعي الضرائب هناك ويحتالون على العمل بالسر من جهة واستلام المعونة من جهة أخرى والتي أي المعونات كما تعرف تتوقف بمجرد حصول الإنسان على العمل».
خجلت من صديقي الدانماركي ولكنني في سرّي كنت أتفق معه تماماً، فقد عشت تلك القصص، ومن بينها ما راج مؤخراً وهو انفصال شكلي للعراقيين من زوجاتهم من أجل الحصول على منزلين مجانيين من الدول التي تأويهم، منزل لسكناهم والآخر يصار إلى استثماره تجارياً!!
نعم قصص مخزية. حتى ليتبرّأ المرء في أحيان كثيرة من عراقيته حينما يصادف ويسمع من الأجانب تفاصيل هذه السرقات، ولكنني أعود إلى مثالي، أي الوزير الذي كنت أدافع عنه، لا، بل أستنجد به حينما هبت رياح تظاهرة 25 التي كانت بالدرجة الأولى ضد الفساد الإداري، لكن الرجل كما رأيتم معي كان هو أحد حيتان هذا الفساد، وكما قال أحد الضباط الذي خلع رتبته العسكرية وهو يبكي ويصرخ: «دولة مثل سمكة معفنة، رأس السمكة خايس(12)».
المهول الذي رأيت هو الوزير نفسه والذي أسميته ذات يوم وزير النزاهة بامتياز يمسك بالحقيبة ويتصفح اللفات، أعني الدولارات، ويخبر صاحبه: «عفية هذولة حرامية وأكيد فلوس مقاولاتهم كلها حرام، شوف اشكد نتعب بس حتى نخليهم أوادم، هذه زكاة صدقني يا عزور، زكاة عن دماء كل الشهداء. وزكاة عن فزع عائلاتنا في كل لحظة على مصائرنا ونحن نعمل هنا، كل واحد منا يحمل دمه على كفه، على الأقل نريد ترك شيء يؤمن مستقبلهم. وليعذروا غيابنا ويعرفون بعدها سبب ذهابنا للخطر وقبولنا العمل فقط من أجلهم».
السياسة هي الفلوس إنسَ الوطنيات.
فيجيبه عزوز: «أستاذ ولكن أريد أن أقول لك شيئاً. والله لو انكشف الأمر فأنا لست بطلاً، فمن أول ضربة لرجال الشرطة أو الأمن سأعترف بكل شيء».
قهقه الوزير ساخراً من وسيطه: «ومن سيعرف؟! وكيف؟!!! إنها ستسجّل ضد أحد المغفلين هنا، حتى يتوقف عن الحديث عن النزاهة.
أنت تبالغ بهذا الخوف، دولة كلها تسرق ومراجع تحلل لك السرقات، فما هو مبرر هذا الخوف؟ إنه تبادل مشترك لتركة صدام، أعني تركة وطن عفن لا يتطهر ولا يساق إلا هكذا.
شعب مثل القرود تعطيهم تجد يدهم تقبل رأسك، أما إذا أدرت بوجهك عنهم يأكلون من مؤخراتهم . قرداً أي ورب العزة قرداً ولا أستثني منهم أحداً، طبعاً لم يقصد مظفرالنواب(13) الحكام العرب حينما صرخ بهذا البيت والله يا عزوز أنا على يقين أنه كان يقصد شعوب هؤلاء. السُرّاق وأصحاب الكروش، هؤلاء المقاولون، صدقني لو تحريت قليلاً لوجدت أن أغلب أموالهم هي سحت حرام، إما من حواسم صدام وإما من حواسم الأمريكان وعاشت النزاهة ويحيا العراق الجديد».
لم أصدق ما رأته عيناي وما سمعته أذناي، في تلك اللحظة قرّرت أن أكفر بالصمت، وأن أحث الناس على الخروج إلى ساحات الاحتجاج، إنهم يريدون رؤوسنا جميعا، فالذي يسرق الدولة هو لا يتوانى من سرقة أرواح مواطنيها الذين يتحدث عنهم بهذه الطريقة الدونية.
قرّرت أن ألتقي بأحمد، بخياط، وجبر وبالباشا وبحيدر ويحيى سرمد، شروق، سلام وأخريات من زميلاتنا، قلت لهم سأوجه بعض الأسئلة ولتكنوا ضمير هذا الشعب والعالم ولكني أريد إجابة واضحة بـ«لا» لا تقبل الشك والطعن و«نعم» واضحة وضوح شمس العراق غير الرحيمة بأهلها.
فهل ذاق الشعب التونسي ما ذاقه العراقيون في زمن صدام وفي زمن القتال الطائفي وزمن الإرهاب؟!
أجاب الجميع: لا.
هل ذاق الشعب المصري ما ذاقه العراقيون من حروب وإرهاب وحصار وخوف وانعدام كهرباء وحرب طوائف؟؟!!
أجاب الجميع: لا.
هل ذاق اليمنيون ما ذاقه العراقيون من البؤس ومن الخوف والرعب والمنافي والجوع واستجداء فيزا؟!!
أجاب الجميع: لا.
هل ذاق الليبيون ما ذاقه العراقيون من نهب أموال ومن منع للسفر من حروب عقيمة، ومن موت ومن سجون وتعذيب وإرهاب وحصار ومنافٍ؟!.
أجاب الجميع: لا.
هل ذاق البحرينيون من حصار وجوع وإرهاب وسجون وحروب وإذلال بمنحة تأشيرة خروج وسفر وموت مجاني ومفخخات مثل ما ذاقه العراقيون؟!
أجاب الجميع: لا.
هل ذاق السوريون أو الأردنيون ما ذاقه العراقيون من حروب ومن حصار ومن إرهابيين ومن موت وسجون وطغاة يتناسلون وسُرّاق و..؟!!
أجاب الجميع: لا.
صرخت بهم جميعاً: « لعنة الله إذاً على هذا الصمت!.
فلماذا لا نخرج ونحرج الحكومة التي تريد عقد قمة الدول العربية خلف أسوار المنطقة الخضراء. نخرج بتظاهرات تلعن الطغاة العرب وتلعن سارقي أعمارنا وناهبي ثرواتنا ونجعله يوم غضب عراقي هو يوم 25 شباط، يوم يولد تحت نصب الحرية ليولد عراقاً جديداً من صنع أيدينا، عراق الفقراء المحرومين الذين ستحتضنهم ساحة التحرير».
أجاب الجميع: «نعم سنخرج».
هكذا كنت البداية، بداية البدايات للعراق والعراقيين، بداية الخروج من الخوف.
لن نخاف أحداً بعد اليوم.
إننا عراقيون موحدون تحت راية – أحبك يا عراق – وليس تحت راية الدكتاتور ولا راية السراق والظلاميين الجدد.
تحت راية الحرية، حرية ستولد من هذا النصب وليس من زواج متعة مع الاحتلال أو مع مصاصي الشعب».
ذهبنا إلى مقهى إنترنيتي ليس فيه رائحة الجواسيس ولا المفخخين الانتحاريين. مقهى فيه سلامنا الحقيقي وعراقنا الصحيح هو: واجهات الفيس بوك وبدأنا بالتحشيد للتظاهرات، بعدها انضمت إلينا مجاميع عديدة، بعضها ربما كان يحمل أجندات أخرى ولكننا وشباب نصب الحرية وآخرين مثلنا لم يكونوا يحلمون إلا بعراق المعافى الآدمي وليس هذا العراق المسخ.
شكّلنا فريقاً متطوعاً كان أغلبه لا يعرف بعضه الآخر. كانت هناك أسماء مستعارة عديدة تخشى الموت أو السجن أو الاختطاف أو الاغتصاب كما هو حال تسنيم وسارة ووردة وديما، إلا نحن فقد قررنا الدخول بأسمائنا الصريحة، وكما قلت كنا قلة، لكن المد الشعبي بدأ يزحف على الأرض متجاوزاً حتى الفيس بوك، وبدأت الناس تتهيأ للخروج من جميع المحافظات إلى ساحة التحرير يوم 25، وإذا بالحكومة وجميع الجهات السياسية المشبوهة بدأت تصاب بحالة هستيريا لم تمر بها أية دولة من قبل ولا أية حكومة في العالم سوى الحكومة الأمريكية بعد ضربات 11 سبتمبر، وحتى هذه الأخيرة تركت هامشاً من الحرية للناس ولم تعتد على حرمات الطرق ولا الكهرباء التي هي أصلاً غير موجودة. بدأ المسؤولون يظهرون كل دقيقة على شاشات التلفاز محذرين ومتهمين كل من يخرج للتظاهر بالتهمة الرائجة والحساسة وهي إما البعثية أوالقاعدة.
ثم توجّهوا بعد ذلك إلى تأليب المراجع الدينية ضدنا لكي تصدر فتاويها للناس وبالأخص للشباب حتى لا يساهموا في الخروج ملبين نداء مظاهرة الغضب التي جاء التحشيد إليها من طرح رأي بسيط لي ومن الغثيان الذي أصابني بعد أن قمت بدور الشاهد والمترجم على فصل يبدو أنه هامش بسيط من هذا الخراب ومن عالم الحيتان الكبار كما أكدت لي السيديات الأخرى للفاسدين الكبار الذين يتربعون تحت حصانات البرلمان وآخرون على كراسي الوزارات والمتبقي منهم إما في عمامات بيضاء أو سوداء والقائمة تكاد لا تستثني أحداً.
كلّما حشدت المواقع الإلكترونية لهذا الحدث الذي سيضرب الحكومة بالعظم ويظهرها فاقدة لشرعيتها من خلال أصوات الاحتجاجات هذه، كلما ازداد ت شراسة القرصنة على تلك المواقع أو التهديدات أو ضخ المندسين الذين كانوا يهتفون للبعث ولصدام لكي يشوّهوا أهداف التظاهرة واستقلالية وشرف المحتجين والقائمين على هذا الحراك الشعبي.
أما الموقع الذي شهد حروبا شرسة، حروب شتائم وتبادل اتهامات وتهديدات هي صفحات الفيس بوك الذي قررت فيه مجموعة من الشباب بالتعاون معنا إلى تشكيل تجمع أطلقوا عليه «شباب نصب الحرية، طبعاً هناك آخرون من قام بانتحال اسم هذا التجمع الذين كان أصحابه لا يؤمنون بقيادات ولا ناطق رسمي. هذا التجمع ولد من أصوات الشعب المحرومة. ليس له علاقة بأية مفردة اسمها سياسة، أراد أن يكون لوبي ضغط على الحكومة والبرلمان وكافة الكتل السياسية سواء المشتركة بالعملية السياسية أو حتى المعارضة لها.
شباب نصب الحرية اختلفوا عن بقية المجاميع بخطابهم الهادئ غير الثوري الداعي للإصلاح وليس للانقلاب، والتغيير السلمي، نداءاتهم كانت تدعو إلى التحام العراقيين وإسقاط مشروع ملوك الطوائف، ولكن ما إن صدر بياننا الأول حتى أصيبت الحكومة بالذعر وفوض السياسيون كبيرهم بتوجيه خطاب يدعو العراقيين إلى عدم التظاهر والخروج يوم 25، وإذا أصر الشعب على التظاهر فعليه التوجه إلى مكان بديل، وليكن شارع المتبني.
وبالمناسبة كان هذا الشارع هو المكان المقترح في البداية ولكننا قد غيرناه لسبيبن:
الأول هو اتساع نطاق الراغبين بالتوجه والمشاركة بالتظاهرة والتي لن يسعها شارع محدود كشارع المتبني، والسبب الآخر هو تسمية الحكومة واقتراحها لهذا الشارع كحل بديل للتظاهر وتأييد الحكومة بدلاً من إدانة عمليات القتل والإرهاب وقمع الحريات ووقف السرقات للمال العام، الشعارات التي كنا نريد التظاهر من أجلها.
شكّلنا فريق طوارئ لحماية وحراسة الموقع الذي تعرض مرتين للقرصنة من قبل جهات بالتأكيد هي الجهات التي لا تريد لتظاهرة 25 أن تتحقق، فكانت تسنيم التي أخذت على عاتقها مهمة الأمن هي وزميلان اثنان، وكذلك قامت بتصميم العلم العراقي الجديد وفكرة استبدال كلمة الله اكبر التي أضافها صدام حسين على العلم القديم السابق وإحلال كلمة أحبك يا عراق بدلها، لأن غباء السياسيين قد نسي حينما ألغى النجوم الثلاث بوصفها رمزاً لأهداف الحزب المنحل أي حزب البعث، إلا أنه ترك بصمة مهمة لصدام لا يمكن لأي عراقي أن ينساها وهي العبارة التي أضيفت رياءً أثناء حرب الكويت.
«جميع السياسيين يعرفون القتلة كما يعرفون أنفسهم لكن مصلحتهم تقضي بأن يبقى العراق مدمى، متى ما تعافى يقودهم مثل الصخول إلى المنحر». هذه الرسالة كانت قد وصلتني من صديقي الشاعر زين العابدين وهو ينزف دماً على ابنه بعدما خطفته يد الهاونات. إن إجابته هذه لي قد عززت قناعاتي أن هؤلاء جميعاً متورطون في دمنا.
لذلك حتى وإن لم تكن ساحة التحرير لكانت ساحات وشوارع بغداد التي تحولت إلى رموز يخافها المتهم غير البريء الذي يريد من خلال قلقه إخفاء شيء ما.
المهم، لم تمض ساعات حتى بلطت الحكومة صفحات الفيس بوك بالمندسين الذي صرخ أحدهم: «عاش البعث، كلنا صداميون»، أراد استفزازنا وزرع الشك والريبة في الجموع التي بدأت تحج إلى صفحاتنا وتحديداً صفحة شباب نصب الحرية التي كان يصرّ شبابها وشاباتها على أنهم مجموعة لا تنتمي إلى أي حزب أو أية جهة سياسية، هم ولدوا من الحراك المجتمعي الشعبي لا يؤمنون بقادة ولا ناطق رسمي كما تعودنا على هذه المسميات في كل الأحزاب والتجمعات حتى الشعبية منها.
كانوا يصرّون على أن يكونوا وقود الشارع الحماسي ويحاولون منع المعروفين من الكتاب أو الفنانين من الخروج للتظاهر خوف تعرضهم للاعتقالات أو الموت.
كلما اتصلت بواحد منهم على صفحة الفيس بوك، كلما ألح في طلبه بأن أتوقف عن مهاجمة القتلة والسارقين باسمي الصريح، كانوا يرددون الجملة التالية: «ستكون الهدف القادم وهذا ما نخشاه فأنت كاتب وفنان وهذا هو خزين الوطن وبنيته التحتية المهمة».
كانوا يسهرون على الموقع لينظفوه من الطارئين وعملاء السارقين الذي كانوا يريدون إما تسريب الأخبار التي تخيف الناس ومعرفة تحركاتنا أيضاً وإما إلصاق تهمة البعثية بنا أو الانتماء لتجمع العراقية.
أصرينا وكانوا معنا على عدم التراجع عن جعل ساحة التحرير قبلتنا ورمزاً للاحتجاج السلمي والمطالبة بحقوق العراقيين وإعادة أموالنا المنهوبة.
وفعلاً وقبل ساعات من إطلالة فجر يوم 25، قامت الحكومة بقطع أوصال وجسد العاصمة بغداد، فقد فصلت الكرخ عن الرصافة ووضعت الجدران الكونكريتية الكبيرة على الجسور وخاصة جسر الجمهورية خوفاً من عبور المتظاهرين الجسر والإطاحة بالمنطقة الخضراء، مقر الأمريكان والحكومة والتي لا تبعد سوى أمتار عن مقام نصب الحرية.
اتصل بنا الأصدقاء وحاولنا التركيز على التحشيد واختراع طرق للتخلص من منع التجول القسري غير المباشر والذي فرضته السلطات وحملات الترهيب للمواطنين بتخويفهم من القاعدة والمفخخين الذين يصار إلى جعلهم شبحاً يحول دون التظاهرة وحرصاً منهم طبعاً على حد مزاعم الحكومة على أرواحنا كما كانت تدعي، لذلك أعدت خطة تتمثل بخنق الشوارع ومنع السيارات من التجوال، مما جعل البعض يفكر بالتراجع، فتظاهرة بهذه الإجراءات هي إذاً محكومة بالفشل.
