16 ديسمبر، 2024 2:33 م

فيروسات الهيمنة الأجنبية في البيولوجيا والسياسة

فيروسات الهيمنة الأجنبية في البيولوجيا والسياسة

خاص: بقلم- د. محمد أشرف البيومي*

في غابات كوستاريكا يعيش نوع من العنكبوت الذي يتصرف بشكلٍ غريب جدًا بعد مهاجمة الدبور له. عندئذٍ يترك العنكبوت شبكته ويبني شبكة مختلفة تمامًا عنها فهي ليست له وإنما للدبور الذي يعيش داخله العنكبوت. يمَّثل هذا السلوك كما ذكرت إحدى الدوريات العلمية في مجال البيولوجيا (Journal of Experimental Biology) في كانون أول/ديسمبر 2012، نموذجًا ليس نادرًا لتحكم بعض الكائنات في عقل كائنٍ آخر. والجديد في الأمر هو كيفية التحكم فقد تبيَّن أن بعض جينات الدبور تنَّتج بروتينات تغيَّر من سلوك العنكبوت وتسَّخره لمصلحة الدبور الذي يموت بعد أداء خدماته. في حالاتٍ أخرى يتدخل الكائن المهيَّمن (السيد) في قدرة العقل أو الجهاز العصبي للكائن المتحكم فيه (التابع) فيفقد الأخير قدرته على التمييز بين الأشياء كالنور والظلام مثلًا مما يؤدي لموته. يرى في الصورة المأخوذة من الدراسة والمنشورة في صحيفة الـ (نيويورك تايمز) مؤخرًا، نملة تحكم فيها نوع من الفطر (Fungus) جعل فكها مثبتًا على ورقة الشجرة وتموت في موقعها مما يسَّاعد الفطرعلى التكاثر بكفاءة.

والسؤال: ما علاقة هذا الاكتشاف بالمشاكل التي نُعانيها في بلادنا وكافة البلاد التي تتحكم فيها أو تسعى للتحكم فيها قوى الهيمنة الأجنبية ؟

العلاقة قوية وجديرة بالتفكير الجاد. فلنتصور أن دولة من دول الهيمنة مثل الكيان الصهيوني أو أميركا تُريد أن تتحكم في دولة من دول العالم الثالث فتحت قياداتها أبواب التبعية على مصراعيها ولنسَّمى هذه البلد سيكو سيتا (هذا الاسم ابتدعه د. يوسف عزالدين عيسى ليُعبّر عن نقده اللاذع لأمورٍ محلية) أو أن نظامٍ مستَّبد يسّعى للهيمنة على الشعب. إحدى الوسائل شبيهة بالتي يستعملها الدبور بيولوجيًا ولنقل نشر فيروس يفرز عن طريق بعض جيناته بروتينات تتحكم في عقول “نخبَّة سيكوسيتا” وشريحة مؤثرة من شعبها بحيثُ تفقد هذه النخبة بصيرتها وتجعل سلوكها غريب يتسم بالفعل قبل التفكير وإبداء الرأي قبل التقييّم وأحيانًا تجنب اتخاذ مواقف ضرورية بحجج مختلفة والأخطر اتخاذ مواقف تخدم أعدائها وتضر بأهدافها. تبقي قلة من المثقفين محصَّنة ضد هذا الفيروس لالتزامها القوي بالثوابت الوطنية والإنسانية واعتمادهم المعرفة طريقًا للاقتراب من الحقيقة ولا يبقى أمام المهيَّمن إلا سجن هؤلاء أو تحيّيدهم بطريقةٍ أو أخرى. وحتى هؤلاء فحصّانتهم ليست دائمة إذا لم تدُعم باستمرار بالنضال الدائم مثل الحقن المَّعززة Booster shots.

