وكالات – كتابات :
في الطرف الجنوبي من مدينة “مانهاتن”؛ بولاية “نيويورك”، يقع شارع “وول ستريت”؛ الذي أصبح اسمه اليوم رمزًا للمال والسلطة؛ إذ اشتهر بكونه مقرًا لأكبر أسواق الأوراق المالية العالمية إلى جانب الشركات والبنوك الاستثمارية، فهو عبارة عن طريق ممتد من ست بنايات تضم أهم المؤسسات المالية في “الولايات المتحدة الأميركية”، بما في ذلك: “بنك الاحتياطي الفيدرالي”.
لكن وراء هذا الشارع الشهير تاريخ آخر مخفٍ، بعضه كان مرتبطًا بالعبودية عبر مزادات تجارة الرقيق الإفريقي، إلا أنه تَطوَّر حتى أصبح مرآةً لحركة الاقتصاد العالمي واضطراباته، من إنهيار البورصة؛ عام 1929، وبداية “الكساد الكبير”، وحتى “الأزمة المالية العالمية”؛ عام 2008، فما الذي تعرفه عن أكبر “سوق مالية” في العالم ؟.. وكيف نما بهذا الشكل ليُصبح بالقوة التي هو عليها اليوم ؟
من “مزادات العبيد” إلى أكبر سوق للأوراق المالية !
تأسس شارع “وول ستريت”؛ الشهير على يد المستوطنين الهولنديين الذين هاجروا إلى “الولايات المتحدة”؛ في القرن السابع عشر الميلادي، وأرادوا تأسيس مستوطنة “أمستردام الجديدة”؛ عام 1652؛ والتي أصبحت فيما بعد نواة: لـ”ولاية نيويورك”.
حينها خشي المستوطنون الهولنديون على أنفسهم من غزو البريطانيين لمستعمرتهم الصغيرة؛ فسعوا لبناء جدار خشبي كبير على طول الحدود الشمالية للمستوطنة، كان ارتفاع الجدار يتراوح بين تسعة و12 قدمًا، وطوله حوالي: 2300 قدم، وقد صنعوا فيه بوابات عند تقاطعات الجدار مع شارع “بيرل” وشارع “برودواي”. وأطلقوا على الشارع المجاور للجدار اسم: “وول ستريت”؛ أو “شارع الجدار”؛ الذي أصبح اليوم اسمًا للحي المالي في ولاية “نيويورك”؛ وللأسواق المالية الأميركية ككل.
وفي 14 كانون أول/ديسمبر 1711، أصدر المجلس العام لمدينة “نيويورك” قانونًا يجعل من “وول ستريت” أول سوق رسمية للعبيد في المدينة؛ ليُصبح الشارع بذلك مركزًا لبيع واستئجار العبيد من الأفارقة، والهنود الحمر؛ (السكان الأصليين للأميركتين).
وامتدت سوق العبيد هذه في بداية القرن الثامن عشر من شارع “بيرل” إلى شارع “ووتر ستريت”، وهي منطقة قديمة جرى تجريفها فيما بعد، ولم يبقَ منها سوى لوحة صغيرة تستطيع أن تجدها في الحي المالي اليوم، والتي تُعد التذكير الوحيد ببداية “وول ستريت” مركزًا لتجارة العبيد في السابق.
وحتى الآن لم تزل علاقة حي “وول ستريت” بإرث العبودية غير معروفة على نطاق واسع، وفي الجولات السياحية التي تضع الحي ضمن برنامجها يتفاجأ الكثيرون أن المستعبدين هم من بنوا الجدار الذي سميت “وول ستريت” على اسمه.
وعن ذلك يقول “غافين رايت”، الأستاذ الفخري للتاريخ الاقتصادي بجامعة “ستانفورد”: “لم يعتد الناس في المناطق غير المرتبطة بالعبودية على رفض الاقتصاد المرتبط بالعبودية؛ إذ كانوا يتعاملون بشكل روتيني مع مالكي العبيد وتجارهم”.