صحت وصاح شلش: «لا ترعبوا الناس، علينا الاستمرار بالتحشيد».
وفعلاً بدأنا نحشد.
سنخرج
سنتحدى كل شيء، فنحن لا نحمل إلا الزهور فهي سلاح احتجاجنا وأعلام العراق، فبماذا تخيفهم تظاهراتنا السلمية!!!؟
بعد مطاردات القوى الأمنية لشباب الرصافة الذين تمكنوا بسهولة أكبر من الوصول إلى الساحة الأسيرة والمقفلة من كل جوانبها بالمدرعات وبشرطة قمع الشغب والجيش.
اتصلت بأصدقائي الذين سيتوجهون من جهة الكرخ باتجاه الساحة، فالأمر لم يكن يبشر بالتفاؤل، كما أخبرني عماد بمكالمة سريعة على إثرها طوّقته القوات الأمنية واقتيد بعدها إلى مكان مجهول. أما عبوسي الذي كنت أحثه إلى القدوم عبر وجهة أخرى وهي جسر الأحرار بعدما تيقّنت أن الحكومة قد غاب عن بالها إغلاقه، وفعلاً توجه ليث وعبوسي ومن معه عبر مستشفى ابن البيطار وعبروا جسر الأحرار ووصلوا إلى الساحة وهم يهتفون: لا رجعية ولا بعثية نريد حكومة مدنية، ونفديك يا عراق لبيك يا عراق،
بالروح بالدم نفديك ياعراق.
كلا كلا للإرهاب
كلا كلا للبعث
كلا كلا لفرق الموت
كلا كلا للمافيات للميليشيات لسُرّاق المال العام لناهبي ثرواتنا
كلا كلا للاحتلال».
هنا صرخ شلش مرة أخرى: «يا شباب لا تشتّتوا أهداف التظاهرة. فالمشكلة اليوم ليست مع الأمريكان. لا تضيعوا درب وهدف الاحتجاجات وتسمحون للمزايدين باسم طرد الاحتلال بإفشال التظاهرة. مشكلتنا اليوم هي مع الظلاميين من القتلة وسراق المال العام»،
وأضاف: «نحن معسكران: معسكر يريد الحرية بلباسها المدني، يريد الحياة الكريمة والتمتع بثروات الله في هذه البلاد المنكوبة، ومعسكر الشر الذي لا يريد إلا رأس العراق.
إذاً دعوا المحتلين الآن، فإنهم راحلون لا محالة وسنبقى نحن ومعنا وطن، أما هؤلاء فقد جاؤوا من أجل أن يرحل كل العراقيين ونقول كان هناك وطناً يسمى العراق».
فهم الناس البسطاء أيضاً معادلة هذه الاحتجاجات، وإذا بالسلطات تصاب بالحالة الهستيرية حينما بدأت القنوات العراقية الأخرى ببث أولى صور الاحتجاج الشعبي العارم في بغداد بعد أن منعت كافة الفضائيات من التواجد في الساحة والبث الحي باستثناء القنوات الرسمية الموالية لها.
إنه أسلوب صدامي بامتياز، وهو حجب الحقيقية ولكنه زمن آخر، فاللعبة تحتاج إلى تقنيات وحبكات أخرى غير حبكة وتقنية صدام الغبية والبالية.
نجحنا، وأردنا البقاء والاعتصام بالساحة، ولكن الهياج الشبابي أطاح بأول جدار يحمي أصحاب المنطقة الخضراء والذي كان قد وضع على مداخل جسر الجمهورية القريب من هذا المكان والذي يفصل بين الكرخ والرصافة.
فإذا بالأوامر العليا تصدر على الفور بالانقضاض علينا نحن العزل لتبدأ معركة غير متكافئة بين الشعب المطالب بحقوقه وبين دولة حشدت كل ما تملك من القوة لتضرب مواطنيها، ونجحت إلى حد بعيد في تفريق الاحتجاج بالعنف، حتى إننا حينما حاولنا حمل أحد المصابين وكان شاباً صغيراً ينزف إلى سيارة الإسعاف لكنها هربت حال وصولنا اليها، ومثيلتها سيارة النجدة التي تحولت من سببب وجودها وهو نجدة الناس إلى الفتك بهم.
يبدو أن التعليمات التي سمعنا بها والصادرة إلى كل تلك الجهات بعدم إنقاذ أي متظاهر في حال تعرضه للإصابة، كانت صحيحة وليست إشاعات كما كانت تدعي الحكومة. كان هذا الأمر في غاية اللاإنسانية أولاً وثانياً كان اختراقاً بشعاً وفي وضح النهار لحقوق الإنسان».
«هل حقاً؟!!»
تشهق أطوار التي يبدو أنها توقعت أن استشهادها قد جاء بأناس شرفاء يحمون شعبهم لا العكس.
أجبتها: «وأكثر من ذلك يا أخيتي، هل تتصورين ما الذي حدث؟
هؤلاء لم يكتفوا بضرب وتفريق المتظاهرين والمتظاهرات ولكنهم استمروا في ملاحقة الذين ظنوا أنهم وراء تحشيد الناس إلى أماكن تواجدهم، وبعد ساعات أمسكوا بنا. كنت مع أصدقائي الإعلاميين وإذا بهمرات ورفسات وضرب وشتائم تنهال علينا وكأننا أولاد عم الزرقاوي(14) أو أبو درع(15).
والله حتى لو ظهر هذان المجرمان أمامهم بكل جرائمهم البشعة ما كان لهم أن عاملوهما بهذه البربرية التي عاملونا بها، وبهذا الشكل المعيب حقاً.
«وماذا حصل بعد ذلك؟ ألم تخبروهم من أنتم؟ وأنكم لم تحرقوا ولم تفعلوا أي شيء يخل بالأمن العام؟» تتابع أطوار أسئلتها البريئة.
«أي توضيح تريدين أن نقدم لهم في تلك الساعة يا أطوار، وقد كان الضرب هو الحوار الوحيد الذي حاورونا به. حتى إنهم أجبرونا على التوقيع على تعهدات لا نعرف ما هي، وما فحواها!!».
«أنذال يخافون الحقيقية إنهم لا يريد رأس الإمام علي، إنهم يريدون رأس العراق».
والأهم من الوزير الذي خان وخيب ظني واعتدى على يقيني بما رأته عيناي، – هن من؟ يسألني التميمي؟!
هن – اللواتي خرجت من أجلهن: أمهات العراق.
فأمهات العالم كله ينتظرن أبناءهن في المطارات أو في البيوت الآمنة أو في مولات الأسواق الكبيرة إلا أمهات العراق. فقد كتب عليهن حظهن العاثر أن ينتظرن إما: في المقابر التي هي محطة الاستراحة ومكان قضاء الإجازات والعطل الرسمية منها وغير الرسمية.
الناس في أماكن أخرى من العالم كله تسافر في إجازات وتفرح لدى ذهابها إلى محلات التزحلق على الجليد أو الاستلقاء تحت الشمس ولقاء البحر أو التسوق في شوارع لندن أو باريس، إلا أمهاتنا فعيدهن هناك في هذه المقابرالآخذة بالتمدد في أرض الرافدين!! أو على حافة الجبهات، أو خلف طوابير الشهداء الذي أرغموا على أن يكونوا شهداء في حروب الدكتاتور الخاسرة كلها والعقيمة.
ومن ثم رحن ينتظرن أمام ثلاجات الموتى بعدما سقط الدكتاتور. في طوابير طويلة عرفتها جميع مشافي بغداد أو أمام نهر دجلة. فصرن بدل أن يوقدن الشموع لطلب الشفاعة من النبي الخضر ويضعن الأواني والياس(42) كما كنا قبل عام 2003، صرن يقفن أمام نهر دجلة من أجل انتظار الجثث الطافية والرؤوس المغدورة التي تفتش هي الأخرى عن أجسادها !!!!!!!.
هذا المنظر الذي لم يتوصل إليه حتى شكسبير في أكثر قصص العنف رعباً والتي دارت حولها أعماله إلى التفكير به، فهو ضرب أبعد حتى من سيرالية سلفادور دالي، و قصص مصاصي الدماء الذين يتخاصمون مع الآلهة في روايات الخيال العلمي والانتقامي.
دجلة العراق صارت مياهه تخجل من الأمهات وتحاول أن تتوارى، فحتى النهر بعنفه وجبروت فيضاناته لم يعد يتحمل رؤية أمهاتنا وهن ينتظرن الرؤوس علهن يجدن حبيباً أو ولداً قد خطفته يد فرق الموت والإرهاب الأسود الذي حل ببلادي مثل جراد مسموم ووباء إيدز لا شفاء منه!!.
الأمهات اللواتي يتسولن أمام أبواب السفاحين واللصوص الجدد ويتحولن إلى شحاذات في بلد الـ40 مليار المفقودة أو بلد ميزانيته 72 مليار يعني أكبر من ميزانية أربعة بلدان عربية مجتمعة هي سوريا، الأردن، البحرين وحتى الكويت.
أمهات منكوبات، شعرت يا أخيتي أطوار أن كل أم تحفر في عيني صرخة وتثقب باب القلب بعتاب مر واحتجاج على هذا الصمت.
صرخات الأمهات صارت تنقضّ عليّ كل يوم وتدفعني إلى تقديم رأسي قرباناً لدموع تلك الأمهات.
صرخات ترتطم ببعضها وتشوش رؤيتي حينما أقفز مذعوراً من فراشي كل ليلة» .
«لماذا هذا الصمت، نحن تعبنا من الانتظارات والندب وأنتم أيها الشباب ماذا وراءكم؟! عليكم أن تهبوا وتصرخوا وتقولوا مثلنا بصوت عالٍ: كفى كفى كفىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىى”.
هذه (الكفى)، هي التي لطمتني على وجهي وقررت أن أسهر ليل نهار من أجل استمرار المظاهرات. فبعد يوم الغضب العراقي وعلى حد قول إحدى نائبات البرلمان «لم أرَ بعثييين ولكنني رأيت عنفاً بعثياً يبطش بالناس المسالمين أي المحتجين».
أدركت وأنا أقتاد إلى المعتقل مع زملائي أن البعث حتى وإن استأصلته أمريكا بمدرعة وبقانون اجتثاثه الشهير ولفت حول عنقه جيران مثل حبل مشنقة، فإنه قد تناسل وعاد بثوب هؤلاء المتنفذين الجدد وبطرق اعتقال الشباب بسيارات الإسعاف وتحويل مهنة إسعاف المريض إلى سيارات أشباح تطارد الأبرياء. لقد بدأ الرعب يدخل مفاصل حياتنا من جديد.
فالطلبة خائفون.
الأساتذة خائفون.
الأطباء بعد مقتل زميلهم في كركوك في تظاهرة 25 خائفون.
بعد الاعتداء على الناشطات وبعد التهديد بالاغتصاب الذي لم أسلم منه حتى أنا حينما هددني أحدهم في المعتقل بلمس عضوي الجنسي لغرض إذلالي، كل نساء العراق المظلومات خائفات.
أبو غريب يتناسل يا عراقيون.
الرعب الصدامي يعود من جديد، فإن قلت إن صدام كاذب حينما كان رئيساً مزهواً بسلطته، فإن الموت بانتظارك. وإن اتهمت رئيس الحكومة المنتخبة اليوم بالكذب فالسجون السرية بانتظارك.
تهمة الإرهاب القاعدة والبعثية جاهزة بانتظارك.
وإذا كنت في دائرة العقود، فإن تهمة سرقة المال العام بانتظارك.
فالمليشيات جاهزة هي وكواتم الصوت، إنهما بانتظارك .
التكفيريون بانتظارك مع كل رجال الدين الذين استأجروا دور الله، هم أيضاً بانتظارك.
إذاً… لا مفر، فالموت أمامنا والذل والعار خلفنا فعلينا أن نختار أحدهما.
كان الاستمرار بتظاهرات سلمية أشبه بالمعجزة والأكثر تعقيداً هو الاحتفاظ بساحة التحرير كمنبر وساحة تشابه في فعاليتها هايد بارك الحرية في الدول المتحضرة، هذا كل ما كنا نصبو إليه حتى من دون تخطيط. وفعلاً تحولت الساحة من مجرد ساحة يوشحها نصب لفنان عملاق هو جواد سليم إلى رمز يقلق السارق والقاتل والكذاب والمنافق والدجال والتوفيقي والجبان .
ساحة التحرير عرّت الناس، كشفت لي زملائي واحداً واحداً.
تصرخ أطوار: «لا، فموتك كشفهم أكثر يا هادي، كشف جبنهم وكشف نفاقهم تماماً كما حصل معي، فقاتلنا، لا تنس، هو واحد يتلوّن كل مرة حسب الطلب.
يكفي أننا ومن هذا المكان شاهدناه وسمعناه سوية ومعنا كل شهداء الحقيقة».
لكنهم لم يتركونا يا أطوار، فقد سلّطوا علينا غربانهم وأرادوا بسيناريو جديد احتلال عقول الناس البسيطة والطيبة من أهلنا بعودة الطائفية المقيتة. وحدث ما حدث يوم العاشر من حزيران كنا قد أسميناها جمعة القرار وهي مرور 100 يوم على وعود لم نر منها شيئاً لحكومة انتخبناها نحن ونحن أيضاً من يريد تغييرها ضمن هذا الجو الديمقراطي، لكن أصحابها لا يعرفون لعبة الديمقراطية التي جاءت بهم. لا يعرفونها لأنهم لو كانوا كذلك لرحبوا بتظاهراتنا واعتبروها مظهراً حضارياً وصحياً لعراق جديد يولد من ركام الحروب والدكتاتورية، لكنهم للأسف حديثي العهد بالدكتاتورية عفواً بالديمقراطية. إنهم متمرسون في الإقصاء والسرقة والموت والكذب، وهذا ما جبلوا عليه».
احتلوا بالقوة ساحتنا وشتتوا الشباب بقسوة قتال الأخ لأخيه، فانسحبنا حفاظاً على أهلنا ولمنع فتنة طائفية قادمة أرادوا لها العودة وخططوا وبذلوا كل ما يستطيعون من أجل ان تنهض من قبرها العفن من جديد».
استمرت حملة الاعتقالات، فمرة بحجة عدم حصولنا على رخصة من محافظ بغداد، ومرة الادعاء بتزوير وثائق لبعض زملائنا من الفنانين المعروفين وحجج أخرى أشعر بالصداع والغثيان من استعادتها. لكننا لم نتوقف، تواصلنا بالإعداد للجمعة الكبيرة وهي مرور 200 يوم على وعود الحكومة وقررنا أن يكون يوم 9 من أيلول هو يوم التظاهرة.
أردناه أبيض مثل بياض قلوب العراقيين وليس الغربان الجدد، فأرادوه معتماً كما هو دائماً ليسموه بأيلول الأسود.
فقبل ساعات من بدء التظاهرة انهالت عليّ المكالمات والشتائم وعلى زميلاتي اللواتي نصحتهن بعدم الذهاب إلى الساحة يوم 9. لكن بعضهن أصرّ وبعضهن عرف مقدار وجدية خطورة التهديدات خاصة أن سلاح الشرف كان جاهزاً بيد خصومنا، هذا السلاح استخدم وما زال يستخدم وعلى مر العصور كسلاح ذو حدين في الأنظمة والبلدان البوليسية.
وصلت قمّة التهديدات لي باستباحة عرضي وشرفي وسحلي في الشوارع وغيرها حتى صرخت: «بكفىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىى».
«أعرف»، تجيبني أطوار، «لقد أرسلتها لي صديقتي بعد استشهادك».
«هل تقصدين ما كتبته على صفحتي في الفيس بوك؟».
«نعم»، تجيبني أطوار.
أعيدها عليك يا أستاذ شهاب هذا ما كتبت.
ثم حدث الذي حدث ولم أشعر بروحي وجسدي إلا معكم في هذا المكان البعيد القريب عن بغداد.