وحسّب جرعة البروتين الناتج عن جينات الفيروس الدخيل سنَّشاهد تصرفات تثُير العجب الشديد والاستغراب الكبير: سنجد البعض يُردد مقولات غريبة مثل “السلام خيارنا الاستراتيجي” ؛ “أميركا وسيّط أو شريك أمين في السلام”؛ “علينا أن نسعى لتحييّد أميركا”؛ “مناورات الجيش المصري المشتركة مع الجيش الأميركي المسَّماة بمناورات النجم الساطع تخدم الأمن القومي المصري”؛ “أهلي وعشيرتي”؛ “لن أهدأ بالًا حتى يسقط الرئيس السوري”؛ “نُطالب بالتدخل الأجنبي أو غطاء جوي لحماية المدنيين”؛ “نعمل أيه فالبديل الوحيد هو تدخل عسكري من قبل الناتو في سورية مثل ليبيا والعراق”؛ “أطالب باستدعاء السفير المصري من سورية”؛ “تحققنا من غياب مسلحين بسورية والذي يقتل هو النظام الدموي”؛ “الإخوان المسلمون رافد من روافد الثورة”؛ “الإخوان مُلتزمون بالديمقراطية”؛ “لماذا نرفض الديمقراطية إذا جاءت إلينا من أميركا ؟”؛ “مصر أولًا” و”الأردن أولًا” و”الديمقراطية أولًا”؛ “مش وقته الكلام عن القضايا القومية والاستقلال لوطني”؛ “سلامنا سلام الشجعان”؛ “سينا رجعت لينا ومصر اليوم في عيد”؛ “لا يمكن التغيّير إلا بضغوط خارجية”؛ “لا بُدّ من الانخراط في العولمة قبل فوات الأوان”، “الخصخصة واقتصاد السوق والانفتاح الاقتصادي والقروض من صندوق النقد والبنك الدولي هو طريق الإصلاح”؛ “عايزين أميركا تزود شوية كمية الجزرة عندما تُطبق شعار: “العصا والجزرة”؛ “خريطة الطريق وأوسلو ستؤدي للسلام”؛ “يكفي أوسلو أنها أعادت السلطة الفلسطينية إلى الضفة وغزة”؛ “أميركا تُريد الرخاء والتقدم الاقتصادي والعلمي لمصر”؛ “محتارين في الاختيار بين الاستبداد والهيمنة الأجنبية ولكن عمليًا نُفضيل التدخل الأجنبي على أن يكون في إطار الشرعية الدولية”؛ “الضرورات تبُيح المحظورات”؛ “مُلتزمون بكامب دافيد والكويز؛ ومرسي يبعث لبيريز خطابًا رسميًا معنون بصديقي العظيم ويوقعه بصديقكم الوفي وبه تمنياته لبيريز بالسعادة ولبلاده بالرغد (بلاد بيريز هي إسرائيل أي الكيان الصهيوني المغتصب) وزميل مرسي يهتف: “على القدس رايحين، شهداء بالملايين”. “مفيش حاجة اسمها هيمنة علمية”؛ “ما دام حاصل على جائزة نوبل يبقى صح وبيفهم في كل حاجة ويبقى اختيار ممتاز لرئاسة البلد”؛ “الخلافة هي الحل وطظ في مصر”؛ “قبلنا تعييّن مبارك لنا في مجلس الشورى، مش النبي قبِل الهدية !”؛ “ما المانع من زيارة السفيرة الأميركية ومسؤولين أميركان من آنٍ لآخر”؛ “التمويل الأجنبي مش عيب، والدولة مش بتاخد تمويل، والمنظمات الممولة مش بتدافع عن حقوق الإنسان”؛ “سورية بقالها 21 شهر ولكنني أفضل التريث في بلورة المواقف جيد ففي العجلة الندامة”؛ “فلنحطم أبوالهول مش صنم يبقى هو اللي بيمنع البركة تحل على مصر”؛ “أي خطأ نرتكبه هو مس من عمل الشيطان”؛ “مصر وسيّط بين حماس وإسرائيل”؛ “الجزيرة الممثل الشرعي الوحيد للإعلام العربي ومصدر الحقيقة”؛ “مش فاروق طلع راجل وطني والريان رجل خير”؛ “علي جامعة الدول العربية تعليق عضوية سورية، وطلب حماية الناتو للمدنيين في ليبيا”؛ “كفاية كلام وتهليل كل حاجة معروفة وهيا للعمل”. هذه بعض نتائج جرعة الإصابة بالفيروس الفكري الضار.

هكذا أصبح حال بعض قيادات النخبة في سيكو سيتا: أحدهم يقول أنا في اللجنة الوطنية وبعد قليل لا أنا خرجت منها، وآخر يُعلن أؤيد مرسي وحانتخبه لأنه شارك في الثورة، سنقاطع الاستفناء، لا غيرنا رأينا لما نشوف رأي السفيرة الأميركية، أيه الحديث عن كامب دافيد مش وقته، أزاي نهتم بليبيا أو سورية أحنا في أيه والا فأيه ؟ وفي سيكو سيتا الإقليم الشمالي: لا حوار إلا بعد سقوط بشار أو بشروط تعجيزية أما إذا أراد السفير الأميركي أن يتحاور فأهلًا وسهلًا، قطر والسعودية وتركيا وحلف الناتو وأميركا وإسرائيل أصدقاء سورية ومعهم مرسي والحريري كمان وهم خصوصًا السعودية وقطر ضد الاستبداد ويؤمنون إيمانًا راسخًا بالديمقراطية ورخاء الشعب السوري.

وعندما يكون الفيروس أكثر نشاطًا نسمع العجب العجاب؛ إيه المانع من الاستفادة من تقدم إسرائيل في مجال العلم والتعاون معها؛ عايزين سلام يا جماعة كفانا حروب عايزين نعيش فلنزور إسرائيل حتى نقتحم معركة السلام، كفاية عبارات خشبية فلنتصالح مع إسرائيل ونوضب أمورنا مع أميركا، سيبونا بقه من فلسطين مش أولها فلس وآخرها طين وهما مش باعو أرضهم؛ إيه المانع من قبول جائزة من الكيان الصهيوني واستلامها من عزرا وايزمان.

في الخلفية يري بعض المراقبين ابتسامات مستخدمي آليات التحكم الخبيثة، فهم بُشاهد مدى نجاح عملهم وكيف أن البعض في سيكو سيتا يقوم ببناء عش العنكبوت المناسب لأميركا ولإسرائيل وليس لحماية الوطن.. العراق يُهاجم إيران فيضعف الاثنان، والقاعدة الإرهابية تُحارب الجيش الوطني السوري ملعون الاتنين، المسلحين يدمرون معدات الجيش العربي ودفاعاته والبُنية التحتية لسورية ويعيش أهل سورية في شقاء ويبتسم الإسرائيليون الذين استخدموا أدوات تحكم ضارة شبيهة ببروتينات الهيمنة البيولوجية.

وعندما يكون تأثير الفيروس صغير نسبيًا يتدارك البعض خطأهم ويعلنون ندمهم وهذا يتطلب شجاعة لا شك ولكن سرعان ما يعود تأثير الفيروس الكامن. والسبب أنهم لم يبحثوا أسباب خطأهم الأول ومصادره الفكرية والذاتية. فالقضاء على الفيروس أو إبطال مفعوله يتطلب التأمل والتفكير والبحث والتمعن الجماعي قبل اتخاذ المواقف كما يحتاج لنقاش موسع وجاد وملتقى فكري معرفي يقسي من مخاطر الفردية والذاتية والغرور. فلا بديل عن اعتماد منهج المعرفة والبحث عن الحقائق والالتزام بالمباديء الثابثة والأصيلة حتى تكون مواقفنا صائبة.

لقد كتبت منذ فترة وجيزة دراسة حول البحث عن الحقيقة، أرى من المفيد تلخيص بعض ما جاء فيها: “إن البحث عن الحقائق في المسائل السياسية والاجتماعية لا يختلف كثيرًا من حيث المنطق عن المنهج الذي نتبعه في العلوم الطبيعية. هناك توجهان أساسيان للآقتراب من الحقيقة أحدهما هو إعمال المنطق المسَّتند إلى خبرة معرفية موثقة متعددة الأبعاد (تاريخيًا وجغرافيًا واستراتيجيًا) والآخر هو الاستناد على معلومات من مصادر إعلامية وتقارير بحثية لها انحيازات مختلفة ومعروفة مع الإقرار بأن هذين التوجهين متفاعلين مع بعضهما.

ومما يُزيد من احتمال البُعد عن الحقيقة والانتهاء باستنتاجات وهمية تؤدي إلى مواقف خاطئة وضارة هو الانجرار وراء طرف إعلامي واحد وعدم مراجعة المواقف والتشبث بها دون موضوعية.

كذلك فإن من أهم طرق الاقتراب من الحقيقة هو اجتناب أساليب معينة نوجزها فيما يلي:

تجزيء الموضوع واختزاله في بُعدٍ واحد بدلًا من النظرة الشاملة التي تأخذ في الاعتبار أبعاد متعددة وضرورية. إن توجه تجزيء القضية إلى عناصر منفصلة وغير متفاعلة مع بعضها ثم اختزالها في جزئية معينة وغالبًا مقصودة تؤدي إلى إهمال البُعد التاريخي والجغرافي والوظيفي، بالإضافة إلى إهمال التفاعل بين الأجزاء فالقضية لا يمكن أن تكون مجرد جمع عددي للأجزاء دون تفاعل هام بينها ومن ثم نصل لاستنتاجات ومواقف مخَّلة. هذا الآسلوب مثالي لقوى الهيمنة التي تختزل الأمور في بُعدٍ واحد يساعدها في تحقيق أهدافها ويخدع كل من يركز فقط على البُعد الذي اختارته بتعمد. أما اتباع النظرة الشاملة المتكاملة فيوضح الأمور ويُقربنا من الحقيقة.

نزعة الفصل بين العوامل الداخلية والخارجية وهو شكل من أشكال التجزيء الذي نتحدث عنه. فمن المناقشات السخيفة والمتكررة إدعاء أن الحديث عن عوامل خارجية هو بمثابة “تعليق مشاكلنا علي شماعة الغير”. وفي أقوالٍ أخرى إتباع ما يسَّمى بنظرية المؤامرة.

الميل إلى ثنائية الاختيار طالما استخدمت قوى الهيمنة الداخلية والأجنبية هذا المنهج للتضليل ولطالما وقع الكثيرون في هذا الفخ فمثلًا “إما مبارك أو الإخوان المسلمين”؛ ومثل آخر: “إما القبول بالاستبداد أو استجلاب الاحتلال”

غياب التقييم النقدي والذي يسمح بقبول المعلومة أو المصطلح دون اختبار أو التساؤل عن مصادرها وينتهي بتحديد الرأي والتعصب له بناء عن انطباعات. فكثيرًا ما نقبل مقولات ومفاهيم دون تدقيق أو حتى تساؤل لبضع ثواني حول مدى صحتها أو دقتها والهدف من صياغتها وتوقيت نشرها. وكثيرًا ما يكون هذا النهج مصاحبًا لتعميمات ليس لها نصيب من الدقة.

كما أعتقد أنه من الضروري الحديث اللاحق حول وسائل الهيمنة، ولكن يمكن أن نذكر عناوين بعض هذه الوسائل: التمويل الأجنبي للمنظمات المدنية…، واستقطاب مثقفين وتفتيت واحتواء غيرهم….، فرض تبعية اقتصادية عن طريق “المعونات” والقروض…، الهيمنة الثقافية عن طريق الإعلام…، تقيّيد الحريات الفكرية والسياسية…، تجريف المجتمع من طبقة مثقفة مُلتزمة…، حرف الاهتمام عن الثقافة والمعرفة عن طريق إعلام تافه وفن رخيص وولع مرضي بالكورة والمسلسلات…، اختزال الدين في أمور بعيدة عن مكارم الأخلاق وحب المعرفة وطلب كافة أنواع العلم…، انهيار التعليم والبحث العلمي…، وضع قيود على الصناعة والعمل على تدهورها…، تأييد حكومات قامعة بصرف النظر عن نوعها السياسي مباركي أو إخواني…، التهديد الاقتصادي…، خلق ودعم كيان مدَّجج بالسلاح ومتقدم علميًا وتكنولوجيًا ليكون وسيلة للتخريب والحروب والنزاعات والتخلف (الكيان الصهيوني)…، تأجيج الفتن الطائفية…. الخ.

في مناسبة قادمة عندما يُتيح الوقت سأتحدث عن كيف أن دول الهيمنة تستخدم فيروسات الهيمنة في مجتمعاتها أيضًا حتى تتحكم فيها مع الإبقاء بإطار صوري وخادع للديمقراطية.

 

* أستاذ الكيمياء الفيزيائية بجامعة “الإسكندرية” وجامعة ولاية “ميشغان” سابقًا.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة