كما أن الفوز بعدد كبير من مقاعد البرلمان لا يعني آليا تشكيل الحكومة، فنوري المالكي يحتاج إلى عقد تحالفات ليصل النصاب المطلوب لتشكيل الحكومة الجديدة. والمشكلة التي يواجهها مع هذه الانتخابات هي أنه خسر حلفاءه وعلى رأسهم الكتلة الصدرية. فالتحالف الذي أبقى بالمالكي في منصبه في الانتخابات السابقة تفكّك اليوم ووصلت الخصومة بين حلفاء الأمس حدّ الخصومة السياسية العميقة، بل إن أحد المراجع الشيعية بشير النجفي، وهو من المراجع الأربعة الكبار في العراق، أفتى بحرمة التصويت لنوري المالكي. وبسبب تشظّي التحالف الوطني السابق يتوقّع محلّلون أن تطول فترة تشكيل الحكومة، وأن يمرّ العراق بفترة صعبة وحرجة، حتى يتمّ تشكيل تحالفات جديدة، قد تؤدّي إلى تغيير الأدوار وبروز فائزين جدد.
ويرجّح معظم المراقبين السياسيين في العراق فوز حزب المالكي بأكبر عدد من الأصوات، لكن ليس بالضرورة بالـ 165 مقعدا المطلوبين من جملة 328 مقعدا، مما سيدفع دولة القانون إلى البحث عن أطراف أخرى لتكوين ائتلاف الأغلبية الذي تحتاجه لتشكيل حكومة، دون مساعدة من المحكمة العليا، هذه المرّة، مع تجديد ولايته، واستنادا على الطريقة التي قاد بها الحكومة، خلال السنوات الأربع الماضية.
من المتوقّع كذلك أنّ يواصل المالكي تعزيز دور الحكومة المركزية، في تناقض صارخ مع طموحات كثير من العراقيين (على غرار كردستان العراق). وتثبت كل المؤشرات أنّ المالكي لم سيستمرّ في استخدام التهديدات والقوة لفرض سياسته وتجاهل مطالب المعارضة العراقية وكل المظاهرات التي خرجت تطالب بإسقاط “نظامه”. كما سيبادر حتما بتعزيز منصبه كرئيس للوزراء لضمان عدم الاطاحة به، في حال انهيار التحالفات في البرلمان.
هل سيعيد التاريخ نفسه
سيعتمد نجاح هذه الانتخابات أساسا على التغيرات الاجتماعية السياسية التي ستشملها. إذ لا يزال ملايين العراقيين، الذين توجهوا إلى صناديق الاقتراع، داخل العراق وخارجه، يتذكرون أحداث انتخابات 2010 ومخلفاتها، وهي انتخابات فرضها عليهم المسؤولون الأميركيون وقادة إيران.
عند إعلان النتائج النهائية للانتخابات، في 26 مارس 2010، تبيّن أنّ رئيس الكتلة العراقية، إيّاد علاوي قد فاز بأكبر عدد من المقاعد، متجاوزا منافسه نوري المالكي، المنتمي إلى كتلة دولة القانون، بمقعدين، وهو ما دفع رئيس الوزراء الحالي إلى عقد مؤتمر صحفي هاجم خلاله اللجنة الانتخابية المستقلة، ودعا إلى إعادة فرز الأصوات يدويا.
وتصاعدت وتيرة الاضطرابات بالعراق وحدّتها في ظلّ المراوغات السياسية التي عطّلت عملية تشكيل الحكومة لحوالي 10 أشهر، في ظلّ انعدام الأمن جراء الحرب والعنف الطائفي الذي سببته المليشيات المتطرفة. ويخشى مراقبون أن يتكرر نفس السيناريو مع انتخابات 2014، وأن يعيد التاريخ نفسه.
التدخلات الإقليمية
أكد مراقبون سياسيون أن شخصنة اللعبة السياسية بين الخصوم السياسيين تدفع العراق إلى الهاوية؛ نظرًا إلى أن دول الجوار “إيران وتركيا”، بالإضافة إلى أميركا، تحاول اللعب في الخفاء وكل جهة تريد أن يصعد رجالها إلى سدة الحكم، مما يعد مؤشرا لتزايد الفوضى والانهيار الداخلي في العراق، ويتخوف سياسيون من المؤامرات السياسية التي يدبرها الطامعون في السلطة، حيث يدعمون العناصر المخربة لاستمرار مسلسل التفجيرات الإرهابية التي يدفع ثمنها الشعب العراقي.
وتراهن هذه الأطراف الإقليمية على تغيّر المواقف في الساحة العراقية تبعا لظروف كل مكون من المكونات الثلاثة للمجتمع العراقي (السنة والشيعة والأكراد). وبكل تأكيد فإن التدخلات الإقليمية تستفيد من هذه التناقضات الداخلية بين المكونات العراقية وتلعب على حسابات الربح والخسارة من أجل مصالحها.
ولعبت طهران وواشنطن في انتخابات العام 2010 دورا رئيسيا في إعادة انتخاب نوري المالكي، السياسي الشيعي النافذ الذي يحكم البلاد منذ 2006، لولاية ثانية على رأس الحكومة الحالية في تحالف مصالح بدا اضطراريا بينهما. لكن الانسحاب العسكري الأميركي نهاية العام 2011 منح النفوذ السياسي الإيراني مساحة أكبر للتحرك ضمن العملية السياسية في العراق حتى جعل من طهران أكبر اللاعبين في بلاد خاضت معها حربا دامية بين 1980 و1988.
العراقيون يترقبون
طوى العراقيون صفحة اليوم الانتخابي الطويل الذي تحدوا فيه التهديدات الأمنية ليصوت أكثر من نصفهم في الانتخابات التشريعية، وباتوا ينتظرون نتائج يأملون أن تحقق لهم رغبتهم في التغيير.
لكن لا يتوقّع أغلبهم، وفق دراسة ميدانية أعدّها “مركز المرآة لمراقبة وتطوير الأداء الإعلامي” في العراق، أن تتمخض نتائج الانتخابات عن وضع أفضل للعراق بإحداث تغيير ملموس وتكوين برلمان جديد قادر على تحقيق وضع مستقر في بلد ممزق بالعنف والصراعات الحزبية والطائفية.
ويتصدّر الهاجس الأمني اهتمام العراقيين. ويعتبره المشاركون في الاستبيان أحد أهم التحديات التي تواجه العملية الانتخابية القادمة، والأمن هو مطلب أساسي وأولي يجب على المرشح أن يحققه حتى يطمئن الناخب. ولم تستطع حكومة المالكي السيطرة على الأوضاع الأمنية في البلاد، حيث لم تنجح الإجراءات الأمنية، التي اتخذتها الحكومة، في حماية البلاد من الانفجارات المفخخة، وحلّ معضلة الأنبار ومواجهة الجماعات الجهادية، وهو ما أصبح يمثل هاجسا كبيرا لدى العراقيين.
وتنشد اتجاهات الرأي العام في معظمها التغيير كسبب رئيسي في المشاركة الانتخابية، فضلا عن الدوافع الوطنية. وبينت الاستطلاعات أن أهم القضايا التي يريد الرأي العام من البرلمان الجديد الاهتمام بها هي مسألة الأمن ثم الفساد والبطالة، كذلك مسألة التعليم والصحة والديمقراطية وحقوق الإنسان.
تجارب كل الانتخابات السابقة التي تلت انهيار نظام البعث في العراق، رغم أهميتها، تضمنت نقاط ضعف خطيرة لم تحقق الأمن والسلام والازدهار وآمال العراقيين. فلم تعبد العمليات الانتخابية الطريق أمام ترسيخ الهوية الوطنية العراقية وإرساء ثقافة الحوار وزرع روح التآخي بين مكونات الشعب العراقي. وتتحمل النخب السياسية المتنفذة سواء في المحافظات العراقية أم في الإقليم وفي مجلس النواب العراقي والحكومة العراقية مسؤولية كبيرة في تأزيم هذه الأجواء الملتبسة والمحتقنة في البلاد، والتي تم استثمارها من قبل دوائر إقليمية لزرع الفوضى في العراق والتدخل الفظ في شؤونه.
أثبتت انتخابات 2010 –ونتائج سبر الآراء خلال الحملة انتخابات 2014- أن البلاد في مفترق طريق حاسم وأن الطائفية لا تزال تشكل تهديدا كبيرا. فمع فشل السياسيين في حل أية أزمة سياسية عبر التوزيع العادل للثروة والسلطة، يهيمن خطر الحرب الأهلية والانقسام على البلاد، وهي جميعها عوامل ساهمت في تخريب مؤسسات الدولة وقدرتها على حماية مواطنيها وسيادتها.
والعراق اليوم هو نتاج خلافات متأصلة بالبلاد منذ 2003، عندما نصّ مجلس الحكم العراقي على تقسيم السلطة على أساس معايير طائفية ودينية وعرقية. ومن ثمّ، فإنّ نجاح الانتخابات نفسها لا يمكن أن يقاس بعدد الناخبين أو النتائج المئوية، بل بالإصلاحات الاجتماعية السياسية التي ستؤول إليها بعد أن خلّفت الحرب الأميركية في العراق ظروفا مروّعة من انعدام الأمن والعنف الدموي الذي يبلغ حاليا ذروته. والمحافظة على الوضع الراهن ستضمن فشل الحكومة في التعامل مع الحالة الأمنية الصعبة، وهو ما سيخلّف تصعيدا متواصلا للعنف، ومن ثمّ تفكك البلاد.