خاص: كتبت- نشوى الحفني:
قمة أوروبية رفيعة المستوى، استضافها قصر الإليزيه في باريس شارك فيها نحو 30 زعيماً ورئيس حكومة، في مقدمتهم الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، بدعوة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وذلك لمناقشة سبل دعم أوكرانيا عسكرياً وسياسياً في مواجهة روسيا، خاصة في ظل تراجع الدعم الأميركي لكييف.
وتأتي هذه القمة في وقت تتزايد فيه التساؤلات حول قدرة الدول الأوروبية على تعويض الغياب الأميركي المتصاعد، خصوصاً بعد ما حدث تقارباً نسبياً بين واشنطن وموسكو، وابتعاداً تدريجياً للولايات المتحدة عن الانخراط المباشر في الملف الأوكراني.
خلال القمة، أكد القادة الأوروبيون رفضهم بالإجماع رفع العقوبات المفروضة على روسيا، مشددين على أهمية استمرار الضغط لتحقيق السلام الحقيقي في أوكرانيا. القمة، التي جمعت نحو ثلاثين دولة أوروبية، ركزت على مناقشة الضمانات الأمنية المستقبلية لكييف، وسط انقسام بشأن مبادرة فرنسية بريطانية لنشر “قوة طمأنة” أوروبية هناك.
هيكلة الجيش الأوكراني..
وأعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال القمة أن فرنسا وبريطانيا ستقودان جهود نشر “قوة طمأنة” في أوكرانيا لدعم اتفاق سلام مستقبلي. وأوضح ماكرون أن وفداً مشتركاً من البلدين سيتوجه “في الأيام المقبلة إلى أوكرانيا” لتحضير خطة لهيكلة الجيش الأوكراني، الذي وصفه بأنه “الضمان الأمني الرئيسي” لكييف.
وأشار ماكرون إلى أن الاقتراح الفرنسي البريطاني “لا يحظى بإجماع”، لكنه أكد أنه “ستكون هناك قوة طمأنة من عدة دول أوروبية” في حال التوصل إلى اتفاق سلام. وأوضح أن مهمة هذه القوة “لن تكون حفظ السلام أو الانتشار على طول خط التماس أو الحلول مكان القوات الأوكرانية”، بل ستنتشر في “مواقع استراتيجية يتم تحديدها مسبقاً مع الأوكرانيين” وستكون ذات طابع “رادع”.
ترحيب وتساؤلات أوكرانية..
من جانبه، رحب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بالدعم الأوروبي المستمر، لكنه أبدى قلقه إزاء غياب الوضوح بشأن تفاصيل تفويض قوة الطمأنة ومسؤولياتها. وقال زيلينسكي خلال مؤتمر صحفي عقب القمة: “ما زالت هناك أسئلة كثيرة وإجابات قليلة”.
وأضاف زيلينسكي أن أوكرانيا تلقت “مقترحات عديدة” من حلفائها بشأن تعزيز الدفاع الجوي، والالتزام في البحر الأسود، والاستثمارات في صناعة الدفاع الأوكرانية. كما حذر من رفع العقوبات المفروضة على روسيا قائلاً: “رفع العقوبات في الوقت الحالي سيكون كارثة دبلوماسية. العقوبات هي من بين الأدوات القليلة الحقيقية التي يمتلكها العالم للضغط على روسيا من أجل الدخول في محادثات جدية”.
رفض أوروبي لرفع العقوبات عن روسيا..
من جانبهم، أكد القادة الأوروبيون خلال القمة رفضهم القاطع لرفع العقوبات عن روسيا. وقال ماكرون إن حلفاء أوكرانيا “اتفقوا بالإجماع على وجوب عدم رفع العقوبات المفروضة على موسكو”، بينما تدرس واشنطن احتمال رفعها.
رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر شدد على أن “الآن ليس وقت رفع العقوبات”، مضيفاً بالقول: “ناقشنا كيفية زيادة العقوبات بدلاً من تخفيفها”. وأشاد برؤية أوروبا التي “تتحرك من أجل السلام في أوكرانيا على نطاق غير مسبوق منذ عقود”.
بدوره، قال المستشار الألماني أولاف شولتس إن رفع العقوبات عن روسيا سيكون “خطأ فادحاً”، مشيراً إلى أنه “لا معنى لرفع العقوبات قبل استعادة السلام الحقيقي”.
في الوقت ذاته، شددت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك من برلين على رفض رفع العقوبات عن روسيا قبل تحقيق تسوية سلمية. وقالت بيربوك: “من يدفع أوكرانيا إلى الاستسلام لا يتفاوض من أجل السلام، بل يمهد للتصعيد التالي”.
إنشاء قوة أوروبية مسلحة..
وكان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، قد قال قبل القمة بعد محادثاته مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إن قوة أوروبية مسلحة مقترحة قد يتم نشرها في أوكرانيا بالتزامن مع اتفاق سلام محتمل، يمكنها “الرد” إذا شنت موسكو هجوما جديدا، مضيفا: “إذا كان هناك عدوان عام جديد على الأراضي الأوكرانية، فستكون هذه الجيوش، في الواقع، تحت الهجوم، وبالتالي ستخضع للأطر المعتادة للاشتباك”.
وتابع قائلا: “عندما يتم نشر جنودنا، فإنهم يكونون مستعدين للتحرك والرد وفقا لقرارات القائد العام. وإذا وجدوا أنفسهم في موقف قتالي، فسيكون عليهم التعامل معه والرد عليه”.
ويقود ماكرون، إلى جانب رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، جهودا لحشد تحالف من الدول المستعدة لدعم نشر قوة عسكرية في أوكرانيا، بهدف تأمين سلام دائم ومنع روسيا من شن هجوم جديد على البلاد.
ولم يحدد ماكرون طبيعة الرد الذي قد يتم اتخاذه في حال وقوع هجوم روسي.
دور محورى لأوروبا..
تعليقا على القمة، قال الباحث في الفلسفة السياسية، رامي خليفة العلي، في تصريحاته لـ”سكاي نيوز عربية” إن “الجانب الفرنسي يريد أن يكون لأوروبا دور محوري، إن لم يكن على طاولة المفاوضات، فعلى الأقل في الضمانات الأمنية التي يتم الحديث عنها في حال الوصول إلى اتفاق سلام”.
وأشار العلي إلى أن باريس تأمل في بناء رؤية أوروبية موحدة تجاه الملف الأوكراني، وتوفير دعم عسكري ملموس، ليس فقط خلال الحرب، بل في مرحلة ما بعد الاتفاق المحتمل، مشددا على أن فرنسا أعلنت عن تقديم دعم مالي يقدر بملياري دولار لكييف.
وبحسب العلي، فإن “النقاش بات يتركز على إنشاء قوة أوروبية ليست تحت مسمى قوات حفظ السلام – الذي ترفضه روسيا – بل كقوة لطمأنة الجانب الأوكراني بأن هناك دعما فعليا له في حال تعرض لأي تهديد من موسكو”.
بينما يري الباحث السياسي أن “قدرة أوروبا على تعويض الدعم الأميركي بشكل كامل مستبعدة للغاية”، موضحا أن القارة العجوز “لا تملك الإرادة السياسية ولا الجاهزية العسكرية لفرض شروطها على روسيا أو الدخول في مواجهة مباشرة معها”.
خطوة نحو التصعيد..
من جانبه، وصف الكاتب والباحث السياسي الروسي، يفغيني سيدروف، القمة بأنها “خطوة أخرى نحو التصعيد من منظور موسكو”، مضيفاً أن “روسيا سترفض كل المحاولات الأوروبية لتقوية التواجد العسكري الأجنبي في أوكرانيا، سواء تحت مسمى قوات حفظ السلام أو غيرها”.
