خاص : ترجمة – سعد عبد العزيز :
في الـ 19 من تشرين ثان/نوفمبر ستحتفل مصر وإسرائيل بمرور أربعة عقود على الزيارة التاريخية التي أجراها الرئيس الراحل “أنور السادات” للقدس, والتي ألقى خلالها خطاباً أمام الكنيست وفيه دعا إلى إنهاء الحروب ووضع حد للمعناة وبدء صفحة جديدة من المودة والحرية والسلام.
واليوم بالرغم من مرور 40 عاماً علي الزيارة إلا أن الجدل ما زال مستمر بشأن جدواها ونتائجها. ولقد نشر “مركز دراسات الأمن القومي الإسرائيلي” مقالاً للباحثين: المصري “مؤمن سالم” والإسرائيلي “أوفير فنتر”؛ تحدثا فيه عن مستقبل السلام المصري مع إسرائيل وعن التحولات في مصر وتداعيتها على العلاقات بين القاهرة وتل أبيب.
وتحدث الباحثان عن أسباب فتور العلاقات بين الدولتين والتغيرات الإيجابية التي تطرأ حالياً على مواقف الشباب في مصر تجاه إسرائيل منذ ثورة الـ 25 من كانون ثان/يناير عام 2011، كما تناولا المعوقات التي لا تزال تمنع تقدم السلام في الوقت الحالي أيضاً. ويرى الكاتبان المصري والإسرائيلي أن الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة تجعل الفرصة سانحة أمام القاهرة وتل أبيب لتعزيز العلاقات في العديد من المجالات, غير أن تحقيق ذلك مرهون ببلورة خطة جديدة للسلام؛ بحيث يمكن استغلال علاقات الثقة القاصرة على المجال الأمني لدفع مجالات تعاون أخرى وخلق آفاق جديدة للتعاون – خارج الإطار الحكومي – بين مواطني الدولتين.
علاقات محدودة..
يقول الباحثان: مع اقتراب الذكرى الأربعين لمبادرة السلام التاريخية التي أطلقها الرئيس الراحل “أنور السادات” فإن أسس السلام التي أرساها خلال زيارته للقدس ما زالت راسخة ومتينة، لكن السلام لا زال “فاتراً” لأنه بين الحكومتين وليس بين الشعبين.
إن الآمال، خاصة في إسرائيل، كانت تنعقد على أن اتفاق السلام سيؤدي إلى تحقيق السلام “الدافئ” بين الشعبين المصري والإسرائيلي. لكن السلام في واقع الأمر ظل “فاتراً”.. صحيح أنه منح الدولتين أكثر من مجرد “سلام سلبي” متعلق بوقف إطلاق النار, لكنه أقل من الـ”سلام إيجابي” الذي يتضمن المصالحة والقبول المتبادل والتعاون المشترك بين الدولتين والشعبين. حيث لقد اكتفت الدولتان بالتنسيق الأمني بين الجيشين وبعلاقات دبلوماسية وتعاون اقتصادي محدود. أما العلاقات المتبادلة بين الشعبين, مثل التعاون الاقتصادي الواسع والتبادل الثقافي فكانت ولا تزال بعيدة المنال..
والآن في عهد “الأجيال القادمة” – التي كان قد ذكرها “السادات” في خطابه – ينبغي أن نبحث سبب عدم تحقق التحولات المنشودة حتى الآن, وهل في إمكان الطرفين تحقيق ذلك, وكيف السبيل ؟.. تلك التساؤلات تحمل أهمية كبرى لاسيما في عهد الرئيس “عبد الفتاح السيسي”, في ظل التنسيق الأمني المشترك في شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة, بالإضافة إلى علاقات الثقة التي نشأت بين القيادات السياسية والعسكرية في الدولتين.