ويؤكد “رايت” أن المستوطنين البريطانيين والهولنديين اعتمدو على العبيد في إنشاء المزارع، وبناء البلدات، والمدن الجديدة، مشددًا على أن ما بناه العبيد على أكتافهم في ذلك الزمن سيُصبح في النهاية “الولايات المتحدة الأميركية” التي نعرفها.
حينها كان يجري جلب المستعبدين للعمل في مزارع “القطن والسكر والتبغ”؛ ومن ثم إرسال المحاصيل التي قاموا بزراعتها إلى “أوروبا” أو إلى المستعمرات الشمالية، لتحويلها إلى منتجات جاهزة للاستهلاك.
وفي النهاية كان يجري استخدام تجارة هذه السلع الجاهزة لتمويل الرحلات إلى “إفريقيا” للحصول على المزيد من العبيد، من أجل استغلالهم بعد ذلك للعمل في: “أرض الأحلام” الأميركية؛ وقد كانت تلك العملية برمتها تجارة مربحة للمستثمرين.
وبالتالي كانت تجارة العبيد تلعب دورًا هامًا في اقتصاد المستعمرات البريطانية الثلاث عشرة، وانغمست العديد من شركات التأمين في بيع البوالص التأمينية التي كانت كفيلة لتعويض “تجار الرقيق” عن خسائرهم في حالة إصابة أو موت العبيد الذين يمتلكونهم أثناء النقل؛ وقد كانت هذه السياسات تحميهم من مخاطر غرق قوارب العبيد؛ إذ كان العبيد يحسبون كأصول عند تقدير ثروات الأشخاص.
حينها؛ كان “وول ستريت” مركزًا لمزادات العبيد، يُجني فيه المستعمرون البيض أرباحهم ويراكمون ثرواتٍ طائلة؛ إذ جرى تشغيل هذا السوق مركزًا لتجارة العبيد بين عامي: 1711 و1765؛ أما ولاية “نيويورك” فقد ظلت مركزًا رئيسًا لتجارة العبيد حتى خمسينيات القرن التاسع عشر، أي لأكثر من: 100 عام من بداية هذه الأسواق، وذلك حتى إلغاء العبودية في “الولايات المتحدة الأميركية”؛ عام 1865؛ إذ تحول أصحاب هذه التجارة إلى أسواق رأس المال، لكن إذا كانت البداية هكذا، فكيف بدأ ارتباط اسم “وول ستريت” بعالمِ المال ؟
بحلول نهاية القرن الثامن عشر، كان لدى “الولايات المتحدة” بالفعل مركز مال في “فيلادلفيا”، حيث كان تُجار الأسهم والسلع يُديرون أعمالهم هناك؛ حينذاك أراد تُجار “نيويورك” المنافسة؛ كما أرادوا منع تدخل الحكومة، وأي منافسين محتملين؛ وكانت البداية هي: “اتفاقية بوتنوود”.
في عام 1792؛ وقع: 24 وسيطًا؛ (سمسارًا في البورصة)، اتفاقية، عُرفت في التاريخ باسم: “اتفاقية بوتنوود”، والتي سمُيت على اسم شجرة الجميز التي اعتاد تُجار “نيويورك” التجمع تحتها لعقد اتفاقياتهم، وكان الوسطاء في البداية يجتمعون في ظروفٍ سيئة، واستخدموا في ذلك المتاجر والمقاهي المحلية، وبعد فترة وجيزة افتتحت “بورصة نيويورك”؛ أول غرفة تداول لها في مساحة مستأجرة تقع في: 40 شارع “وول ستريت”.
وكانوا يتداولون حينها فقط مع بعضهم البعض بعمولة: 0.25%، إلا أن تلك البورصة الصغيرة ستتمكن فيما بعد من جذب الأعمال التجارية والعملاء، ولم تزل تلك البورصة متواجدة حتى اليوم بالشارع نفسه، وقد أصبحت أكبر سوق لتداول الأوراق المالية بالعالم من حيث القيمة السوقية والشركات المُدرجة.
“أهلًا بكم في وول ستريت”.. قلب الرأسمالية..
إذا صاحبك الحظ وخرجت في جولة بشارع “وول ستريت”، وبجانب تمثال الثور البرونزي المستعد للانقضاض، والذي يُعد رمزًا لغرف الأسواق المالية التي يجب أن تظل متأهبة على الدوام؛ حتمًا ستسمع مرشدك يقول إنك الآن في: “قلب الرأسمالية الأميركية”.
لكن إذا كانت الرأسمالية نظامًا ماليًا، واجتماعيًا، وسياسيًا يحمي الحقوق الفردية ويقوم على مباديء الملكية الخاصة للإنتاج والمنافسة الحُرة عبر آلية السوق دون تدخل مركزي من الدولة، فهل هذا يجعل من حي “وول ستريت” فعلًا قلب الرأسمالية ؟
معظم الأعمال في “وول ستريت” عبارة عن تجارة سندات، وقد بلغ إجمالي سوق السندات؛ من عام 2011 وحتى عام 2013؛ نحو: 32.3 تريليون دولار، نصف هذه السوق سندات الشركات والرهن العقاري والسندات المدعومة بالأصول، بينما تُشكِّل السندات الحكومية والبلدية والوكالات حوالي: 44% من إجمالي هذه السوق.
لكن إذا اعتبرنا تداول السندات الحكومية وسندات الرهن العقاري جوهر الرأسمالية، ستبقى الأدوات المتداولة إذًا ليست وليدة الأسواق الحرة؛ فالرهن العقاري، لمدة 30 عامًا مثلًا، لن يكون موجودًا بدون تدخل حكومي.
عن ذلك؛ يقول “دوغلاس فرينش”، وهو باحث اقتصادي مشارك في مركز (جونسون) بجامعة “تروي”؛ وأستاذ مساعد في كلية “جورجيا” العسكرية؛ إن التدخل الفيدرالي في قروض الرهن العقاري، تُبعد “وول ستريت” عن مفهوم الرأسمالية باعتبارها سوق حرة.
يُشير “فرينش” إلى أن ديون الرهن العقاري قد تضاعفت ثلاث مرات خلال العشرينيات من القرن الماضي، وغالبًا ما كانت قروض الرهن العقاري لا تتجاوز: 50% فقط من تكلفة المنزل ولمدة ثلاث سنوات، ولكن مع “قانون الإسكان القومي”؛ لعام 1934، ظهرت: “إدارة الإسكان الفيدرالية”؛ (FHA)، والتي كان هدفها تنظيم معدل الفائدة وشروط الرهون العقارية التي قامت بتأمينها، حينها بدأت قروض إدارة الإسكان الفيدرالية في تأمين الرهون العقارية لمدد وصلت في النهاية إلى: 30 عامًا وبنسبة وصلت إلى: 97% من تكلفة المنازل.
كما نتج عن الحرب العالمية الثانية، برنامجًا آخر للرهن العقاري حتى يتمكن المحاربون القدامى من الحصول على الائتمان بسهولة أكبر، واليوم يمكن للمحاربين القدامى اقتراض ما يصل إلى: 102.15% من تكلفة المنازل، فضلًا عن الاستيلاء على بعض شركات الرهون العقارية من طرف الحكومة خلال الأزمة المالية الأخيرة؛ عام 2008، بعدما وقعت تلك الشركات في ورطة مالية متعلقة بقروض الإسكان الفيدرالية، وعن ذلك يقول “فرينش”: “استولت الحكومة تقريبًا على سوق الرهن العقاري بالكامل”.
وفي نهاية تقريره؛ يُلمح “دوغلاس فرينش” إلى أن “وول ستريت” ليست مرادفة للرأسمالية والأسواق المالية؛ كما أكد أن التدخل الحكومي على مدار عقود عديدة هو الذي تسبب في الأزمة المالية العالمية الأخيرة؛ في 2008؛ مُشيرًا إلى أن هذا التدخل الحكومي يمنع الرأسمالية عن القيام بعملها.
من مذكرات “الكساد الكبير”.. يوم الخميس الأسود..
يُعد “الكساد الكبير”، أسوأ تراجع في التاريخ الاقتصادي الحديث؛ وقد بدأ بإنهيار “وول ستريت”، بعد إنهيار سوق الأسهم، في 24 تشرين أول/أكتوبر عام 1929، في يومٍ عُرِفَ: بـ”الخميس الأسود”. وقد أرجعت بعض الدراسات السبب في ذلك إلى: “نظام الاحتياطي الفيدرالي”، الذي أعتاد حينذاك على التدخل لإحداث طفرات في الأسواق؛ مما أنتج واحدة من أكبر الأزمات الاقتصادية في التاريخ عندما تعرض “وول ستريت” لضربة قاصمة أصيب خلالها المستثمرون بحالة من الذعر بعدما فقدوا ملايين من الاستثمارات.
حينذاك؛ كان الأميركيون يتعاملون مع البورصة باعتبارها طريقة سهلة لكسبِ المال، فقد اعتبروا حي “وول ستريت” المالي مركزًا للربح ولا مجال فيه للخسارة، ومع ارتفاع أسعار الأسهم، باع كثير من المواطنين منازلهم ورهنوا شركاتهم من أجل الاستثمار في البورصة، فكان “وول ستريت” الملاذ الذي وضع الناس فيه مدخراتهم على أمل تحقيق الثراء السريع، إلا أن أحلامهم تحولت فجأة إلى كابوس.
إذ إنهار سوق الأسهم في “وول ستريت”؛ 1929، ليعقبه الكساد العظيم، وهو أهم حدث في التاريخ المالي للقرن العشرين؛ إذ جلب الكساد البؤس إلى حياة الأميركيين، وانتشرت البطالة، وتوقفت حركة البناء والإنتاج الصناعي؛ وهو ما نتج عنه أن فقدت الأسهم ما يقرب من: 89% من قيمتها.
يعود السبب الرئيس وراء “الكساد العظيم”؛ إلى الفقاعة التي نتجت عن فترة إزدهار “البورصة الأميركية” بين عامي: 1928 و1929؛ إذ اتجه أغلب الأميركيون للمضاربة في البورصة، حتى أصبح الطلب الهائل على الأسهم أعلى من القيمة الفعلية للشركات، وهو ما نتج عنه إنتاجًا أكبر من الطلب الفعلي للسوق؛ وعندما ضربت موجة الإنهيار الأولى سوق الأسهم، ولجأ المستثمرون للبيع بهيستيريا، لم يكن هناك مشترون، حينها بدأت الأسعار في التراجع، وفي غضون أيام كان هناك مليارات من الدولارات قد اختفت.
وحدث ذلك باختصار نتيجة طرح: 13 مليون سهمًا للبيع، لكن تلك الأسهم لم تجد مشترين لتفقد قيمتها؛ وهو ما نتج عنه ذعر المستثمرين الذين بادروا إلى بيع الأسهم بكثافة؛ ليجد آلاف المساهمين أنفسهم في النهاية مفلسين.
فانهار سوق الأسهم؛ في 24 تشرين أول/أكتوبر 1929، ثم ساء الأمر في 29 من الشهر نفسه؛ عندما فَقَد الكثير من الناس أغلب مدخراتهم؛ وقد أطلقوا على ذلك اليوم أيضًا يوم: “الثلاثاء الأسود”؛ إذ انخفضت أسعار الأسهم في الأسواق بنحو: 23%، وخسرت الأسواق نحو: 14 مليار دولار في يوم واحد، وهو ما رفع إجمالي الخسائر إلى: 30 مليار دولار لهذا الأسبوع وحده، وهو ما يُعادل عشرة أضعاف الميزانية السنوية للحكومة الفيدرالية؛ حينذاك، وأكثر بكثير مما أنفقته “الولايات المتحدة” خلال الحرب العالمية الأولى؛ وقد كان الإنهيار بداية “الكساد العظيم”؛ الذي استمر حتى عام 1939.
وانتقلت الأزمة فيما بعد من أسواق المال الأميركية إلى جميع الأسواق العالمية، بعدما أعلنت عشرات المؤسسات المالية إفلاسها في حي “وول ستريت”؛ فأغلقت المصانع، وجرى تسريح العمال، وكثرت أعداد العاطلين عن العمل نتيجة توقف الإنتاج.
ودفع ذلك أصحاب المصارف في “الولايات المتحدة” إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهة الأزمة؛ وذلك عن طريق استرجاع كميات كبيرة من الأموال المودعة في مصارف: “ألمانيا، وفرنسا، وإنكلترا”، وكانت النتيجة أن تضررت تلك الدول كثيرًا من تداعيات الأزمة، ففي “ألمانيا” – على سبيل المثال – تسببت الأزمة الاقتصادية في إنهيار “جمهورية فايمار”، وقد تلا ذلك ظهور النازية.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ طالت الآثار الكارثية لـ”الكساد العظيم”؛ دول العالم المتقدمة والنامية على حدٍ سواء، كما تأثرت بها الدخول الفردية في العالم وعائدات الضرائب وأسعار السلع وأرباح المؤسسات المالية والشركات، هذا فضلًا عن انخفاض أسعار المحاصيل بنسب تراوحت بين: 40 – 60%، كما طالت التأثيرات حركة التجارة العالمية ككل.
استمر هذا الوضع الكارثي حتى بدأت إجراءات الانتعاش الاقتصادي؛ عام 1933 مع سياسات العهد الجديد التي وضعها الرئيس؛ “فرانكلين روزفلت”، والتي تضمنت تشريع مجموعة من القوانين بين عامي: (1933 – 1935)، تضمنت منع البنوك من التعامل بالأسهم والسندات، فضلًا عن قوانين الإصلاح الصناعي وإعادة فتح البنوك التي لم تتضرر بشكل كامل من الأزمة وإنشاء لجنة تبادل الأوراق المالية؛ عام 1934؛ كما أنشئت دور الرعاية لضحايا الأزمة المتضررين من البطالة.
هكذا تسببت البنوك الأميركية في “الأزمة المالية العالمية” عام 2008..
لم يكن “الكساد العظيم” هو الأزمة المالية الوحيدة التي إرتبط اسمها بحي المال في “نيويورك”؛ (وول ستريت)، فمنذ وقت ليس ببعيد شهدنا بأنفسنا أزمة اقتصادية طاحنة بدأت أولى إرهاصاتها؛ عام 2007، وبحلول عام 2008؛ أمسى الاقتصاد العالمي غارقًا في الكساد والركود.
كان الأمر لا يبشر بخير، عندما انتشرت صور عملاء بنك “نورثرن روك”؛ في أيلول/سبتمبر 2007، وهم يصطفون حول المبنى مدججين بالرغبة في سحب مدخراتهم؛ إلا أن البنك كان على وشك الحصول على تمويل طاريء من “بنك إنكلترا”، وعلى الرغم من كل العلامات التي أحاطت بالوضع؛ حينذاك، إلا أن أحدًا لم يتوقع أننا على وشك الدخول في إنهيار مالي لم نشهد مثله منذ “الكساد الكبير”.
في تلك الأثناء انهار النظام المالي العالمي للمرةِ الثانية، مما كلف العديد من الناس وظائفهم ومدخرات حياتهم ومنازلهم. وانتشرت الأزمة بسرعة في جميع أنحاء العالم، بفضلِ الإرتباط الجوهري بين الأسواق المالية الحديثة؛ وقد كان بنك “ليمان براذرز” الضحية الكبرى لأزمة 2008 المالية؛ لعدم قدرته على التعافي منها كما البنوك الأخرى المعرفة مثل: “آر. بي. إس”، و”لويدز”.
وفقًا للبروفيسور؛ “نيل فليغستاين”، عالم الاجتماع الأميركي والأكاديمي بجامعة “كاليفورنيا بيركلي”؛ فإن النظام البنكي في “الولايات المتحدة” هو من تسبب في الأزمة المالية وإنهيار سوق المال العالمية؛ إذ عادةً ما تلعب البنوك دور “الوسطاء الماليين”، تأخذ الودائع من الهيئات التي لا تحتاج إلى أموالها على الفور، وتقرضها للهيئات التي تحتاج إلى المال فورًا، ومن المفترض أن تحجز البنوك بعض ما يجري إيداعه كاحتياطي للمودعين عندما يحتاجون أموالهم.
لكن يبقى هذا النظام ناجحًا ما دام المودعين لا يُطالبون بسحبِ أموالهم كلها في نفس الوقت، أو فيما يُعرف باسم حركة: “التهافت على البنوك”، وهو ما حدث عام 2008؛ عندما عجزت البنوك عن بيع الأوراق المالية بسعرٍ يمكنها من سداد قروضها.
تعود جذور تلك الأزمة إلى “الائتمان الرخيص” و الفقاعة العقارية التي تسببت بها أسعار الفائدة المتدنية للغاية ومعايير الإقراض الفضفاضة بالبنوكِ الأميركية، إذ كان هناك نوعًا من التهافت على البنوك، عندها كانت جميع البنوك الكبرى في “الولايات المتحدة”؛ وكذلك العديد من بنوك “أوروبا” قد اشترت بالفعل كميات هائلة من الأوراق المالية المدعومة بالرهنِ العقاري باستخدام ودائع المودعين.
ومع انخفاض قيمة الأوراق المالية بسبب ما يشهده مجال الرهن العقاري في “الولايات المتحدة”؛ كان على البنوك إما بيع الأوراق المالية لسداد قروضها أو تقديم ضمانات أكثر للمودعين الذين أرادوا سحب أموالهم من البنوك؛ وهو ما تسبب في أن تُعلن الكثير من البنوك الأميركية والأوروبية إفلاسها.
في ذلك الوقت؛ كانت البنوك تُجني أرباحها من حركة الرهن العقاري، فهي تُشارك في إنشاء الرهن العقاري، وكذلك إنتاج وبيع سندات الرهن العقاري، وشراء وبيع تلك الأوراق المالية لاستثماراتها الخاصة، إلا أن هذا النموذج قد انهار بدايةً من عام 2006؛ إذ أسهمت الرهون العقارية التي نشأت في ظل ارتفاع أسعار المساكن في خلق أرباح هائلة للمستثمرين؛ لكن عندما بدأت أسعار المساكن في الانخفاض، أدى ذلك لانخفاض حاد في الأرباح.
لجأت البنوك حينها إلى تقديم قروض للأشخاص الذين يُعانون من سوء الائتمان، لينتهي الأمر بعدد كبير ممن اشتروا تلك المنازل بالتخلف عن سداد قروضهم العقارية، وقتها بدأت حركة الأوراق المالية المعتمدة على الرهن العقاري بالإنحدار هي الأخرى؛ وفي صيف عام 2008؛ انهار القطاع المصرفي بأكمله بعدما أدى التضخم إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية والنفط، بحسب “نيل فليغستاين”.
يبقى أكبر الخاسرين من هذه الأزمة، هم الأشخاص الذين فقدوا منازلهم التي كانت مصدر ثروتهم الرئيسة، إلى جانب الأشخاص الذين فقدوا وظائفهم خلال الإنهيار الاقتصادي؛ ولم تتعاف سوق العمل بالكامل في “الولايات المتحدة”؛ حتى منتصف عام 2010؛ ويُشير “فليغستاين” إلى أن هذا الأمر قد ساهم بشكلٍ كبير في تكريس عدم المساواة في الدخل بـ”الولايات المتحدة” بعد الأزمة.