وأوضح سيدروف أن “كل هذه التسميات لا تغير من حقيقة أن موسكو تعتبر أي تواجد عسكري أجنبي في أوكرانيا تهديداً مباشراً وغير مقبول”، مشيراً إلى أن “المشكلة لا تتعلق بالتسمية بل بالجوهر”.
وأضاف أن “الدول الأوروبية، رغم خطاباتها الحماسية، تدرك تماما أن أي قوة أوروبية على الأرض الأوكرانية لن تكون فاعلة دون غطاء أميركي، وهو ما لا يبدو متوفراً في الوقت الراهن”.
الانقسام الأوروبي يعقد المشهد..
ويرى سيدروف أن “الانقسام داخل الاتحاد الأوروبي يجعل موقفه ضعيفاً أمام كل من موسكو وواشنطن”، مشيراً إلى أن “فرنسا التي تقود الدعوات لدعم أوكرانيا، تعاني من مشاكل اقتصادية حادة، أبرزها الدين العام الذي يبلغ نحو 300 مليار دولار”، متسائلاً: “كيف يمكنها زيادة المساعدات العسكرية وسط رفض شعبي متصاعد؟”.
كما لفت إلى أن “هناك دولاً داخل الاتحاد الأوروبي مثل هنغاريا وسلوفاكيا لا ترغب بالانخراط في مشروع عسكري واسع لدعم أوكرانيا، مما يضعف الجبهة الأوروبية ويمنعها من اتخاذ مواقف موحدة”.
محاولة للتواجد على الطاولة..
من جهة أخرى، أشار العلي إلى أن “الإجابة عن مستقبل الحل في أوكرانيا لا تزال عملياً بيد واشنطن”، موضحاً أن الولايات المتحدة “هي من تملك مفاتيح الضغط والتفاوض مع روسيا”، مضيفاً أن أوروبا تحاول فقط أن “تكون على الطاولة وأن تقنع الولايات المتحدة بمنحها دوراً أثناء الاتفاق أو بعده”.
وأكد العلي أنه “لا يوجد حتى الآن إجماع أوروبي حقيقي لبناء استقلالية دفاعية، وما زال مشروع الاستقلال العسكري الأوروبي يعاني من تعثر واضح، كما حصل مؤخراً مع رفض مشروع فون دير لاين من قبل دول كفرنسا وإسبانيا”.
ورغم ذلك، شدد على أن “معظم الدول الأوروبية ترى أن انتصار روسيا في أوكرانيا سيكون تهديداً مباشراً لأمن القارة، ما يدفعها لمحاولة بناء قوة أوروبية قادرة على التواجد في أي اتفاق مستقبلي”.
كشف لطموحات وحدود أوروبا..
وحول الموقف الأميركي، يرى العلي أن “واشنطن تبدو أقرب إلى الرؤية الروسية منها إلى الرؤية الأوروبية، وهو ما يزيد من تعقيد مهمة الأوروبيين”، مشيراً إلى أن “أوروبا تحاول إقناع الولايات المتحدة بدورها المستقبلي، لكن من المستبعد أن تفرض شروطها على طاولة المفاوضات”.
من جهته، اختتم سيدروف بالتأكيد على أن “الناس في أوروبا لا يرون روسيا كخطر مباشر، ولا يعتقدون أن هناك تهديدا حقيقيا قادما من موسكو”، لافتاً إلى أن “العلاقات الثقافية والتاريخية بين روسيا ودول مثل فرنسا وإيطاليا تعزز هذا الانطباع الشعبي، وهو ما يصعب تسويق أي مشروع عسكري أوروبي واسع النطاق”.
وبين هذا وذاك، يبدو أن قمة باريس كشفت عن طموحات أوروبية كبيرة، لكنها في الوقت نفسه أبرزت حدود قدرة أوروبا على لعب دور مستقل، في ظل غياب الإجماع الداخلي، وتراجع الغطاء الأميركي، ورفض روسي واضح لأي وجود عسكري غربي في أوكرانيا.