 الفصل الرابع
راعية الغيوم

سألت الصوت المضيء عن أصدقائي فأجابني: «كل واحد مشغول بكتابة قصته، لا تنسَ، فأنت من سيقوم بجمعها. فقد كنت طوال الوقت تحدثهم وهم الآن مشغولون في تدوين ما حصل.
عليهم تدوين هذه الأحداث كجزء من ذاكرة العراق أولاً، وكزوّادة لهم في أيام الصبر هذه على فراقهم لأحبتهم ودعائهم لهم أن يسلموا من آلة القتل غير الرحيم هذه».
ولكنها هنا قلت للضوء الذي يتحدث معي،
فسألني من؟
أجبته: «هي القديسة أطوار سيدة نساء العراق».
«نعم، إنها ترعى الغيوم من أجل المطر».
«ماذا؟ لم أفهم؟».
فقاطعني: «اذهب وهي ستقص عليك ربما حكاية الغيمة».
ذهبت وحييتها: «مرحباً أطوار كيف حالك؟».
أجابت بخفر وحزن: «بخير، أريد منك أن تخفض صوتك قليلاً، فأنا أستجمع دموع الأمهات»
اندهشت: «ماذا؟!!».
«دموع أمهات العراق التي خصص الله لها مكاناً هنا، حتى فاضت بهذا الغيم الذي تراه. فمهمتي هي أن أكون راعيتها حتى تحبل بولادة المطر. فكما تعرف أن الفرات قد تصحّر بسبب دفن المحتلين وغيرهم نفايات سموم أسلحتهم وكذلك مافيات القتل الأخرى التي حوّلت النهر إلى حاوية مائية لجثث المغدورين.
لقد تحوّل غضب الفرات إلى عطش بسبب تحوّل بعض العراقيين إلى تجار بدماء أهلهم، مما دفع الفرات إلى الهرب. إنه هنا ينام في تلك الغيوم، يلتحف بدمع أمهاتنا».
«ولكن لماذا لم يجد الله بيتاً لهذا الفرات غير الغيوم. ألم يعرف أنها ستلده مرة أخرى ليعود من حيث جاء؟!».
«لا ونعم. إنه يريد العودة ولكنه يريد أن يعود نقياً متطهراً بدمع الأمهات من دم القتلة، فلقد لوثوه بإجرامهم وعنفهم. فالدموع كما تعرف هي صلوات وأدعية وشارات بأن العراق حتى وإن قطعوا أوصاله إلى أقاليم فإنه حي لا يمكن لكله إلا أن يعود واحداً».
وعدت إلى أسئلتي:
«وما هذه الترنيمة؟».
إنها صلاة الخيرين والصادقين، إنها مطهر لأرضنا من سموم اللاهثين وراء رؤوسنا.
«انظر يا هادي تأمل في هذا النهر؟ ألم أقل لك إنه سجادة سيصلي في أحضانه كل العراق وسيغتسل من الذنوب».
أجبت أطوار: «نعم والله بالرغم من أنني لم أصلِّ في حياتي إلا أن الماء هذا وقطراته التي تتراءى فيها لي عيون أم حزينة ، أم ترقب عودة ابنها المغدور المخطوف، وابنها السجين الأسير الغائب. إنه أذان مهيب يدعوني لتلك الصلاة.
كان لنا غائب نرقب عودته لإحلال العدل. ولكن اليوم لدى كل العراقيين مليون غائب وغائب في انتظار الفرج، انتظار الرحمة.
حي على الصلاة.
الصلاة لعودة الماء وعودة الأمهات،
وعودة المغدورين حتى وإن عادوا جثة بلا كفن!
تصوري يا أطوار، إن أهلنا قد حمدوا الله كثيراً لأننا عدنا جثثاً، أي أنهم عثروا على جثثنا. فبعض الأمهات قد متن بحسرة الحلم بعودة الأبناء جثة لا غير!!».
مرعبة هي حياتنا هناك، حياة لا تليق حتى بأرذل مخلوقات الله.
ولكنني لا أفهم لماذا تطل بغداد من هذه الحفرة التي أصرّت أن تكون تحت أقدامنا.
لطم ونواح. أهذه مدينة أم حائط مبكى!؟
فحتى الحائط حينما تنوح أمامه فهناك ثمّة بصيص أمل يلوح لك في الأفق.
تقاطعني أطوار: «الدموع هي القربان العراقي لهذا الحائط. الدموع تطلب الشفاعة، ولكن نواح بغداد وبكاء العراق المنكفئ على وجهه لا يثير إلا الشفقة واليأس».
«لا … يا أطوار ، إنه يثير الانفجار. ولكنني أريد اختيار مفردة ليس فيها أثر للحريق ولا لرائحة البارود. العراق اليوم يثير الشفقة كما ذكرت. لكن الشعب شريك في صنع هذا البؤس فهو لم يسقط طاغية ولكنه كان على الدوام ماهراً في خلق هذه الأصنام.
لولا هذه القطعان من المتزلفين المنافقين لما صدق أي دكتاتور في العالم أنه الأوحد، وأنه الأكثر دراية وحكمة، و لما أحكم طوق ماكنته الأمنية فوق أعمارنا وأرواحنا ولما وبعدها مليون لما….
إنه الشعب. فشعوبنا في هذه المنطقة هي من صنعت هؤلاء.
الطغاة هم اختزال لفكرة نفاق التاريخ وكذب شعوبها».
«ولكن ليس هؤلاء فقط هم المشكلة والسبب يا هادي»، يقاطعنا الأستاذ كامل شيّاع مضيفاً: «المشكلة هي في هذه الأبواق. أعني قطعان الثقافة والإعلام. عادة ما تتقدم صفوف التغيير في أي بلد وأي عصر نخبة المثقفين والمفكرين إلا في العراق فهم متلوّنون مع أية سلطة. تعال وشاهد ما الذي يجري في وزارة الثقافة على سبيل المثال، أما وزارة الإعلام أعني شبكة الإعلام العراقية فهي ليست أقل سوءاً مما هي عليه الوزارة.
هم الوجوه نفسها التي كانت تمسح أكتاف الوزير البعثي، فهي اليوم تدعي أنها ضحايا النظام السابق. فمنهم من فصل أو تخلّف عن أداء الخدمة العسكرية أوهرب، لكنّه اليوم يُعدّ من الأبطال وقد دخل ضمن تصنيف يطلق عليه المفصولين السياسيين(16).
وكما يخبرني صديقي الناقد، أبو سدير، إن جلّ هؤلاء كان إما أديباً فاشلاً لا تصلح نصوصه إلا أن تدفن في مقبرة الأدب أي التسمية التي أطلقها صديقي أيام الثمانينات على النصوص الأدبية التي كانت تقدم له من أنصاف الكتاب وكان بالطبع يرفض نشرها ويدعها جانباً في ركن كتب عليه «مقبرة النصوص العرجاء»..
إن أصحاب تلك النصوص اليوم هم أبطال المشهد، والمشكلة أن أي تقييم أدبي للإبداع قد دخل في المحاصصة البغيضة أيضاً كما هو حال السياسة. إن المقياس في ولائك للعراق يقاس اليوم بقدر التزامك بطائفتك وقوميتك والولاء لها والعمل على الإمساك بها والدفاع عنها حتى وإن كنت متيقّناً من عدم صلاحيتها لوصفة وطن معافى.
بالطبع هذا الأمر لا يعني أن حقيقة ما قبل التاسع من نيسان 2003 كانت هي الأفضل والأحسن، لكن الأدب كما يخبرني صديقي حيدر لم يكن ليخيف صدام ونظامه. الشعر لم يهدّد أركان ذلك النظام لأن الأخير قد عرف كيف يضحك على هذا الأدب ويستخدمه في شعارات الدفاع عن الوطن.
الأدب في ذلك الزمان انشغل بالدفاع عن ذاته التي تشيّأت في وطن كان يحارب ولا يمكنك من الناحية الأخلاقية أن تقف مع صف الأعداء أي مع القوى التي تريد أن تنحر الوطن على حساب الوطن المطلوب من العالم كله بحصارات وتعويضات ومنع سفر وواوات لا تحصى.
هكذا خلق صدام أسطورة ووهماً بحيث أبطل أية فاعلية للأدب ليكون فقط واجهة للتصدي. لقد شوّش فكرة الأدب الذي حبسه في أسر المديح وبين التصديق بأن الأدب يجب أن يقف مع الوطن ضد الأعداء المرئيين وغير المرئيين لأنه كان يخلق لنا في كل يوم عدواً جديداً فقط لكي يشغلنا عما كان يجري من إبادة للحس الأخلاقي للاحتجاج. كي لا نقولها عالية وهي كلمة – لا – أي الرفض.
عالية وليست – لا – الخجولة التي يهمس بها دون الصراخ بها عالياً.
لكنها يا هادي كما تعرف أي هذه – اللا – كانت تخاف مؤسسات أمنية غزت حتى أسرة بيوتنا، إنها جمهورية الخوف كله، لكنّه الخوف المعرف والمعروف.
اليوم يتشظّى هذا الخوف ويتحول إلى رعب، بعضه مجهول والساسة يريدونه أن يبقى كذلك وبعضه معلوم ولا يمكن الخلاص منه إلا بالخلاص من زواج الدين بالسياسة».
«عاش فمك، جبتها من الآخر» كما يقول اللبنانيون.
يقاطعه هادي الذي يصرخ: «إنهم يغتالونها. يا الله أتوسل إليك بأن لا تمكّنهم من ذلك. أوقفهم، أزحهم بزلزال، وأمسك يا الله بحناجرهم، أمسك بشهواتهم».
تسأله أطوار ويقترب منه التميمي وأحمد آدم ورعد مطشر وكامل شيّاع، يصرخون جميعهم: «ما الذي حدث؟»
يقول لهم هادي: «انظروا إلى الساحة الإنترنيتية، الوطن الذي كنا نعتبره الاحتياطي لنا. وهو الفيس بوك أي نصب الحرية.
ذهبت اليوم إلى موقع الشباب فصدمت مما رأته عيناي، عصائب الحق وبعض القوى الظلامية وكذلك البعثيون المنهزمون وواوات كثيرة أيضاً تنشر رسائلها على الموقع.
أينك يا شلش العراقي(17) يا ضمير العراق كله؟
أينك يا تسنيم العراق(18) يا لغز الحقيقة؟
أينك يا باشا البغدادي(19) يا زين الشباب؟!
أينكم؟
هل يعقل هذا؟! كنت أظنّكم حرّاس الساحة من القتلة، من المرابين بأعمارنا!
هل إن رسالتهم لكم باغتيالي قد أتت أكلها؟!
صرخت منفجراً ببكاء مرّ، فإذا بصوت يتحدث إلي بذهول غير المصدق رؤيتي:
«من؟ هادي؟!! هادي المهدي؟!!!
هل حقاً؟ ليتك أيها الرب أن تديم هذا المشهد ولو للحظات» تمتم الباشا.
«لا يا دكتور» أجبته، أنا لم أقتل. لقد شبه لهم أنني هو، ولم أغادر إلا تلك الفترة التي رأيت فيها كل شيء».
يفتح عينه التي تجحظ بالسؤال: «ماذا يا هادي؟!!!».
«أين شلش؟ لقد افتقدت كتاباته التي كانت تزلزل عروش هؤلاء وتمدني ببصيص الأمل.
كانت عيناه لا تغيب أبداً عن أدقّ التفاصيل وأبسطها.
أين تسنيم؟ التي كانت تسهر حتى إنها فقدت دراستها لعام الغضب والتظاهرات بسبب التزامها بمتابعة الموقع وطرد المندسين؟ أينها؟! أينهم؟!!
أجابه الباشا: «ماذا أخبرك ، إنها قصص طويلة ويبدو أنها لن تنتهي، أشياء عديدة قد حدثت وهي أكبر من هذا العراق البديل».
ولكنني سألته على الفور: «ما الذي حصل؟!، كنت أظن أن اغتيالي قد جعلكم أكثر قوة لأنكم تتمسكون بالحق ضد الباطل، تتمسكون بالوطن الحقيقي ضد قتلته وضد سارقيه!!».
يجيبني بألم: «نعم هذا صحيح، ولكن لا تنسَ، أنت نفسك من كان يحذر تسنيم وصديقاتها بعدم الخروج إلى ساحة التحرير، بسبب شراسة وخسة الطرف الآخر الذي عرف وتخصص بكافة أساليب القمع في النظم البوليسية، وكان خير خلف لأسوأ سلف. إنهم بعثيون أكثر من البعث، إنهم صداميون أكثر من صدام».
«أعرف ذلك».
