بعيدا عن صخب البرلمان وجلساته الفوضوية، وعن أصوات المدافع وغبار المعارك ضد تنظيم الدولة الإسلامية يقود الرئيس العراقي فؤاد معصوم مفاوضات سرية مع كبار القادة السياسيين في العراق لتشكيل “مجلس السياسات الاستراتيجية” لإصلاح الفوضى السياسية بعد انشقاقات تعرضت لها جميع الكتل البرلمانية، وانعكست سلبا على العملية السياسية.
فكرة قديمة جديدة
وفكرة تشكيل “مجلس سياسات استراتيجي” ليست جديدة. وظهرت للمرة الاولى عام 2010 بعد الانتخابات التشريعية المثيرة للجدل عندما فاز إياد علاوي على التحالف الشيعي للمرة الاولى منذ 2003، ولكن الأحزاب الشيعية لم تمنح السلطة الى علاوي الذي فاز بـ91 مقعدا، مقابل حصول التحالف الشيعي على 89 مقعدا. وتمكنت بدعم من إيران من الحصول على السلطة مقابل منح علاوي منصبا سياسيا كبيرا.
ولكن علاوي الذي تحالف مع الأحزاب السنية آنذاك، رفض منصب رئيس البرلمان، بينما كان منصب رئيس الجمهورية من حصة الكرد، وهنا اتفقت القوى السياسية على تشكيل “مجلس سياسات استراتيجية” برئاسة إياد علاوي، ووظيفته مراقبة أداء السلطات العليا في العراق، ولكن اعتراضات حول عدم دستورية المجلس أجبرت علاوي على رفضه، وانتهى المشروع من دون تنفيذ.
معصوم يتمنى تشكيل مجلس للسياسات
وبعد تشكيل اول حكومة عراقية بعد احتلال الدولة الإسلامية ثلث مساحة البلاد في صيف 2014، قال الرئيس العراقي الجديد فؤاد معصوم خلال خطبة توليه المنصب انه يتمنى تشكيل مجلس سياسي استراتيجي يضم قادة البلاد، لم يفهم احد سبب رغبة معصوم في تأسيس هذا المجلس، وتجاهلت الأحزاب ذلك، ولكن الآن أصبح الجميع شيعة وسنة وكرداً، مقتنعين بأهمية المجلس.
ويقول مصدر سياسي رفيع مقرب من الحكومة لـ”نقاش” إن “الرئيس فؤاد معصوم أكمل منذ ايام مفاوضات سرية مهمة مع غالبية قادة الأحزاب السياسية في البلاد في شأن تأسيس مجلس السياسات الاستراتيجي، والجميع رحب بالفكرة باستثناء بعض الأحزاب الصغيرة”.
ويضيف أن “المقترح يتضمن ان يكون المجلس برئاسة رئيس الجمهورية فؤاد معصوم وعضوية رئيس الوزراء حيدر العبادي ورئيس البرلمان سليم الجبوري ورئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني ورئيس “ائتلاف دولة القانون” نوري المالكي، ورئيس ائتلاف “متحدون” أسامة النجيفي ورئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي والزعيم الشيعي الشاب مقتدى الصدر”.
هيئة استشارية
وسيكون المجلس بمثابة هيئة استشارية تناقش الأزمات السياسية والأمنية الكبيرة التي تواجه العراق مع جميع القادة دون استثناء، ومنع قيام أي سلطة في البلاد باتخاذ قرارات بشكل فردي، وبالتالي فإن المهمة الأساسية للمجلس ستكون إنقاذ البرلمان من الفوضى التي تسيطر عليه منذ شهور، وتمنعه عن أداء واجبه.
وبدأ البرلمان منذ نيسان/ابريل يتداعى امام الفوضى. وتحولت جلساته الى تبادل للشتائم والاتهامات بين النواب، ووصل الأمر في بعض الاحيان الى التشابك بالايدي والضرب المتبادل بعد انشقاق اكثر من مئة نائب عن احزابهم ليطردوا رئيس البرلمان سليم الجبوري من منصبه، واختاروا شخصا اخر بدلا عنه، ولكن تدخلا أميركيا وإيرانيا اعاد الامور الى نصابها.
ولكن الازمة البرلمانية تفاقمت في الشهر التالي عندما اقتحم آلاف المتظاهرين من اتباع الزعيم الديني مقتدى الصدر مبنى البرلمان داخل المنطقة الخضراء مطلع ايار/مايو احتجاجا على الكتل السياسية المنشغلة بصراعاتها ومصالحها مقابل إهمال مطالب المتظاهرين منذ شهور.
تباينات مواقف الفرقاء السياسيين
فالأحزاب الشيعية الكبيرة في “التحالف الوطني”، وهي “دولة القانون” و”الأحرار” و”المواطن” منقسمة الى فريقين.
ويضم الفريق الأول “المواطن” بزعامة عمار الحكيم و”الأحرار” بزعامة مقتدى الصدر، والثاني يضم “ائتلاف دولة القانون” بزعامة نوري المالكي. وينقسم الفريقان حول الدور الإيراني في العراق والتقارب مع السنة والخلافات مع الكرد.
أما الأحزاب السنية في “تحالف القوى الوطنية” التي تضم كتلة “متحدون” (23 مقعدا برلمانيا) و”العربية” (9 مقاعد) و”ائتلاف العراقية” (23 مقعدا) فليست لديها مواقف واحدة. وغالبا ما ينتقد منتسبوها بعضهم البعض وكأنهم خصوم وليسوا حلفاء. ويظهر ذلك واضحا في الازمة التي اندلعت قبل أيام قليلة بين رئيس البرلمان سليم الجبوري، ووزير الدفاع خالد العبيدي وكلاهما من السنة وينتميان الى “تحالف القوى الوطنية”.
وينطبق الشيء ذاته على الكرد.
وكتلة “التحالف الكردستاني” التي استطاعت الصمود امام القوى الشيعية والسنية في البرلمان طيلة سنوات، باتت الان منهارة، اثر الخلافات التي برزت بين الحزبين الكرديين “الاتحاد الوطني الكردستاني” بزعامة جلال طالباني، و”الحزب الديمقراطي الكردستاني” بزعامة مسعود بارزاني.
ووصل الخلاف حتى داخل الحزب الواحد. وقبل ايام انتقد أعضاء في “الاتحاد الوطني الكردستاني” زوجة زعيم الحزب هيرو طالباني، وأعلنوا رفضهم للسياسات التي تتبعها في قيادة الحزب.
وخلقت هذه الخلافات واقعا سياسيا خطرا في العراق. فالدستور الذي ينص على ضرورة مشاركة الجميع في حكم العراق ويجب اتخاذ القرارات والتصويت على القوانين المهمة بالتوافق السياسي، أصبح الآن مستحيلا.
فشل برلماني
وبسبب ذلك يفشل البرلمان منذ شهور في إقرار قوانين مهمة، بينما كانت هذه المهمة أسهل قبل سنوات عندما كانت الكتل السياسية قوية، والنواب سواء كانوا سنة ام شيعة ام كردا، يدافعون عن أهداف احزابهم حتى النهاية عند حصول خلافات.
وأنهى البرلمان في آب/أغسطس نصف دورته التشريعية البالغة أربع سنوات. وتكشف البيانات المنشورة على الموقع الالكتروني للبرلمان نتائج مثيرة لكنها سلبية. فالبرلمان ناقش خلال السنتين الماضيتين 275 قانونا، ولكنه لم يتمكن من اقرار سوى 87 فقط، اي انه أنجز فقط ثلث القوانين.
وتشير الإحصاءات الى ان 188 قانونا يحتاج فقط إلى التصويت، ولكن الكتل السياسية فشلت في ذلك.
ويقول النائب عن كتلة “المواطن” محمد اللكاش ان “الوضع في العراق يحتاج الى تأسيس مجلس سياسات استراتيجي لمساعدة الحكومة في مكافحة الفساد وتفعيل القوانين المعطلة في البرلمان عبر التوافق بين القادة الكبار بعيدا عن الحرب الإعلامية الجارية بين السياسيين”.
ويضيف اللكاش أن “الانتصارات التي حققتها قوات الامن العراقية ضد داعش تحتاج الى دعم سياسي والعمل على انهاء الخلافات بين الكتل في البرلمان، والمجلس السياسي الاستراتيجي سيعمل على حل الخلافات بين القادة خلال اجتماعات يجلسون حول طاولة واحدة”.
وأعلنت جميع القوى السياسية من حيث المبدأ تأييدها لتشكيل “مجلس السياسات الاستراتيجي”، باستثناء الزعيم الشيعي مقتدى الصدر المناهض للحكومة والبرلمان.
وقال في بيان تعليقا على المفاوضات الجارية لتشكيله، ان “السياسيين الفاسدين لا يصدر عنهم إلا الفساد”.
مفاوضات التأسيس في بدايتها
وما تزال المفاوضات في البداية لتأسيس هذا المجلس، ولا يمكن معرفة المواقف الحقيقية للأحزاب السياسية بشأن “المجلس السياسي الاستراتيجي” الا بعد الإعلان عنه بشكل رسمي.
ويقول المحلل السياسي زياد احمد “هناك كتل سياسية ستقول ان المجلس ليس دستوريا ويتعارض مع القوانين، فيما ستقول كتل اخرى ان المجلس محاولة لإنقاذ المحاصصة الطائفية”.