بالإضافة إلى الاهتمام المتبادل بإجراء تعاون اقتصادي لا سيما في مجال الطاقة، بعد اكتشافات الغاز في شرق البحر المتوسط، وتراجع اهتمام الرأي العام المصري بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني – لا سيما بين الشباب – في ظل الهزات الداخلية والإقليمية التي شغلت الرأي العام خلال السنوات الأخيرة.
إن تلك الظروف تتيح لمصر وإسرائيل الفرصة المناسبة لبدء صفحة جديدة في علاقاتهما, لكن ذلك يتطلب بلورة سياسة رسمية مصرية – إسرائيلية تساعد على خلق آفاق التعاون المشترك في مجالات عدة بين مواطني الدولتين واستئناف عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين.
الوصف الأمثل للسلام بين القاهرة وتل أبيب..
يرى الباحثان المصري والإسرائيلي أن الوصف الأنسب للسلام بين إسرائيل ومصر هو “السلام الفاتر”، وهو ما أطلقه وزير الخارجية المصري “بطرس غالي” في أواخر عام 1982، لوصف العلاقات المحدودة والعدائية أحياناً التي تربط البلدين. لكن بعض المؤرخين يثيرون جدلاً قوياً حول مجرد وصف السلام بين مصر وإسرائيل بأنه “سلام فاتر”، وأيضاً حول الظروف التي بسببها اكتسب هذا الوصف.
إن السلام الإسرائيلي المصري كان يوافق طيلة السنوات صفة “السلام الفاتر”, لكن هناك من قال إنه منذ العقد الثاني لحكم “مبارك” لم يعد ذلك الوصف يعكس تماماً تطور العلاقات بين الدولتين, ومن الأفضل وصفه بـ”السلام الاستراتيجي”؛ الذي يعكس تغيراً إيجابياً تدريجياً للانتقال من “السلام الفاتر” إلى “السلام الاستراتيجي”, وبدا هذا التغير واضحاً في بناء علاقات الثقة بين المؤسسات السياسية والأمنية في كلا البلدين وفي توسيع حجم التجارة المتبادل.
غير أن الباحثين يؤكدان على أن وصف “السلام الفاتر” لا يزال هو الأنسب، والذي ينطبق على نمط العلاقات بين الدولتين حتى في الوقت الحالي. حيث أن القيمة الاستراتيجية للسلام واستقراره لا تُقاس فقط بالتنسيق الأمني التكتيكي أو بالعلاقات السياسية والاقتصادية التي تحتكرها القيادات الرسمية, ولكن أيضاً بطابع العلاقات القائمة على المستويات الشعبية والمدنية خارج الإطار الرسمي. ويأتي مفهوم السلام “الفاتر” إذاً من الإطار الضيق لعملية “تطبيع العلاقات”، التي تعني إقامة مجموعة من علاقات التعاون والسلام في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية؛ سواء كانت على المستوى الرسمي أو غير الرسمي.
قيود مصرية..
بحسب المقال, فإن مصر حرصت منذ البداية على عدم ترك العنان للتوسع في تطبيع العلاقات مع إسرائيل، فحددت إطار علاقات لا يمكن الخروج عنه. وأدى هذا الإطار من العلاقات إلى حفظ ثمار السلام بما في ذلك الحفاظ على قنوات التواصل الدبلوماسية والأمنية وحرية المرور عبر قناة السويس، إلى جانب خطوط التواصل بين الدولتين برياً وبحرياً وجوياً مع إقامة علاقات تجارية وسياحية محدودة. مما قيد العلاقات بين مواطني البلدين وبين رجال الأعمال وشركات القطاع الخاص, بل تم فرض عقوبات على بعض المصريين الذين حاولوا الخروج عن تلك القيود, التي حالت دون سفر المواطنين المصريين إلى إسرائيل دون تصريح أمني خاص, ودون تطور العلاقات بين الجماعات والأفراد في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والعلمية والثقافية والرياضية. ولقد أدى هذا الواقع إلى عرقلة عملية التصالح وحسن الجوار المطلوبين لكسر الجمود بين الشعبين وبناء السلام ودعم الاستقرار.