ويكمل: «لقد هدّدوا تسنيم بالاعتداء على شرفها، حيث وصلتها رسائل عديدة. بعضها قد تسلسل إلى أدقّ تفاصيل حياتها. وهي ابنة الـ19 كما تعرف، فقد تملّكها الرعب وكنت أحاول أن أهدئ قلقها. كانت لا تستطيع النوم الا بحبات الفاليوم التي كنت أحرص على عدم تشجيعها على المهدئات هذه، ولكن الوضع النفسي الذي وصلت إليه اضطرني إلى تأمين المهدئات لها. كان وضعاً لا يمكن وصفي له بهذه الكلمات. كانت تعيش وحيدة مع أمها بعدما اختطف والدها ورميت جثته في برميل الزبالة عام 2005 حتى بعدما دفع أهلها مبلغ 50000 الخمسين ألف دولار كفدية، وتتذكر حينما أخبرتك يوماً أنهم قد سلموا هذا المبلغ في مكان وكأنه أطلال وتلال ، حيث جثث مغدورين تفوح منهم رائحة قتلتهم في ذلك المكان اللعين: «خلف السدة»، يمثل هذا المكان معادلة الرعب في بغداد.
«كنت أظن أن تسنيم سنّية لأنك تعرف أن أغلب ضحايا السدة هم من السنّة، مثلما هي ضحايا حي العدل والجامعة فغالبيتهم من الشيعة، ولكنني مثلك صدمت حينما عرفت أنها شيعية، طبعاً نحن وهي نرفض تلك التسميات».
هذا يعزّز ما بقيت أردّده: «إنهم لا يريدون رأس الحسين، إنهم يريدون رأس العراق».
هذا وحده كاف على أنها لم تكن حرباً طائفية. هم أرادوا وصفها للعالم على أنها كذلك، ولكنها كانت حرب ملوك تلك الطوائف، حرب هؤلاء العصابات التي تشعل الحرائق بحطب الطائفية فقط لكي يستمر هؤلاء بفعل الزنى بالبلاد من دون أن تدرك الضحية وجه مغتصبها وجلادها».
«أكمل بالله عليك، أين هي تسنيم؟».
يطلق صرخة ويجهش بالبكاء صديقي الباشا الذي أعرف حساسيته وعاطفته.
يصرخ: «قتلوها، قتلوها الأوغاد، نعم قتلوها لم يرهبهم حتى عوقها!!».
«ماذا؟ عوقها؟!!»
«قتلوها!!، أخبرني أو… لا… لا تخبرني، بدأت أردّد كلمات وكأنني إنسان معتوه، أردّد تلك الكلمات وأنا أبكي مثل امراة منكوبة بعزيزها».
«ألم تعرف أن تسنيم كانت شابة جميلة جداً، ربما أجمل ما خلق الله في أرض الرافدين، ولكنها بعد حادثة قتل والدها أصيبت بالشلل الذي لم يوقفها عن مواصلة دراستها التي أصرّت على أن تكون دراسة القانون، وكانت تردد لصديقاتها: «أدرس القانون في بلد ما بي قانون».
وأتذكر أنها أخبرتني عن تلك العبارة حينما كانت تردّد من قبل من جارتهم التي كانت تدرس لتكون محامية في زمن صدام وكانت توشوش في أذن جارتها ذات العبارة التي ردّدتها تسنيم.
كانت تريد أن تحتج وتخلص العراق مما وصل إليه عبر سلاح القانون.
تسنيم كانت حكيمة جداً، ولكن ما الذي حصل؟!!
«يبدو أن أحد الجواسيس قد توصل إلى معرفتها، أو استدل على الخيط الأول لمكانها، وللأسف يسمي نفسه مثقفاً وإعلامياً!.
قل لي يا هادي، والله هؤلاء لا يشرّفون حتى هذه الكلمة – كلمة أدب وإعلام – ليس لديهم شرف بالمرّة».
كانت تسنيم تراسله عبر الفيس بوك وتنصحه بالكف عن دعم واستعداء الحكومة ضد التظاهرات، ولكي تثبت له أنها وزملاءها ليسوا ببعثيين ولا قاعدة ولا هم أنصار هذه الكتلة وتلك، قصّت له حكايتها، أعني قصة قتل والدها وقالت له إنها قررت أن تضحي بنفسها من أجل معرفة القتلة».
«وصرخت: لا يا أستاذ برهوم، ليس القتلة وحدهم! أريد معرفة أسياد هؤلاء!
فمن قتل والدي هو نفسه من زنى بالعراق، وهو اليد ذاتها التي سرقت وحرقت ونهبت بغداد، هو القاتل ذاته الذي خطف أعضاء اللجنة الأولمبية العراقية عام 2004 ، وهو ذاته الذي نحر فريق التكواندو، وهو ذاته الذي قتل أم زينب وجعل طفلها الرضيع يشرب حليب أمه المغدورة مع دمها حينما بقيت جثتها مهملة وسط أزقة كربلاء، وهو ذاته سفاح الدجيل الذي يلبس قناع الزرقاوي مرة ومرة قناع أبي درع، إنها اليد ذاتها، والمال نفسه،
إنهم الثلاثة» صرخت بوجه الباشا، ولكن أكمل.
«لقد قاومت تسنيم حسب ما عرفت بعد ذلك، ولكنهم لم يتركوها إلا جثة عزلاء تماماً كما فعلوا بك، دريل في رأسها المكابر صاحب فكرة – أحبك يا عراق – شعار العلم الذي خرجنا به يوم التظاهرات، وطلقة في جبينها وأخرى في فمها و…. أرادوها أن تصمت، أن تكف عن عراقيتها، أراودها عبرة لكل الناشطات».
هاك خذ كيف كانت تحاور تسنيم البريئة أزلام السلطة اليوم، بالطبع هذه الرسائل من إيميل موقعنا الذي كان يظنه البعض أنه إيميلها لأنه كان مدوناً باسمها، اقرأ وستعرف أي مصير هو مصير بلدنا:
أخي برهوم، سأردّ على رسالتك عندما أفرغ من هموم كثيرة ومن تهديدات كثر وظلم كبير ولكنني أؤكد لك ولست أيضاً بحاجة لذلك أنني لم أنتمِ لأي حزب ولا أحترم أي حزب لسبب بسيط وبسيط جداً وهو أنني أرفض أن أقاد وأسير خلف أية أيديولوجية، لهذا أنا حرّة من داخلي وأصرّ على هذه الحرية فاطمئن، وأرجو منك أن لا تحشرني مع الذين ذكرتهم من أحزاب دموية وهزيلة، الشيوعيون لو كنت مكانهم ولم يحصلوا على مسند لكرسي لاحترمت نفسي وجلست ألغيت الحزب، عن أي حزب تتحدثون؟ أما البعثيون فوالله أنتم تعطونهم أكثر مما يستحقون، هؤلاء انتهوا في زمنين يوم قضى عليهم صدام وأصبح كل شيء هو وهو كل شيء، وكذلك عندما اختبأوا مثل الجرذان وسلموا بغداد هم وقائدهم الذي أحرق اعمار الجميع في محارق حماقات لم تنتهِ حتى بذهابه ولكن أيضاً ألوم فيك أن تصنف المتظاهرين على أنهم خونة وعملاء بعثيين ووو، لا هناك شباب وردة أطباء نذروا أنفسهم لهذا العراق ولا يريدون أن يغادروه وآخرون وأنا لا أتحدث عن سفاح الدجيل لا طبعاً، هناك متاجرون هناك أصحاب نوايا ولكن ساحة التحرير هي ساحة العراقيين القلة ولكنها ستظل القلة المؤمنة بالوطن لا بالشخوص احترامي».
هنا ينتهي كلام تسنيم ليبدأ كلام أحد مستشاريهم الذي جنّدوه لتشويه التظاهرات على الفيس بوك:
June 19, 2011
«يا ابنتي.. يا أختي.. والله حرام عليك هذه العدمية.. هذه عند الطيبين من الذين نذروا أنفسهم، لو اجتمع الشرق والغرب على أن تزحزح حجراً من بناء الديمقراطية على الطريقة الأمريكية في العراق لما زحزحته متراً واحداً، يا ابنتي قوة مكافحة الإرهاب أبو أبو المالكي لا يستطيع تحريكها منفرداً من دون تنسيق مع الأمريكان، وهذه القوة خرجت إليكم يوم 25 وهي تتربص إن خرجتم أنتم او المجرمون الذين اندسوا بينكم عن المسار المسموح، لا ثورة يا بنت في العالم المعاصر من دون إسناد أمريكي والأمريكان دفعوا دماء قلبهم على تجربة العراق التي قادت إلى شرق أوسط جديد خططوا له ملياً ليبدأ فيه التغيير من العراق.. هناك الكثير من الوسائل المتاحة التي نستطيع نعمل ونضغط بها ونطلب بالتغيير نحو الأفضل ونؤسس لواقع أجمل وطن أجمل، لكن ليس عبر عدمي وفاشلي ومجرمي، وطيبي ساحة التحرير».
«ولكن ماذا فعل الآخرون وخاصة شلش العراقي؟».
«شلش لم يعرف بالأمر لأنه غارق في استراتيجية جديدة يعتقد أنها الأقدر على استمرار الربيع العراقي والوصول إلى الخلاص».
«ما هي هذه الاستراتيجية ؟».
«لقد ناقشناه جميعاً عن جدوى الاستمرار بالتظاهرات، فكانت إجابته كالتالي: كما تعرفون يا أصدقائي أن الشعب قد أثبت وبأغلبيته، شعباً صامتاً وخائفاً باختصار: شعباً جباناً.
لذلك نحن بحاجة إلى استراتيجية لا تعتمد الشجاعة. استراتييجة قد تأخذ منا الوقت الطويل للتحضير لها. وهي: العمل على تفكيك جمهور الكتلة الفائزة لأنها هي الأخرى أثبتت أنها لا تختلف عن مثيلاتها والعمل على التحشيد إعلامياً وإنترنيتياً طبعاً وعلى الأرض للترويج لحكومة خدمات، أي حكومة تكنوقراط. وهذه مفردة أي تكنوقراط قد راج استخدامها كما تعرفون في وقت الانتخابات السابقة والكثير ممن رددها لم يكن قادراً حتى على لفظها وفي أقصى الأحوال معناها أيضاً».
يضيف شلش: «الشعب بحاجة إلى حكومة خدمات، حكومة ليس لها علاقة بالسياسية، فالعراقيون تفرقهم السياسة ويجمعهم الفرح. والخدمات هي واحدة من أدوات الفرح المهة».
لقد شكّل فريقاً معه أخذ على عاتقه مهمة تتثقيف شعب تتجاوز الأمية فيه نسبة السبعين بالمائة 70 % على أهمية أن العيش بكرامة، عراقيون مرفهون بما منحهم الله من ثروات بلدهم، بمعنى شعب لديه كهرباء. شعب لديه شبكات صرف صحي عالية. شعب لديه طرقات نظيفة. شعب لديه مدارس راقية بكادرها التدريسي وبما تحويه من تجهيزيات تليق بشعب كان قد اخترع للبشرية الحرف الأول. شعب لديه قانون عادل يتسيّد الجميع.
قانون وعدالة أيضاً تليق بالبلد الأول الذي سن القوانين وعلم البشرية معنى أن تنظم الحياة وفق قانون وعدالة هي الشريعة في رسم الحياة واستمرارها. شعب لديه حقوق إنسان، بحيث لا يُهان الإنسان ولا يسجن وفق تقرير لمخبر سرّي(20). ولا يصادر حقه بالحديث بحرية وفق مبدأ الإنسانية. فهذا الأمر يليق بشعب قد خط عبر ملكه البابلي أول مسودة لحقوق الإنسان قبل أن تتشظى حروب اليوم تحت راية حقوق الإنسان التي يقودها الغربيون».
شلش كما تعرف يا صديقي إنسان صافي نقي، والأخطر أنه حالم في بلد لا مكان للأحلام التي سردتها عليك الآن».
لكنني قلت للباشا اليائس الغارق بهذه الأفكار العدمية:
«يكفي أن نمسك بالحلم ولا نفرط به.
إنهم يريدون أن يغتالوا هذا الحلم، ويسوقونه إلى مقبرة اسمها اليأس، إنها ثقافة التيئيس يا دكتور، حذار منها، ولكن تسنيم…» قبل أن أكمل يواصل الباشا حديثه بالبكاء.
«قتلوا تسنيم، يا هادي، قتلوا الأمل وهذا الحلم الذي تتحدث عنه!!».
لا، جسدياً ممكن. و لكن ماذا لو أخبرتك عن الذي يدور هناك؟
أين هم المغدورون؟ والله ستفرح إن لتسنيم هذا الشأن العظيم.
سأسرع لأنني بالتأكيد سأجدها هناك».
«أين يا هادي؟ خذني معك لا أريد أن أبقى في هذا الكابوس….».
«مع السلامة باشا، أريدك عيناً ساهرة على الموقع، سأحاول أن أتواصل معك، علي الذهاب الآن. أرجو منك أن تبلغهم سلامي، كل من: حيدر وأحمد ويحيى وشمخي وعبوسي، وناصر، شلش، عليكم الحذر من خياط ومن بعض أصحاب المواقع الإلكترونية الذين يتاجرون بنا جميعاً، إنهم سماسرة لا أقل ولا أكثر. عليكم أن تكونوا حذرين من بعض المندسّين. سأرسل لك من هناك قائمة بهؤلاء، وما أريده منكم هو فقط إهمالهم.
لاتنتقموا، فنحن من رفعنا شعار نلسن مانديلا وعلينا الإمساك به:
«سنغفر ولكننا لن ننسى».

 الفصل الخامس
قيامة العراق

«عرّف لي الدولة البوليسية».
هي دولة يزعجها أن تكون ناقداً لسياساتها.
هي دولة تستخدم سيارات الإسعاف في خطف واعتقال مواطنيها.
هي دولة تعتقل المختلف معه إما بسبب دينه أو أفكاره ومعتقده.
هي دولة تستخدم سلاح الشرف والاغتصاب في تسقيط خصومها.
هي دولة تؤمن أن المتهم مدان حتى تثبت براءته.
هي دولة تعقد حلفاً مع فرق الموت والميليشيات وعصائب الإرهاب وتحتمي خلف أسوار مدن أطلقوا عليها مدناً خضر وتترك مواطنيها في (الزون – الخط) الأحمر.
هي دولة يرتدي جيشها لثاماً أسود فيما يمرح الإرهابيون والقتلة بوجوه حاسرة ومكشوفة لضحاياها.
هي دولة يستوزر فيها الأحمق والغبي والسارق نظراً لمكانته في هذه الطائفة أو تلك ويُقصى ذو الخبرات والكفاءات إلى الشتات.
هي دولة دستورها يحلل سرقتها ويكرم من يهدمها. فمن يبني ليس له مكان إلا في المنطقة الحمراء.
هي دولة ترى في اللطم والنواح والبكاء والعزاءات قمة ما توصلت إليه البشرية من تقدم ومما يمكن أن يصل إليه الإنسان في العالم من رقي وازدهار.
هي دولة أعطاها الله ينابيع ثروات لا يمكن لها أن تنضب مثل تنور يغلي بالنار والخبز الشهي ولكن مواطنيها يقبعون تحت خط الفقر.
ويسكنون المدافن والقبور ويعتاشون على النفايات.
هي دولة تؤمن أن رئيس وزرائها يجب أن يبقى رئيساً أوحداً من «مهد» الانتخابات حتى«لحد» سحب الثقة.
كفى كفى، صرخت بكل المتفرجين على إخوانهم في ساحة التحرير. أكلّ هذا وأنتم خانعون لا تحركون طرف رمش.
خائفون ويائسون .
كل تلك الصفات قد خيطت ثوباً نجساً لجسد العراق وشعب العراق وأنتم ترتضون بالذل!؟
ألم يقل إمامكم صرخته التي تسيرون وتركضون أفواجاً مليونية من أجلها:
هيهات منّا الذلة!!!
ويحكم لقد ملأتم روحي قيحاً.
حقاً سئمت من هذا العجز.
والله لو عرفتم هامنغواي لأطلقتم الرصاص الرخيص في بلادكم على أنفسكم قبل أن تكونوا في مقدمة الضحية التالية، ولقلتم جميعاً: كفى !!!!!!!
شعب جبان بامتياز، جبان لا أقل ولا أكثر، هكذا شعب عليه الذهاب فوراً إلى ورش الانتحار الجماعي».
صرخ الباشا: «ماذا يا هادي؟!! أنت من زرعت كل هذا الأمل في بدايات العام المنصرم واليوم تأتي لتحدثنا عن ورشات عمل للانتحار الجماعي!!!».
أجبته بصوت عالٍ وأكثر يأساً مما كان هو عليه:
«نعم يا باشا، فالأمر قد فاحت رائحته العفنة وفاض هذا الغيض، ولا جديد تحت نصب الحرية سوى أن القتلة يباركون من قبل شعب مخدر. والجهل هو من خدر هذا الشعب».
«لا يا هادي إنه الخوف».
«باشا ربما إن الخوف الحاضرهو بموازاة الرعب البعثي، ولكن العالم اليوم هو غير عالم صدام حسين!.
عليهم إدراك هذا الأمر، فليس بوسع أي حاكم في الألفية الثالثة الانفراد بتصفية شعبه!».
ولكن هذا يحصل في العراق الجديد وتحت مباركة حاملة لواء الدفاع عن حقوق الإنسان، أقصد أمريكا!!!! إن الأحزاب التي تحكمنا اليوم تنفرد بكل شيء لا بالشعب ولكن بالبلاد بأسرها!!.
«لأن العراق كما قلت لك من قبل مخدر بالجهل، وبالخوف، وبأفيون الدين. ولأن أمريكا كما ذكرت أنت تتعامل بمقياس محير لا يمكن فهمه.
فمنذ أن حشدت لسقوط النظام البعثي السابق والأنظمة القمعية التي لحقته، كان محور شرها هو إيران، ولكن اليوم ما يحدث في العراق تماماً هو العكس!!!».
كلنا يعرف ذلك ولكن لا يجد له أي تفسير!!».
«فهي تعرف أن للإيرانيين نفوذاً قد فكك بنية العراقيين التحتية إلى ملل ونحل».
«من يدري، يا صديقي، فالمصالح تلعب دوراً كبيراً في استراتيجية أمريكا؟!».
«ولكن، ما المصلحة التي تربطها بإيران؟!».
يجيبه هادي:
«هي تدجين الدول العربية وخاصة دول الخليج».
«لا تنسَ، أن النفط هو الحل وهو مفتاح النقمة والنعمة معاً».
«ولكن ما هو دور التكفيريين وبعض شيوخ البترول الذين يمولون الإرهابيين الذين حصدوا من أرواح شعبنا أكثر مما حصدته حرب أمريكا ضد العراق؟».
«ولكنني أيضاً أسأل: ما الذي جعل إيران تستقبل الزرقاوي وتستضيف عائلة بن لادن؟! وتلتقي ببعض الجماعات السنّية في العراق لكي تعرض عليهم الدعم المادي واللوجستي لمحاربة الأمريكيين بحجة المقاومة؟.
وما الذي يدفع ببلد شيعي، أي إيران، إلى دعم من يطالبون بتكفير الشيعة؟! هل نسيت حينما قتل الزرقاوي فإن جواز السفر الإيراني كان في جيب معطفه، فما تفسيرك لذلك؟!
ثم أضيف لك شيئاً، فقناة العربية الإخبارية كلنا يعرف أنها قناة تموّلها السعودية ولكنها ما فتئت وهي تطبل للحكومة العراقية الحالية وقياداتها، وحينما عاتبنا مؤخراً بعض الإعلاميين لديها بسبب عدم جديتهم في متابعة تظاهراتنا السلمية في بغداد كما هو حالهم مع كافة التظاهرات في البلدان العربية فقد تحجّج كبير مراسليهم بحجج لم أكن مستعداً لقبولها لأنها كانت تصبّ في خانة التملّص والكذب».
ولكن أريدك أن تعرف شيئاً مهماً وهو أنني لست محامياً للسعوديين الذين رفضت أكثر من دعوة لحضور مهرجاناتهم الثقافية، لأنني لا أؤمن بأن هذا المنهج السلفي المتخلف بقادر على إنتاج ثقافة متسامحة ولا حتى ثقافة حقيقية.
كل ما يقرأ من شعر هناك لا يخرج عن نطاق الزعيق والهراء. فأنا لست كالذين يشتمون السعودية تملقاً لحكومتنا ومن ثم يهرعون سرّاً متوسلين بهذا وذاك من أجل الحصول على تزكية لحضور مهرجان ثقافي مثل الجنادرية على سبيل المثال!!».
والله أتفق معك يا هادي، لكننا تعبنا من التفكير من هذا الباب المقفل ومن شعب جبان بشكل لا مثيل له في كل شعوب الأرض المضطهدة!.
أجيبه:
لا، العراقيون ليسوا جبناء، فقط أطلق لهم العنان في قتال بعضهم البعض، فستجدهم مثل الأسود المتوحشة ومن دون اية رحمة يأكلون لحوم بعضهم البعض نية وبشكل إجرامي متفرّد في الوحشية. والقتول الطائفية(21) هي خير دليل على كلامي هذا؟!!!!!
جار يغدر بجاره، وصديق يبيع ويعلس(22) صديقه ، ووزير يسرق وينهب ويظل يتحدث عن النزاهة مثل عاهرة تتحدث عن قيمة الشرف!!
إنهم زناة يتحدثون عن معاناة الشعب وهم السبب الأول في كل هذه المصائب!!.
ليس السياسيون وحدهم، نعم كلهم يشتركون في الزنى بالعراق.
إنهم يزنون بالعراق من دون أي اعتبار لأي شيء.
إنهم لا يريدون رأس الحسين،
إنهم يريدون رأس العراق.
والحل، حينما سأعود سيكون الحل سريعاً، حتى وقبل أن يهيئوا قواهم القمعية لكنس غضب المحتجين سترى كيف سيصدمون.
إن المغدورين سينهضون من نومهم الموقت وسيكونون سبباً رئيسياً في صدمة قتلتهم .انتظر فقط وسترى…».
«ماذا وكيف، أخبرني يا هادي؟!».
«لا ، لست أنا من يقوم بهذا الأمر، إنه هو».
«مَن؟!».
يظل الباشا يعيد ويكرر السؤال. الباشا المصدوم والمتطلع إلى معرفة التفاصيل:
«مَن؟!».
«أنت تعرفه، ولا تعرفه ، فلقد ضاق ذرعاً وذعراً بهم!».
أسمع صوتاً. آه ما هذا التراب؟ وهذا الغبار أكاد لا أرى شيئاً؟!
هادي أينك؟؟!
نعم ، ربما هو؟
هذه رئته تنفث الهواء في رئة بغداد المعطلة بالسل.
إنني أختنق، ليس هذا بهواء، إنه يشبه مبيد حشرات!!
أريد أن أراك.
في هذه الأثناء يختفي هادي تماماً من هذا المشهد الذي يزداد خطورة ورعباً:
اختفى هادي.
اختفى الباشا أيضاً، وحده جيش المافيات من يتقدم، فالتظاهرة الحاسمة سوف تنطلق بعد دقيقتين.
قوات مهيبة بأسلتحها، وبهرواتها، وبمصدات رادعة لحجارة المتظاهرين الغاضبين، وأم ملتاعة بسبب اختفاء ولدها. احتفاء كبير بقوة الأسلحة والطائرات التي بدأت تحلق فوق رؤوس المتظاهرين.
الرعب يتقدم الجميع.
رعب حكومي، ورعب شعب أعزل.
ورعب مافيات مندسّة بين المتظاهرين.
رعب السماء بمطرها الأسود وعصافيرها الغاضبة.
رعب أمامك ورعب خلفك ورعب فوق رأسك.
رعب يتعدد ولكنه في نهاية الأمر رعب.
يتقدّمون هم ويتقدّم الجميع هذا الرعب العراقي بامتياز، فهو أيضاً لا يشابه أي رعب في العالم، لذلك حينما نتحدث للشعوب الأخرى عن الرعب فهم بالتأكيد لن يفهموا عن أي رعب نتحدث نحن.
رعب الرياح المدوية الخاطفة القوية بسرعة تفوق سرعة البرق الذي شابه القيامة، يسانده الرعد الذي شتت الرؤية تماماً.
الهواء بدأ بالتلاشي ولا شيء غير دخان أسود وسحب سوداء كثيفة.
مطر، مطر يشبه لزوجة ورائحة المطر النووي.
وليد أينك؟
يا هادي أينك؟
شلش أينك؟
باشا أينك؟!
أطوار،
تسنيم،
هناء أينك؟
نبراس
شروق، سارة وديما ووووووو زينب أينك؟
أينك يا عباس؟
أينك يا فاضل، يا ليث، يا شمخي ويا صالح ويا سرمد، ويا فخري، ويا أسعد، ويا أحمد، ويا كريم، ويا عماد، ويا أسعد… أينكم؟
هؤلاء هناك، إنهم من يصرخ هناك!!! عراق عراق عراق
أين؟ أينك أيها العراق؟
أكاد لا أراك، أكاد لا أرى بغداد، إنني أسمعها، تتلوّى وتصرخ مثل امرأة تتعرض لاغتصاب جماعي
إنها بغداد أسمعها ولا أراها…
ولكن سيدي، نحن لا نرى أي شيء، اللعنة على هذا الدخان، أينهم؟!!
سيدى أكاد لا أبصرك، سمير أينك؟، وأنت يا علي؟ يا دباغ، يا بولاغ أينكم ؟ أينك يا خياط تعال ويا برهوم، دلونا على أماكنهم؟!
لا،
لا، لا
آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه آه آه آه آه، الكل يصرخ،
تتعالى الأصوات مع تصاعد ونزول الغيوم التي تشبه بالوانات حمم بركانية حمراء.
تهبط طيور عجيبة وغريبة الشكل ترمي بالحجر أناساً معينين لا تخطئهم.
حجر مثل مطر نووي يتساقط على رؤوس الجميع إلا الأمهات.
الأمهات وحدهن من يمسكن برؤوس بشرية تهبط من السماء.
رؤوس بعيون مبتسمة تظل معلقة في جحيم سماء بغداد.
أجساد تتدلى بأثواب بيض تحضن الأمهات..
أجساد تخرج منها أذرع وأكف طويلة تبحث عن رؤوسها.
لا أحد يبصر، فالعيون تمتلئ بالغبار ومطر مملوء بمادة تحرق الأجفان، إلا الأمهات وحدهن من يهلّلن ويصرخن بعيون مفتوحة وفرحة لا تمسها لزوجة هذا المطر النووي.
إنهم يعودون. تصرخ الأمهات
هذا ابني، وتصرخ الأخرى:
نعم وهذا زوجي.
هذا أبي،
هذا أخي،
هذا خالي.
العصافير تحلّق فوق الرؤوس وتواصل في الوقت نفسه الحرب على جيش الكذّابين بحجارة صغيرة تلهب بنار.
النار تحرق كل شيء إلا الأمهات.
يا إلهي، انظروا فقامات الأمهات تستطيل متحوّلة إلى نخيل. أهذه أمي أم نخلة؟! تصرخ تسنيم.
إنهن يتحولن إلى نخيل، والضابط من فوق بناية المطعم التركي ينفذ أوامر أسياده الذين يصابون بالهلع.
اضربوا اضربوا، اقطعوا رأس هذه القامات،
حزّوا رؤوس النخيل كلها.
والجنود المغلوبون على أمرهم، يجيبون: ولكن كيف؟!
الدخان، الدخان اللزج…الخانق، رئة بغداد اللعينة لا تنفث اليوم غير هذا السم، هذا الغبار الذي لم يشهده تاريخ بغداد من قبل!!
غير هذا السخام.
اضربوهم ومزّقوهم.
ولكن…. أينهم يا سيدي ومولاي؟ يصرخ الجندي: إنهم دخان!!!.
أين سلاحي يصرخ الجيش؟ أين مسدسي؟
أين كاتم الصوت؟
ما هذا السخام؟ ما هذا الصمغ؟ أريد أن أتخلّص من سلاحي، أريد… أريد… لا، أنقذونا، أينكم!!!…..
الرياح تنشد سمفونية بنبرة عراقية صافية ثم تتداخل بلغات العالم، السمفونية الأخيرة في حياة الشعوب، سمفونية الربيع ضد الخريف، سمفونية الأمل ضد العجز، إنها سمفونية الحقيقة:
الشعب يريد الحياة.
الشعب يتحوّل إلى غمامة كبيرة وغيوم سوداء والأمهات وحدهن فرحات برؤوس تتسابق في محاولة الالتصاق بأجساد تتناثر من خلف أسوار المنطقة الخضراء!!،
الأمهات يصرخن:
يا الله هذا ابني أنس، وتصرخ إنصاف أم تسنيم: هذا أبو عبوسي، فتجيبها تسنيم:
إنه بابا، هذا وجهه الباسم أبداً. وأم جعفر تهلّل وترقص فرحة بعودة ولدها لتتوقف عن الأخذ بالثأر
كل شيء يهطل فوق رأس المدينة ولكن
لا شيء يحدث. بعد ذلك….
لا أحد يجيء….
سوى ستارة سوداء تُسدل بعد فصل مطر الرؤوس وغبار بغداد. ستارة تُسدل فوق عملاق نصفه قاتل ونصف قتيل، معلنة للقارات كلها وللشعوب جميعها وبصوت الأمهات:
شعب يدافع عن البؤس أو يبقى متفرجاً، باختصار شعب جبان لا أقل ولا أكثر.
مسخ ومسح بلد هذا الشعب من الخارطة ومن أطلس العالم وانتهت حكاية هادي المهدي وكل شهداء العراق الذين شبهت لهم ميتاتهم بعبارة:
بلاد.. ها هنا كانت.
بلاد كانت تسمى العراق.

انتهت الرواية التي يقول من ساهم بتدوينها من الشهداء العراقيين إنها الكتاب الوثيقة.

إيضاحات للقارئ

(1) كامل شيّاع: كاتب ومفكر عراقي تم اغتياله عام 2008.
(2) شهاب التميمي: وهو نقيب العراقيين السابق الذي اغتيل عام 2008.
(3) أطوار بهجت: الإعلامية العراقية التي تم اغتيالها عام 2006، وهي تستعد إلى بث تقريرها عن لغز تفجير الإمامين العسكريين في سامراء العراق، هذا الحدث الذي أدى إلى اندلاع العنف الطائفي في العراق والذي استمر أكثر من ثلاثة أعوام.
(4) أحمد آدم: شاعر عراقي تم اغتياله عام 2005، أثناء عودته من مقر عمله في صحيفة المدى متوجهاً إلى مدينته في كربلاء – العراق.
(5) رحيم المالكي: شاعر عراقي يكتب الشعر باللهجة المحكيّة العراقية، تم اغتياله عام 2007… القاتل لم يعرف حتى الآن.
(6) رعد مطشر: شاعر عراقي تم اغتياله عام 2007. القتلة لم يعرفوا حتى الآن.
(7) «اهدمها حجراً على حجر» هي الجملة التي رددها العديد من الكويتيين أثناء بدء العمليات العسكرية الأمريكية وقوات التحالف الدولي ضد الجيش العراقي عام 1991 لاستعادة الكويت من الاحتلال الصدامي. وقد رد أحد الكتاب السعوديين على هذه الدعوة بمقالة شهيرة تحت عنوان «اللهم ابْنِ العراق حجراً على حجر».
(8) الروافض: تسمية يطلقها غلاة السنّة على أصحاب التشيّع وتشير إلى رفضهم لولاية الخلفاء الراشدين بعد وفاة النبي محمد (ص) مؤمنة أن الولاية كانت للإمام علي (عليه السلام).
(9) النواصب: تسمية يطلقها غلاة الشيعة على أهل السنّة ومعناها: من ناصب العداء للإمام علي وآل بيته.
(10) «إنهم لا يريدون رأس الإمام علي، إنهم يريدون رأس العراق»، هذا مقطع من قصيدة الشاعر العراقي عبد الرزاق الربيعي.
(11) الزعاطيط: هي مفردة تستخدم باللهجة العراقية تشير إلى الأطفال، وهنا استخدمت كتورية لأناس غير ناضجين ولايشكلون أي خطر.
(12) الخيسة: مفردة تستخدم باللهجة العراقية، وهي المكان العفن الذي تفوح منه رائحة كريهة.
(13) مظفر النواب: شاعر عراقي شهير عرف بقصائده المعارضة التي تتسم بالسخرية ومنها قصيدته المعروفة بحق الحكّام العرب: «قرداً قرداً، لا أستثني منكم أحداً».
(14) الزرقاوي: وهو أحد رجالات ابن لادن والقاعدة، وقد كان يترأس مجاميع القاعدة في العراق وقد قتل من العراقيين المئات عبر أحزمة مجاميعه الناسفة أو عبر السيارات المفخخة، وقد قتل من قبل القوات الأمريكية، والأخبار تقول إن دخوله إلى العراق كان عبر الأراضي الإيرانية وقد وجدوا جواز سفر إيرانياً في جيب معطفه حينما تأكدوا من جثته بعد العملية القتالية المذكورة القريبة من ديالى إحدى محافظات العراق القريبة من حدود إيران.
(15) أبو درع: وهو سفاح الرصافة: التسمية التي أطلقها شباب نصب الحرية على أبي درع قائد مجاميع الفرق الخاصة والملقبة بفرق الموت والتي ذاع صيتها أيام القتول الطائفية في العراق، وكان هو وطاقمه الإجرامي يقومون برمي جثث ضحاياه في منطقة أطلق عليها منطقة السدة وهي قريبة من مدينة الثورة المسماة بعد 2003 مدينة الصدر، علماً أن الضحايا كانت هوياتهم الطائفية متنوعة بين شيعية وسنّية، والدليل والد تسنيم الرجل البصري الشيعي الذي قتل هناك.
(16) المفصولون السياسيون: هم من تضرر وفصل من وظيفته لأسباب سياسية تتعلق بمعارضته لنظام البعث وصدام. هذا بند جديد أدخل في مفاصل الدولة العراقية مما شجع العديد من المفصولين فعلاً على تقديم أوراقهم للحصول على امتيازات ضحايا نظام صدام.
(17) شلش العراقي: هو اسم مستعار اتخذه أحد الكتاب العراقيين رمزاً وقناعاً ليتخفى خلفه خوفاً من تصفيات رسمية وحزبية، وقد أحدثت مقالات شلش والتي نشرت في موقع كتابات الإلكتروني والتي ساهمت بشهرة الكاتب والموقع معاً، صدى كبيراً لدى كافة الأوساط العراقية وبقي حتى هذه اللحظة لغزاً لدى العراقيين الذين انقسموا بشأن مقالاته التي كانت ناقدة ولاذعة بحق سراق وقتلة العراق.
www.kitabat.com
(18) تسنيم العراقي: هي اسم ظهر مع أول تظاهرات ساحة التحرير في العراق 2011. كتبت مقالات عدة في موقع كتابات ثم قامت المليشيات بتصفيتها بداية عام 2012.
(19) الباشا البغدادي: هو أحد ناشطي تظاهرات ساحة التحرير ومن مؤسسي موقع شباب نصب الحرية وآخرين مثل مؤسسة المدى وحركة جياع وتجمع 25 شباط وغيرهم مع شلش العراقي وتسنيم العراق، هؤلاء وكما جاء في هذه الوثيقة أنهم وهادي المهدي كانا الجهة الأولى التي دعت وقادت تظاهرات يوم الغضب العراقي 25 شباط في عام 2011 وحوّلت ساحة التحرير في بغداد إلى رمز للاحتجاج ضد سراق وقتلة العراق والعراقيين.
(19) يعلس: مفردة سادت بين أوساط العراقيين للتعبير عن غدر شركاء الإجرام بأصدقائهم ومعارفهم من حينما يبيعونهم لفرق الموت ولعصابات القتل والتسليب.
(20) المخبر السرّي: بعد عام 2003 اعتمدت أغلب المحاكم العراقية في تحقيقاتها الجنائية على معلومات للوصول إلى الإرهابيين أو المتورطين بسرقة المال العام عن طريق المخبر السري والذي تضمن السلطات العراقية عدم الكشف عن هويته أو عنوانه، وقد تسبّب هذا الأمر في استغلال العديد من الأحزاب السياسية في العراق لغطاء المخبر السري في تصفية خصومهم السياسيين، وكذلك استخدم للتصفيات الشخصية والثارات العشائرية حتى إن المنظمات الخاصة بالدفاع عن حقوق الإنسان طالبت بإلغاء مهمة المخبر السري لتضمن للعدالة شفافيتها ونزاهتها.
(21) القتول الطائفية: هي أعمال العنف التي اجتاحت العراق بعد حادث تفجير قبّة الإمامين العسكريين عام 2006 في سامراء وقد حصدت أكثر من نصف مليون عراقي. انتهت هذه الحقبة حينما قادت الحكومة العراقية حملة عسكرية قضت فيها على بعض الميليشيات وأسمتها صولة الفرسان عام 2008.

 
ملحق
 
أولى بيانات شباب نصب الحرية التي سبقت يوم الغضب العراقي يوم 25 شباط المكتوبة بدم هادي وتسنيم

«هؤلاء لن يتورطوا في دمائنا، الجيش سيحمينا،
فنحن الشرعية ونحن العراق»
«الدنيا مالتنة»
هادي المهدي

بيانات «كتابات» تعبّر عن وجهة نظر الناشطين والداعين والداعمين والمنظمين والمشاركين في «يوم الغضب العراقي» – تظاهرات يوم 25 شباط/فبراير 2011 ببغداد وكافة مدن العراق

أيها البرلمانيون، الشعب ينذركم… «يوم الغضب العراقي» ينتظركم!!

كتابات 14/2/2011
كلنا يعرف أن أصواتنا المحرومة كانت السبب وراء ما تتنعّمون به من امتيازات وترف لا يمتّ بصلة إلى أوضاع العراقيين..
أنتم مطالبون اليوم بخلع عباءة وولاء الأحزاب والطوائف والقوميات التي صعدتم من خلالها في قوائم كانت تدعو إلى التغيير ونبذ المحاصصة، وإذا بها تكرّس هذه السرطانات في جسد العراق، وما «اتفاق أربيل» إلا ترسيخ صارخ لملوك هذه الطوائف..
والذي أجبر ويجبر كافة الحكومات العراقية في المستقبل على الالتزام به وسحب شرعية البرلمان من خلال اتفاق الزعامات فيما بينها ضمن صيغ توافقية أوجدوها وأطلقوا عليها «مجلس السياسات» الذي ستكون قراراته ملزمة لبرلمانكم وغيرها من الأجندات التي خدمت فقط تقاسم السلطة والغنائم وشرعنة سرقة المال العام..
أخرجوا من قطيع هذه الزعامات وانتفضوا على إراداتها وكفانا صمتاً وتوفيقية وسياسات انتهازية أدّت بالعراق إلى ما هو عليه الآن من حرمان وذل، ربما أنتم لا تقدّرون حجم هذه المعاناة بفضل امتيازات مناطقكم الخضراء وطوابير المنافقين لكم ولقياداتكم..
هذا إنذار الشعب المحروم الذي وحده اليوم سيمنح الشرعية والحصانة لخدمة الشعب العراقي وليس لسارقيه..
اسمعوا وقدّروا حجم نتائج صمتكم لأن مصير العراق سيقرّره احتجاج سلمي وغضب شعبي في 25 شباط/فبراير 2011 «يوم الغضب العراقي» سيطال الكثير منكم إذا لم تكونوا حماة الحرية وأصوات التغيير التي هي عراقية ومرجعيتها العراق وليس سوى العراق.
إلى الناشطين والمنظمين والمشاركين في «يوم الغضب العراقي».. مرجعية التظاهرات

كتابات 15/2/2011
مع تصاعد الدعوة للانضمام والمشاركة في «يوم الغضب العراقي» 25 شباط/فبراير في ساحة التحرير ببغداد وباقي مدن العراق، تصاعدت أصوات الموالاة التي تشكّك بوطنية الداعين والمشتركين في هذه التظاهرات، واللعب على الوتر الطائفي كما حدث في اجتماع مبعوثي الحكومة العراقية مع نخبة من أبناء الشعب العراقي في مدينة الناصرية وتحذيرهم من عودة «بني أمية» المحرضين لهذه التظاهرات والتي إذا ما أسقطت هذه الحكومة فإنهم سيحرمون من «نعم حرية زيارات المراقد الشيعية وإلى الأبد» كما جاء على لسان هؤلاء!.
نقول لكافة أحرار العالم إن أيام «الغضب العراقي» هذه وليدة مخاض مرّ عاشه ويعيشه العراقيون الذين يتطلعون إلى دولة المواطنة والعدالة لا إلى دولة المحاصصة الطائفية والعرقية التي ذاق الشعب ويلات نتائجها ودفعوا ثمناً باهظاً من حيواتهم وكراماتهم نتيجة لهذه السياسات.
* هذه صرخة المظلومين ضد الظلم..
* هذه صرخة المحرومين ضد سارقيهم..
* هذه صرخة اليائسين في وجه سُرّاق الامل..
* هذه صرخة الأبرياء في المعتقلات..
* هذه صرخة المهجرين والمهاجرين..
* هذه صرخة ضحايا الطائفية والمحاصصة والإرهاب..
احتجاجات الشباب والعجائز والأطفال بريئة من اتهامات الطائفيين بأنها موجّهة ومنظمة من قبل «طوائف بني أمية»، فزعماء هؤلاء هم أول من باعوا وعودهم لقاء سلطة الكراسي.
هي بريئة من ادعاء أية جهة سياسية وغير سياسية تدّعي بمرجعية هذه الأصوات ونعني بذلك المهزومين منهم من الصداميين أو البعثيين أو ملوك طوائف المحاصصة السياسية وفرق القتل وإرهابيي القاعدة.
مرجعية التظاهرات هذه يا سادة المنطقة الخضراء ويا سادة العنف ويا قاتلي الشعب العراقي هي شعب العراق وحده الذي خرج وسيخرج ويواصل احتجاجاته حتى تحقيق مطالبه.. ولن نسمح أن يُباع بلدنا مرّة أخرى في أي مزاد سياسي.
إلى كافة المبدعين من فنانين وأدباء وكُتّاب وإعلاميين وسياسيين مستقلين، «يوم الغضب العراقي» ينتظر دعمكم وانضمامكم إليه يوم 25 شباط/فبراير.. أنتم نخبة شعبنا وبناة حضارته وقدوته الخيرة المخلصة المحبة لوطنها.

 حيّ على العراق.. الشعب يريد إصلاح النظام

كتابات 16/2/2011

نحن أحرار العراق.. لا نخشى أحداً بعد اليوم في محاربة الظلم والفساد..
لا خوف من غضبنا على بلدنا ومؤسساته وممتلكاته، نحن من سيتظاهر ليحمي هذه الأموال فلن نسمح لغربان الشر مهما تقنّعت وتحت أي مسمّى من انتزاع براءة ونزاهة هذه الصيحات الداعية للتظاهر والاستمرار بها حتى يسقط الشعب زعماء الفساد في «يوم الغضب العراقي» الذين تسبّبوا في فقره وحرمانه ونهب ثرواته.
نريد أن نصلّي صلاة واحدة للعراق.. ولشعبه الذي بدأت صيحاته وانتفاضته تقلق السياسيين والمسؤولين وسترعبهم قريباً إذا لم يبادروا سريعاً بإجراءات الإصلاحات الفورية.
الشعب اليوم هو من قرّر موعد إجراء عملية جراحية كبرى لسرطانات فتكت بالعراق والعراقيين وقسّمت ثرواته بين ملوك الطوائف وساسة الخراب والفساد.
الشعب ينتظر من السياسيين إصدار قراراتهم الفورية بإقالة المسؤولين عن الملف الخدمي في كافة محافظات العراق التي تشكو من الإهمال والفساد ولا استثناء حتى إقليم كردستان في محاسبة المقصّرين والسارقين.. كما ينتظر إصلاح القضاء، الذي تغلّل فيه الفساد.. كما يطالب الشعب الاستعانة بالخبراء المستقلين من شباب وغيرهم في المشاركة بصياغة المقترحات البديلة، فلا رجوع عن إصلاح سياسي شامل يعيد العراق إلى دولة المواطنة وينهي عهد المحاصصة المقيت والطائفية والعرقية.
إصلاح تكون في أولوياته ملف الخدمات والأمن، هذه الإصلاحات هي العتبة الأولى للإصلاح السياسي الشامل الذي نتطلع إليه.
في «يوم الغضب العراقي» سنخرج من التمنّي الرمزي ونصرخ في وجه كل من كذب علينا وخدعنا وسرق أصواتنا.
سنحمي أرضنا وممتلكاتنا بصدورنا العارية متسلّحين بشرفنا ونخوتنا العراقية.. ولا مكان للمخربين بيننا.
لن نرفع سوى علم العراق، نعلن ولاءنا له وللوطن وليس لمن أوهمنا بشعاراته الزائفة..
لن نرضى بعد «يوم الغضب العراقي» تخديرنا بوعودكم الكاذبة وتصريحاتكم الجوفاء التي مللنا سماعها حتى بتنا نسمع منكم نبرة تهديدات خفيّة من فوضى ربما ستسعون أنتم إلى خلقها من أجل أن نتراجع ونصمت ونعود إلى ذلّنا.
لا مجال للتراجع حتى وإن كانت أرواحنا هي الثمن، لم يبقَ شيء أهم من المواطنة لنخسره بعد أن خسر العديد منا أحبّته وأنتم تتصارعون فيما بينكم دون خجل أو حياء على مناصب زائلة، فهي أكثر قيمة لديكم من قيمة الإنسان العراقي الذي أتى بكم من دون الالتفات إلى همومه ومعاناته وحاجاته الأساسية ولم تعد في سلم مسؤولياتكم وأولوياتكم.
في «يوم الغضب العراقي» سنزحف لاستعادة كرامتنا وحقوقنا المشروعة في حياة حرّة كريمة لا مكان فيها للفاسدين والمفسدين بطرقنا السلمية وأسلوبنا الحضاري.
لا خوف علينا بعد اليوم نحن الذين سنغيّر رافعين شعارنا هو هتافنا «الشعب يريد إصلاح النظام».
في 25 شباط/فبراير ستكون قبلتنا بغداد وساحة التحرير هي سجادة صلاتنا في يوم غضبنا العراقي.
عروتنا الوثقى عراقيتنا الذين فشلوا في محاصصتها.
حيّ على المحبة والخير والتغيير.. وحيّ على العراق.

سبقتم أهل بغداد يا شباب الكوت

كتابات 17/2/2011

«سنتظاهر بأصواتنا» هكذا نريدكم يا شباب العراق كما هي دعواتكم التي صارت ترانيم حب لاستعادة الوطن، الوطن الذي خطفته السياسة باسم «الدين وبذريعة المكونات».
نعم سلاحنا هذه الأصوات نحن العزل إلا من مطالبنا واحتجاجاتنا التي هي اليوم همرات وسرفات فوق أعصاب المسؤولين.
لن ننفعل وننساق إلى الغضب بالاعتداء على ممتلكاتنا حتى وإن تصرفت حمايات المسؤولين، تصرفات غير مهنية لأنهم يريدون ردّة الفعل بحجم هذه الهمجية.
هذا ما يريده الفاسدون ليحرقوا ويخفوا آثار جرائمهم كما حدث اليوم في محافظة الكوت، الكوت التي سبقت بغداد مثلما فعلت السويس، وأشعلت شرارة انتفاضة الخامس والعشرين من يناير لتعلن بإذن الله نهاية اللاعدالة والجوع والذل.
استشهد شباب هناك واستشهد شباب هنا، ولكننا لا نريدهم أن يأخذونا إلى ساحة العنف ولا بأي شكل من الأشكال.
سنذهب ونتظاهر بشكل حضاري وأنيق ونعتصم رافعين الرأس بسلطة الشعب أمام باب المسؤولين الفاسدين الذين فقدوا الشرعية وعليهم المغادرة الآن.
لن نحرق ولن نتزحزح من أماكن اعتصاماتنا وتظاهراتنا وسنعانق الجيش والشرطة وكافة القوات الأمنية التي عليها أن تقوم بدورها الوطني اليوم وتحمي أصوات الشعب الذي سيتعاون معها في حفظ أمن هذه التظاهرات.
فهؤلاء ليسوا شرطة أو جيش الأحزاب أو المتنفذين، إنهم حماة الوطن وهذه هي مهمتهم الأساسية.
فهم أبناؤنا وإخوتنا ولن نزجّهم في صراع لا غلبة فيه لأحد أبداً.
نعتصم ولن نغادر حتى يغادر المسؤول حاملاً استقالته إلينا.
لا نحرق لأنهم الآن يحترقون بدعوات ودمعات أمهات الشهداء والأرامل والأطفال يتامى من سقطوا في الديوانية أو في الكوت أو من أحرق نفسه احتجاجاً ويأساً بسببهم.
لا نحطّم أي شيء، فهم الآن محطمون بسبب فضيحة فشلهم أمام العالم ورعب القادم من أيام الغضب.
إنها انتفاضة الشعب الذي تقع المسؤولية الأولى على عاتقه لحماية هذه الاحتجاجات، سواء من خلال سلميّتها وحضاريتها وكذلك استمرارها حتى تحقّق أهدافها.
وكما قالها أحد حاملي لواء هذه الاحتجاجات وأول الداعين لها الناشط هادي المهدي: «هؤلاء لن يتورّطوا في دمائنا، الجيش سيحمينا، فنحن الشرعية ونحن العراق».
عاش العراق وطن الحياة التي سننتصر لها في «يوم الغضب العراقي»، يوم الخامس والعشرين من هذا الشهر، ولا نريد أن نكفن أحلامنا بتسييس التظاهرات وأن ننتبه إلى كافة الدعوات التي تريد أن تتخندق في شعارات طائفية أو سياسية لتصفية حسابات بتنا نعرفها جيداً، وهي ذاتها التي أعطت الشرعية لهؤلاء من خلال الدستور الذي قسمنا إلى «مكونات»، سنخرج ونصرخ عالياً، عراق واحد أحد.

نعم نحن متورطون ومتطوعون

كتابات 18/2/2011

لقد أثبتت أحداث السليمانية أن شباب العراق كله شباب عراق واحد متطوّع لا بتكليف حزبي ولا بتكليف شرعي، إنما هو تكليف عراقي وطني بامتياز، وبأمر دستوري من الضحايا والجياع، والمظلومين في أسر التهم الكيدية.
كلنا متطوعون للمساهمة في تنظيم مطالبنا بإصلاح النظام..
كلنا مطالبون بتغليب العقل والواقع في كل هتافاتنا وأفعالنا..
كلنا متطوعون في تجميل مدننا لنخجل الساسة من اتهامنا بالشغب وبتدمير وتخريب البلاد..
كلنا متطوعون ولدينا من الهمّة ما يكفي لحماية عرضنا وأرضنا..
سنعيد روح التكافل الأخلاقي ونعيد صياغة مفهوم المواطنة من خلال تعاوننا وتبرّع كل واحد منّا بما يملك من صبر وتحمّل وتقديم الخدمات وإدامتها حتى في حال تخلّي الحكومة عنا كإجراء احترازي..
1 –
اليوم، القضاء مطالب لا أن يبقى كما وصفه الدستور حكماً غير حاكم وستندم المحكمة الاتحادية إذا أساءت لأصواتنا الشريفة وأساءت تفسير هذا الحب غير المشروط للعراق وصفه بالشغب والتخريب..
2 –
وكذلك فإن المحامين مطالبون وعلى رأسهم نقيبهم للخروج ونصب خيمة في ساحة التحرير للدفاع عن أية ضحية جديدة من ضحايا حرية التعبير عن الرأي..
3 –
اليوم، الأطباء والشبان منهم مطالبون بالذهاب هناك وإدامة الحياة من خلال جاهزيتهم لأية حالة طارئة لا سمح الله..
4 –
إن الصحفيين مطالبون أن يكونوا صوتاً للحقيقة ولا يتحوّلون إلى أبواق للحكومة والأحزاب والسياسيين والشخصيات الدينية ومرصد الحريات ومنظمات المجتمع المدني ورابطة القلم العراقية!!..
5 –
على المثقفين أن يحسموا أمرهم ويجعلوا صرختهم هذه المرّة أعلى من صرخاتهم بوجه قرارات مجلس محافظة بغداد بغلق النادي الاجتماعي لهم وليكونوا رواداً ويتقدموا بالحصول على الموافقات الرسمية إذا كان هذا الشر لا بدّ منه ليتبرؤوا من كافة التهم التي خنقتهم في إطار مطالبتهم فقط بحرية شرب الخمر لا غير، أليس هؤلاء هم ضمير العراق وشعبه؟!!..
اخرجوا لأن الدستور الذي صوّتم على مفرداته «يكفل الحرية لأي عراقي بالاجتماع مع الآخرين وبأية وسيلة، فضلاً عن التظاهر السلمي»، على شرط أن ينظم ذلك بقانون، فلتكونوا أنتم اليوم مشرّعي هذا القانون بآلية حب العراق والحفاظ عليه.
ولتكن شعاراتنا:
* لا للعنف ولا للتخريب، نفديك يا عراق.
* لا للتسقيط، نريد الحق يا عراق.
* لا لثقافة الحواسم، نحميك يا عراق.
* ونكبّر بصوت واحد: نحبّك يا عراق.

الشهداء والشعب مصدر السلطات

كتابات 18/2/2011

سلاماً على أرواح شهداء مظاهرات الغضب العراقي في الديوانية والكوت والناصرية والسليمانية، شهداء الحرمان، وعلى الذين اعتقلوا بتهمة باطلة بحجة التحريض على أعمال الشغب.
دفعوا بنا إلى الالتزام بالوفاء للأهداف النبيلة التي استشهدوا أو فقدوا حريتهم من أجلها والتي كانت لا تتعدى سوى المطالبة بحق الحياة بأبسط معانيها، فإذا بهم اليوم يعبّدون لنا الطريق باتجاه الأهداف الأسمى للعراق وللعراقيين ليصبحوا الآن مصدر السلطات.
الشعب اليوم كلّه جسد واحد، فهم الأهل والعشيرة لكل من استشهد ورسّخ شرعية المطالب، شرعية الشعب كمصدر وحيد للسلطات.
الحرية التي نحتج من خلالها هي ليست منحة من أحد، والديمقراطية التي نعبّر بها عن معاناتنا هي ليست هبة من الدستور، هذا الدستور عليه أن ينزع كل مفرداته الطائفية والعرقية ليطيح بالمحاصصة ويعيد الانتخابات ويعتذر لكل الضحايا وذويهم عن الانتهاكات التي ارتكبت باسمه منذ أن صوَّتنا على استفتائه ودفعنا إلى هذا التصويت تحت شبح الحرب الأهلية والإرهاب الذي طاح بالعراق كله بعد أعوام الفتن التي تلت التغيير في 2003، من دون أن تعي الملايين من شعبنا مخاطر التقسيم والمحاصصة التي نصّ عليها هذا الدستور وشرعنها من خلال لغة تأويلية منحت القائمين على تفسيره نفوذاً لامرئياً لابتلاع المؤسسات واختزال الدولة العراقية وشعبها في لعبة القوائم المغلقة التي مرّروها حتى في هذه الانتخابات وجاؤوا بالأميّين والفاشلين واللصوص نواباً متعكّزين على لعبة أسموها المقاعد الشاغرة.
العراقي الجديد ليس بحاجة إلى موافقة أمنية وحكومية ليتجوّل في شوارع وأزقة مدينته، وهو كذلك ليس بحاجة إلى ورقة من وزارة الداخلية التي لم يعيّن وزيرها حتى الآن ليجلس تحت نصب الحرية أو يهتف في حديقة الأمة وينام فيها، فهو قبل أن يأتي الغرباء من وراء الحدود كان يجلس هناك ويشتم الدكتاتوريات وحظّه العاثر، ما دام هو مصمّم على استعادة الدولة من سارقيها ومساعدة الحكومة على اتخاذ إجراءات فورية لإقالة كل الفاشلين ومحاسبة المقصرين والسارقين، وإذا كانت الحكومة بشخص رئيس وزرائها غير قادرة على إحداث هذا التغيير، فلتحترم غضب الناس ولتحْمِ البلد من الانفجار وتعتذر بصراحة وتستقيل، وليأخذ البرلمان دوره الحقيقي بخطة طوارئ للإصلاح السريع.. وإذا تعذّر عليه فعلى أعضائه أن يحترموا ناخبيهم ويحتذوا بنموذج السيد جعفر الصدر ويغادروا المسؤولية بأخلاقية الكبار، لقد صبر عليكم الشعب طويلاً هذا الشعب، عليه الآن أن يظهر رقيّه ولا ينساق للعنف الذي تروّج له الحكومة.
أيها المحرومون تمسكوا بالأمل والأخلاق، فهي ستمكّنكم من استعادة الحلم بكتابة دستور حقيقي يضمن نزاهة الانتخابات التي ستكون دماء شهدائكم حارسها الأمين.
أنت يا شعب العراق ستكون القائمة المفتوحة.. أنت وحدة مصدر كل السلطات.