إسرائيل سبب عرقلة السلام..
يرى الكاتبان أن مصر ربما تكون هي من فرض هذا الطابع “الفاتر” للسلام بين البلدين, ولكن هناك جدل حول مدى مسؤولية الدولتين عن فتور العلاقان. فلقد أكد السفيران الإسرائيليان في القاهرة بين عامي 1981 – 1988 وعامي 1988 – 1990، وهما “موشيه ساسون” و”شمعون شامير”، أن أفعال الحكومة الإسرائيلية خلال السنوات الأولى للسلام – مثل ضم القدس الشرقية وهضبة الجولان وتوسيع الاستيطان والادهى من ذلك شن حرب لبنان الأولي – قد أحرجت النظام في القاهرة أمام الرأي العام المصري والعربي.
السلام مع إسرائيل في عيون الشباب المصري..
يرى الكثيرون أن عداء الرأي العام المصري تجاه إسرائيل يمثل عائقاً رئيساً أم تعزيز السلام بين البلدين, لكن هذا الرأي يحتاج الآن للمراجعة؛ لا سيما فيما يخص جيل الشباب تحت سن الثلاثين الذين يشكلون 60% من مجموع سكان مصر. لقد واجه “السادات”، بعد زيارته للقدس، معارضة شديدة من جانب “الإخوان المسلمين” والأحزاب الناصرية والماركسية داخل مصر؛ وكذلك من “جبهة الرفض العربية” بقيادة العراق وليبيا وسوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية. فسياسته التصالحية أدت إلى قيام معارضة واسعة في الداخل والخارج, مُستندة إلى الأفكار القومية والعروبية والدينية الإسلامية، وأعلنت عن مناهضتها للسلام مع إسرائيل, فضلاً عن تطبيع العلاقات.
ولكن منذ التسعينيات أصبح السلام مع إسرائيل هو الخيار الاستراتيجي المُعلن من جانب “منظمة التحرير الفلسطينية” ومعظم الدول العربية والجامعة العربية, غير أن ذلك لم يؤثر على الموقف الشعبي العام في مصر. وباستثناء فئة من الكتاب والمفكرين المنتمين للتوجه الليبرالى أو اليساري – الذين كانوا مستعدين لدفع ثمن شخصي والتعرض للعقاب من جانب نقاباتهم المهنية – فلم يقم أي فصيل سياسي أو اجتماعي هام بتبني عملية السلام مع إسرائيل أو حتى بالتصادم مع مناهضي التطبيع أو بنشر قيم التصالح والتعايش السلمي وقبول الآخر.
والسبب في ذلك كان مزدوجاً: أولاً؛ أن النظام المصري منع تشكيل أي معسكر سلام شعبي مستقل يعمل خارج الإطار الحكومي الرسمي. والعجيب أن ذلك النظام الذي أبرم اتفاق السلام مع إسرائيل كان هو نفسه الذي سمح لمناهضي السلام بالتنكيل بأولئك الذين أشادوا علانية بالسلام والتطبيع وحاولوا بناء قنوات اتصال مستقلة مع الإسرائيليين. وثانياً؛ فإن الكثيرين من النشطاء والمفكرين المنتمين للتيار الليبرالي، والذين كانوا هم المرشحون الطبيعيون لقيادة المعسكر المصري، الذي يرفع لواء “السلام الديمقراطي”، قد اختاروا تبني موقفاً معاكساً. فبدلاً من أن يدعوا لتحقيق السلام إذا بهم يزعمون أن النظام الديمقراطي المنتخب سيتيح لمصر الوقوف في وجه إسرائيل بحزم أكثر من النظام غير المنتخب.
لكن الثورتين الأخيرتين اللتين شهدتهما مصر في الـ 25 من كانون ثان/يناير 2011؛ والـ 30 من حزيران/يونيو 2013، قد خلقتا حراكاً جديداً يحمل في طياته إمكانية حدوث تغيير تاريخي إيجابي لدى الرأي العام المصري – لا سيما بين الشباب – فيما يخص السلام والتطبيع مع إسرائيل. علماً بأن التحولات الأخيرة في مصر أدت إلى قيام “ثورة ثقافية” داخل المجتمع المصري, مثل حالات خلع الحجاب وارتفاع نسبة الملحدين والإعلان عن حالات الشواذ من الجنسين. بالإضافة إلى تآكل الهوية العربية والإسلامية لصالح الهوية المصرية والإنسانية. وتحرُر الشبان والفتيات من القيود الأسرية, وإقامة العلاقات الجنسية قبل الزواج والأكثر من ذلك انهيار الحكم الأبوي والسلطوي بكل جوانبه الاجتماعية والسياسية والدينية.
الشباب المصري يميل للتوجه العلماني الليبرالي..
أدت الثورتان الأخيرتان في مصر – بحسب الباحثين المصري والإسرائيلي – إلى خلق جيل من الشباب ذوي التوجه الليبرالي العلماني, الذي لا يخشى مواجهة الآباء والاعتراض على مسلمات الماضي، حتى وإن كانت قومية أو دينية أو اجتماعية. وهذه التحولات الاجتماعية والثقافية تلقي بظلالها على عقلية جيل الشباب في مصر، حتى فيما يتعلق بالعلاقات مع إسرائيل.
إن جيل الآباء غرس في الأبناء كراهية إسرائيل عبر تلقين شعارات القومية العربية، التي كانت تبثها أجهزة الإعلام والدعاية الناصرية في الخمسينيات والستينيات. وتلقى الأبناء تلك الشعارات دون نقاش أو تفكر من منطلق الاحترام لمقام الآباء. لكن تلك الأجواء تغيرت تماماً مع تدهور الحالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للشباب، الذين رأوا أن الآباء يخنعون للسلطة ويخشون مواجهتها بل إنهم يتحدون مع السلطة ضد أبنائهم. فتمرد جيل الشباب على نظام الحكم والمناصرين له حتى لو كانوا آباءهم.
وهذا الصدام بين الأجيال دفعت الشباب لمراجعة كل الموروثات الاجتماعية والفكرية بما في ذلك كراهية إسرائيل, لأن جيل الشباب أصبح يتبنى مواقف واقعية وعقلانية مقارنة بأبائهم الذين تربوا على الدعاية الكاذبة والتحريضية.
معوقات تحسين العلاقات بين القاهرة وتل أبيب..
إن ظهور جيل الشباب العلماني والليبرالي في مصر، الذي يرفض القومية العربية والنظام الإسلامي ويتقبل السلام مع إسرائيل, بات يمثل فرصة جيدة لتعزيز العلاقات بين الشعبين المصري والإسرائيلي. غير أن تماسك جيل الشباب ليصبح كياناً يمتلك النفوذ والتاثير يُعد صعباً للغاية لأنه يواجه ثلاثة معوقات رئيسة:
المعوق الأول: يتمثل في الرغبة المستمرة للنظام المصري في احتكار إدارة علاقات السلام مع إسرائيل. والمعوق الثاني: هو التضامن المصري مع القضية الفلسطينية.
والمعوق الثالث: يكمن في الهوة السحيقة بين مواقف معسكر السلام الليبرالي في مصر والحكومة اليمينية الحالية في إسرائيل بقيادة “بنيامين نتنياهو”.
وفي الختام يطالب الباحثان بضرورة إزالة تلك المعوقات، كي يمكن اغتنام الفرصة الحالية وبلورة صيغة جديدة للسلام بين الدولتين تقوم على التعايش المتبادل وقبول الآخر والعلاقات بين الشعبين.