ننتظركم تحت نصب الحرية

كتابات 20/2/2011

يقترب يوم الخامس والعشرين من شباط يوم لقاء العراقيين بشبابهم ونسائهم وشيوخهم وأطفالهم..
فهم من خطّط لهذا الموعد، وهم من سيرسم آليات نجاحه، باستعادة الفرح البغدادي بكامل أناقته القديمة التي نعرفها نحن والتي شوّهت بمظاهر التخلف وقمع الحريات الشخصية وجدران الطائفية الساقطة..
سنذهب كلنا إلى أداء مراسيم الولاء للعراق..
لنرجم بأصواتنا المحاصصة بكل ألوانها وبكل ما أنجبته من بدع المكونات والنهب الرسمي المشرعن بالدستور..
لنعيد إلى بغداد وجهها المضيء الذي ستعيده وتبنيه سواعد الشباب العاطلين عن العمل والواقفين في طوابير الحلم..
سننير ظلمة أيامك يا بغداد وبيوتك التي حوّلوها إلى محطات لتفخيخ أعمارنا..
ستعودين لممارسة طقوس فرحك وإنسانيتك ومدنيّتك..
كلّنا في أحضان قلبك في محراب ساحة التحرير..
سنصرّ على أحلامنا، لأننا أهل الأنهار العطشى، رحم الخير لا اليباس الذي ينوء بدجلة ويصرخ بالفرات..
ذاهبون إلى هناك، لا لكي نعود بعد ساعات ولا أيام، نعرف أن هذا الطريق لن يكون سريعاً ولا سهلاً، ولكننا سنكبر من دون أن يهزمنا أحد..
كلّما تمسّكنا بالأمل وحدقنا في حزن كل شهداء العراق سندرك أهمية الصبر ونسيان أية حساسية كبيرة أو صغيرة..
التغاضي عن أي ضغينة كبيرة أو صغيرة..
لنسمو فوق كل الصغائر، فالهدف كبير ونبيل..
ودعاء الأمهات حرزنا من الطارئين والمجرمين..
دموع اليتامى لن تغفر لنا إذا ما فقدنا صبرنا وإذا ما أخافونا بالظلاميين الذين سيندسّون بيننا لكي يحرفوا هذا اللقاء عن مساره الحقيقي والشرعي الذي يكبر بتفويض من الشعب المحروم وحده..
لن نسمح لهؤلاء ولا لغيرهم بإهانة الجيش والاعتداء عليه وعلى رجاله ورجال الشرطة، إنما سنجعلهم ينضمّون إلينا لنعلي بهم أصواتنا التي هي من أجلهم ومن اجل مستقبل أطفالهم..
أصواتنا لا نسمح لأية جهة في الكون بتسييسها..
فهي أصوات احتجاح تطالب باستعادة حقوق العراقيين ورفع الظلم أملاً في تحقيق العدالة بكافة أشكالها..
نريد من أهلنا أن يغادروا أي شكل من أشكال العنف الشعبي لأنه نتيجة خطيرة للعنف السياسي الذي مارسه كلّ حكام العراق لإيمانهم بامتلاك الحقيقة المطلقة واصفين إيّانا بالرعاع والغوغاء أو المشاغبين..
سيخرج الجميع بإذن الله ليستعيدوا كرامتهم الانسانية وفرحهم وينتظرون هناك تحت نصب الحرية حتى تتحقق كافة مطالبهم، وسيعيدون صياغة تاريخ العراق الحديث..
كلّكم يا شباب العراق وأهله ويا أهل بغداد ستسحبون الهدوء والجمال وروح الفكاهة مرة أخرى إلى مجالسكم وليالي سمركم الناصعة بعراقيتكم الخالصة إلا لوجهة الوطن..
ويا ساحة التحرير.. يا قبلة العراق اليوم..
الكلّ ينتظر منك الكثير ومن أبنائك..
ذكّريهم إذا نسوا ولو للحظة أننا لا نتظاهر اليوم من أجل الموت..
ولا من أجل الحرق والنهب..
ولا من أجل «تنطونة لو نروح »..
فنحن نتظاهر من أجل أن نخجل سارقينا لكي يعترفوا بكل ما ارتكبوه في حقنا من جرائم أقلّها تدخل في خانة جرائم ضد الإنسانية..
باقون نحن وسنحرم كل من يحاول أن يخرج بالتظاهرة إلى غير أهدافها من المهزومين والقتلة المرعوبين من قصاص الشعب..
سنحرمهم من شرف هذا اللقاء.. وإلى كل المتردّدين والخائفين نقول: «واللي ما يزور ساحة التحرير عمرة خسارة».

سنخرج بهتافنا وقصائدنا في «يوم الغضب العراقي»

كتابات 21/2/2011

تتزامن حدّة تصريحات بعض المسؤولين وأبواقهم مع تسابق الزمن وإصرار الناس على الخروج في «يوم الغضب العراقي» الجمعة القادمة إلى ساحة التحرير للتظاهر من أجل إسقاط الفساد.
لسنا طلاب إسقاط النظام ولا العملية السياسية، فنحن من أعطى لهذه العملية شرعيتها من خلال ذهابنا للانتخابات.
الشعب هو المصدر الشرعي للعملية السياسية..
ليس الذين يتهموننا بمحاولة إسقاطها ومحاولة خروجنا على القانون، وكلّما أوغلتم في شتمنا وكيل اتهاماتكم لنا واستأجرتم كتبة الموالاة، كلّما سَمَت أخلاقنا أكثر، وتمسكنا بشكل أكبر بصفات الصابرين والمناضلين.
نزداد إصراراً قبل وبعد «يوم الغضب العراقي» على إسقاط السياسيين الخائنين لوعودهم الانتخابية، السارقين أحلام الفقراء بعراق جميل وآمن ومدني.. وليس إسقاط العملية السياسية كما يروّج البعض ويحاول التشويش على آمال هؤلاء الناس المحرومين.
يا أيها المرتبكون..
أصواتنا لم تصل بعد، فليس إجماعكم على إيقاف سرقة أموالنا تحت غطاء المنافع الاجتماعية هو المطلب الوحيد، لأننا نريد إجابات وقرارات على أسئلة عديدة فيها جرح لكرامتنا وإنسانيتنا:
– أين المدارس الحضارية والنموذجية حتى ولو استعادت بعضاً من هيبة وشكل مدارس العراق في الخمسينيات وستينيات القرن الماضي؟!!.
– أين المستشفيات العصرية المتطورة؟!.
– أين الكهرباء؟!.
– أين الشوارع النظيفة المعبّدة؟!.
– أين حق العيش الكريم والشعب يسكن في بيوت الصفيح؟!!.
– أين الحريات الشخصية التي كفلها الدستور؟!.
وفوق هذا كله.. أين العدالة في تطبيق القانون وتخصيص الرواتب الضخمة والثروات ومحاسبة المقصرين!!؟؟.
نريد أن نعرف أيضاً، وهذا سؤال أخلاقي لا يتعلق بمال العراق ولكنه يتعلق بالقدرة على الاعتراف والاعتذار للضحايا، فلماذا لم تقدم لحد الآن لا الحكومة ولا برلمانها ولا القوى السياسية كلها أي اعتذارا لعوائل الشهداء الذين تظاهروا من أجل حريتهم وكرامتهم، بل على العكس تجرّأ بعض ساسة الفساد والخراب على وصف الشهداء بالمشاغبين والمأجورين؟!
نصرّ على موعد لقائنا وتجمعنا في «يوم الغضب العراقي» في الخامس والعشرين من هذا الشهر، من دون الحاجة كما أسلفنا في بيانات سابقة إلى أخذ الموافقات، فحينما اجتمع أهل بغداد وبالملايين للاحتفال بمولد النبي الكريم محمد «ص»، لم يكونوا بحاجة إلى موافقة رئيس مجلس محافظتهم أو قوات حفظ أمن بغداد!!.
فلماذا هم بحاجة الآن إلى هذه الموافقات وملء استمارات فيها مطالب تعجيزية للمطالبين بالتغيير والإصلاح، وهم ذاهبون فقط للمطالبة بحقوقهم ولمساندة الحكومة في إسقاط المحاصصة والفساد كما تدّعي؟!!.
أليست هذه الحكومة هي نفسها التي أعلنت حملتها على الفساد والفاسدين؟!!.
لقد بات الشباب ليلة أمس في ساحة التحرير وقاموا بتدبير أمورهم متعاونين مع قوات الجيش والأجهزة الأمنية بشكل مسؤول وحضاري، وسوف يواصلون احتجاجاتهم بهذا الشكل الأنيق من أجل ضبط إيقاع ما يجري على الأرض بكل ما يملكون من إخلاص ووطنية لبلدهم.
نريد من الحكومة نوعاً من الاسترخاء والهدوء وضبط الأعصاب، وستجد أن الأمر لا يستدعي كل هذا الذعر الرسمي غير المبرر، نحن نتدرّب على ممارسة مدنية لاستعادة حقوقنا.
ليست مشكلتنا مع رئيس الوزراء ولا مع رئيس الجمهورية، وهي كذلك ليست مع رئيس البرلمان، لقد انتخبناكم ولنا حق عليكم.
فتدرّبوا على استيعابنا لأن طريقنا معكم سيكون طويلاً، فهي معركة حريات وحقوق وخدمات.
لسنا بسياسيين وليست لدينا حكومة ظل، فنحن مواطنون مشينا إلى حريتنا لنقول: لا للفاسدين.. والفاسد هو وحده من يزعجه أمرنا، فلا تجعلوا من عنوان العملية السياسية درعاً لحماية الفاسدين والظلاميين.

 

لا قيادة ولا نطاق رسمي، ادخلوها آمنين

كتابات 22/2/2011

لم يتبق غير أيام محدودة تفصلنا وموعد يوم غضب المحرومين في ساحة التحرير، وكلما اقتربت الساعات كلما ازدادت الصراعات والأجندات التي تريد جرّنا من مركز الحدث الأول وهو ذهابنا إلى هناك، إلى ساحات الشتم واللعن والتخوين.
مظاهرة حضارية أردناها أن تكون شعبية للتواصل مع حكومة أثبتت فشل برنامجها الانتخابي الذي أعلنته للشعب ووعدت بتنفيذه منذ سنوات.
هي ليست ثورة.
ولا انقلاب.
يقف خلفه حزب محظور، أو تنظيم لزعماء فشلوا في كل شيء إلا في لهاثهم للوصول إلى السلطة.
أصواتنا..
ليس لها ناطق رسمي ولا قادة يتحدثون باسمها وينسبون أصواتنا ومعاناتنا إليهم في الفضائيات هنا وهناك، فلتنتبه هذه القنوات لأنها بذلك تساهم في حرف مسار التظاهرة إلى وجهة يرفضها الشعب وينأى عنها ويتبرّأ منها.
لقد استيقظ الشعب العراقي من أفيون الزعامات وليس أمامه اليوم إلا حق التظاهر وصوته المقدّس الذي لن يخدع مرّة أخرى، فهو المرجعية الشرعية الوحيدة لإعادة البلاد إلى عجلة الحياة الكريمة بطريقة سلمية راقية ومدنية.
ولو إنها كانت كذلك لذهب الناطق الرسمي وسلم طلبات المحتجين إلى الحكومة.
إن هذه التظاهرات هي ببساطة وسيلة كل محروم يطالب بحق شخصي على الحكومة الإيفاء بتنفيذه وفق القانون ووفق حجم الوعود وضمن سقف زمني ستحدّده أصواتنا يوم الخامس العشرين.
إنها حملة احتجاجات قادها مجموعة من شبان طالبوا بالعدالة والقضاء على الفساد وإيجاد فرص عمل للعاطلين وللطلبة الخريجين، والقيام بإصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية، هذه الدعوات لم ينظمها أحد ولم يحدّد موعدها سوى محاكاة ليوم الخامس والعشرين من يناير، فجاءت بشكل عفوي من دون تدخّل لجهات أو كيانات حزبية ودينية، سواء تلك التي استحوذت على الشارع العراقي بعد عام 2003 أو التي اجتثت من العملية السياسية.
ففي حمى تصاعد إصدار البيانات وظهور شخصيات تتخفى تحت أسماء شتى، فنحن نعلن من خلال «موقع كتابات» أننا سنخرج بوصفنا أفراداً نطالب بحقّنا ونعلن فشل برنامج الحكومة، شعب سيهبّ للدفاع أيضاً عن أصواته خشية سرقتها وتجييرها إلى جهات مشبوهة لا تريد إلا العودة حتى ولو على جثامين كل العراقيين.
هي مظاهرة شعبية ليس لها قيادات ولا تنظيمات.
قضيتنا أكبر من حصرها بأي تيار أو وجهة حزبية أو دينية شرعت لهذا الدستور ولهذه المحاصصة وتريد الآن الاستحواذ على يوم نصب الحرية الذي اخترناه مكاناً لإيقاف انهيار ما تبقى من البنية التحتية ليس للبلاد، ولكن لمنظومة القيم والمعنويات لدى الإنسان العراقي.
سننتصر للأمل ولليائسين.
لا نملك إلا أعلام العراق ووريقات سنكتب عليها مطالبنا.
ولن نرفع أية لافتة برّاقة بدعم المشبوهين، فنحن لا ننتمي لمزاد السياسة، ولكننا ننتمي إلى بلد خسر الكثير ووعد بالكثير ولا نريده أن يعوم أكثر في وحل الصراعات والخسارات.
ساحة التحرير هي ملك الشعب وليست ملكاً لأحد.
لا للحكومة الخائفة التي لا تريد أن تفهم معنى كلمة «تظاهرة» حيث ترى فيها ظاهرة استعداء لكل ما هو قانوني وشرعي.
لا.. يا حكومة الوعود ويا نخب سياسية ويا جحافل مهزومة تحلم بالعودة لذبح العراق وهي نتيجة لكل ما يحصل الآن.
لكم جميعاً نقول:
إننا نحاول الاتصال بحكومتنا الفاشلة بطريقة حضارية وبطريقة غير فاشلة.
لنفهمها معنى حق التظاهر بأسلوب راقي، ولأنها المظاهرة الأولى في تاريخنا الحديث بعد انتفاضة الجسر عام 1948 فسننتظر ردّة فعلها يوم الخامس والعشرين، وسوف نحكم ويحكم العالم والتاريخ على توجهها باتجاه حماية وتشجيع الناس على المجاهرة بقول الحق وتعزيز الوجه المدني للدولة، معترفة بجرائم سُرّاق برّأتهم وقتلة دافعت عنهم ووفّرت لهم حصانة القانون.
أم إنها ستمضي في تهديداتها المبطنة للمتظاهرين والتي تجاوزها الشارع العراقي الذي كسر حاجز الخوف وغادره ليسرع ملتحقاً بأهله المظلومين يوم الخامس والعشرين من هذا الشهر ويفترش سماء نصب الحرية.
ادخلوا ساحة التحرير إفراداً، فهي ليست حكراً علينا وليس من حقنا إقصاء حقكم في التظاهر، ولكن أنتم يا أصحاب النوايا السيئة، يا من خسرتم رهانات الطائفية والعصبيات الأيديولوجية، ادخلوها متطهّرين بحب العراق من كل نواياكم، فالعراق كريم وباقٍ، والبقاء لله وللشعب.
ادخلوها آمنين يا أهل العراق.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب