وكالات- كتابات:
مجلة (فورين بوليسي) الأميركية؛ تنشر مقالًا يتناول التحوّل في السياسة الهندية تجاه “الصين”، في ظلّ المتغيّرات الجيوسياسية والتجارية مع “الولايات المتحدة”.
تكيّف تكتيكي مع الحقائق الجيوسياسية المتغيّرة..
في 30 تموز/يوليو، أعلن الرئيس الأميركي؛ “دونالد ترمب”، فرض رسوم جمركية بنسبة: (25%) على البضائع المستّوردة من “الهند”. ويأتي هذا التصعيد في الحرب التجارية في ظلّ الجهود التي تبذَّلها “نيودلهي” لتحسيّن علاقاتها الاقتصادية مع “الصين”، فضلًا عن الاتهامات بأنّ هذه التحرّكات تعكس خضوع “الهند”؛ لـ”بكين”.
لقد شهدت العلاقة ثلاثية الأطراف؛ بين “الولايات المتحدة والصين والهند”، تحوّلات بارزة. وقد أرسل “ترمب” إشارات حول وجود تقارب مع “الصين”، ما دفع “نيودلهي” إلى إيجاد توازنها الخاص بين “واشنطن” و”بكين”. إلا أنه من الخطأ اعتبار التواصل الهندي الأخير مع “الصين” تنازلًا هنديًا مدفوعًا بالضعف الاستراتيجي. بل هو شكل من أشكال التكيّف التكتيكي مع الحقائق الجيوسياسية المتغيّرة. ويهدف تعاون “نيودلهي” مع “بكين” إلى تحقيق فوائد اقتصادية ملموسّة من دون المسّاس بمصالحها الأمنية الأساسية.
لقد تمّ تجميّد العلاقات الاقتصادية بين “الهند” و”الصين”؛ منذ الاشتباكات الحدودية في “غالوان” عام 2020 والمواجهة العسكرية التي أعقبتها. وفي ذلك الوقت؛ ردّت “الهند” على محاولة “بكين” تغيّير الوضع الراهن على خط السيّطرة الفعلية من جانبٍ واحد بإعلانها قطع العلاقات بين البلدين. وتمّ حظر ما يزيد عن: (300) تطبيق صيني، بما في ذلك (تيك توك)، ومنع شركات الاتصالات الصينية من إطلاق خدمات الجيل الخامس في “الهند”. بالإضافة إلى ذلك، فرضت الحكومة على الشركات الموجودة في الدول التي تشترك في حدود برية مع “الهند” الاستثمار بعد الحصول على إذن حكومي رسمي.
وفي تشرين أول/أكتوبر 2024؛ قرّرت الدولتان تهدئة الوضع. والتقى رئيس الوزراء الهندي؛ “ناريندرا مودي”، والرئيس الصيني؛ “شي جين بينغ”، للمرة الأولى منذ (05) سنوات على هامش قمة زعماء مجموعة (البريكس) في ذلك العام. واعتبرت “الهند” التفاهم الناتج بين البلدين انتصارًا. وتمكّن الجيش الهندي من تسيّير دوريات في نقاط رئيسة على طول الحدود، والرعاة الهنود من استئناف الرعي. وبقبولها تجديد الدوريات الهندية، تراجع الجانب الصيني عن مسّاعيه لفرض وقائع جديدة على الأرض. وبعد (05) سنوات، سمحت “الصين” للحجاج الهنود مجددًا باستئناف رحلاتهم لزيارة “جبل كايلاش” وبحيرتي “مانساروفار وراكشاستال”.
بدورها؛ استأنفت “الهند” إصدار تأشيرات سياحية للمواطنين الصينيين. وإلى جانب ذلك، تُعقد لقاءات بين الأوساط الإعلامية والمجتمع المدني بانتظام، وتُجرى محادثات لإعادة تسيّير الرحلات الجوية المباشرة بين المدن الهندية والصينية.
واليوم؛ تتوق البيروقراطية الاقتصادية الهندية إلى إطلاق تعاون تجاري متجدّد. وقد أشارت وزيرة المالية؛ “نيرمالا سيتارامان”، مؤخّرًا، إلى تخفيف القيود المفروضة على رأس المال. وذكرت التقارير أنّ هيئة (نيتي أيوغ-NITI Aayog)، وهي مؤسسة بحثية اقتصادية رائدة تابعة للحكومة، تقدّمت أيضًا بقضية للسماح للكيانات الصينية بشراء حصة تصل إلى: (24%) في الشركات الهندية من دون الحاجة إلى أي موافقات إضافية. ويرجع السبب في ذلك إلى أنّ “بكين” تُمثّل: (60%) من القُدرة الإنتاجية العالمية لتصّنيع الإلكترونيات، وأنه من غير الممكن إقصاء “الصين” تمامًا من هذا القطاع. علاوة على ذلك، جاء المسّح الاقتصادي للحكومة الهندية للفترة: (2024-2023) مؤيّدًا لدعوة الشركات الصينية لإنشاء مصانع في “الهند” لتصنّيع السلع لسوق التصدير.
ولكن، ما الذي دفع “الهند” إلى التحوّل نحو “الصين” ؟
أولًا وقبل كل شيء؛ هناك دراسة جدوى. فقد كشفت “سيتارامان” أنّ الشركات الكبرى في “الهند” سّعت إلى تخفيف القيود المفروضة على الاستثمار. وكانت شركات تصنّيع الإلكترونيات قد اشتكت من أنّ نقص التأشيرات والتصاريح للمورّدين قد كلّفها خسائر بقيمة: (15) مليار دولار وفُقدان: (100) ألف وظيفة بين عامي 2020 و2024. وفي حين بذَّلت الحكومة جهودًا لتحويل التصّنيع من “الصين” إلى مصادر محلية، برُزت مجموعة من القضايا، من الأمور اللوجستية إلى القيود المتعلّقة بالطاقة الإنتاجية والتكنولوجيا، جعلت هذا الأمر صعبًا.
ولكن من الواضح أيضًا أنّ العوامل الجيوسياسية تشكّل عاملًا مؤثرًا، ولا سيّما الاعتقاد بأنّ “واشنطن” غيّرت مواقفها تجاه “باكستان” و”الصين”. ويعتقد المحللون الهنود أنّ إدارة “ترمب” قد تقترب من “بكين” و”إسلام آباد” في آنٍ واحد لإبعاد “باكستان” عن “الصين”. بدورها؛ تأمل “نيودلهي” أن تتمكّن، من خلال توجّهها نحو “الصين”، من استغلال التوجّه الأول مع تجنّب أيّ تداعيات سلبية قد تنجم عن التوجّه الثاني.
وفي حزيران/يونيو، استضاف “ترمب” قائد الجيش الباكستاني؛ “عاصم منير”، بعد أن أيّدت “إسلام آباد” ترشيحه لجائزة (نوبل للسلام). كما مُنح الجنرال “مايكل كوريلا”؛ قائد القيادة المركزية الأميركية، أحد أرفع الأوسمة في “باكستان”، وأشاد “كوريلا” بدوره بمبادرات “باكستان” في مكافحة الإرهاب.
وقد أثار هذا التقارب المفاجيء بين “واشنطن” و”إسلام آباد” الشكوك في “بكين”، وطرح تساؤلات حول ما إذا كانت “واشنطن” تسعى إلى تعطيل الممر الاقتصادي بين “الصين” و”باكستان” أو الحصول على معلومات حول فعّالية أنظمة الأسلحة الصينية في ترسانة “باكستان”. ويتوقّع المعلّقون الصينيون أنّ خطة “الولايات المتحدة” لإنشاء منشأة تشفير جنوب آسيوية في “باكستان” قد تُشكّل تحدّيًا لآلية تسوية (الرنمينبي) عبر الحدود. ويسود المجتمع الاستراتيجي الهندي شعور بأنّ إعادة الانفتاح الاقتصادي على “بكين” قد يصبّ في مصلحة البلدين في ظل التوتر السائد في: “الصداقة المتينة” بين “الصين” و”باكستان”.
والأهم من ذلك؛ من وجهة نظر “نيودلهي”، هو تصوّر أنّ “الولايات المتحدة” تسعى للتوصّل إلى تسوية مع “الصين”. إذ لطالما سعت الإدارات الرئاسية الأميركية الأخيرة إلى حرمان “الصين” من أحدث التقنيات المتطوّرة التي من شأنها تعزيز قدراتها العسكرية. ومع ذلك، يبدو أنّ هناك تغيّيرًا قد طرأ على هذا الموقف مؤخّرًا، بحيث وافق “البيت الأبيض” على بيع رقائق (إتش 20) من شركة (إنفيديا) لـ”الصين”. وفي الوقت الحالي، يسود شعور بأنّ “الصين” قد عزّزت نفوذها بشكلٍ كبير في صراعها على الرسوم الجمركية مع “الولايات المتحدة” من خلال استغلال سيطرتها على المعادن النادرة والمغناطيس. وقد حقّق الاقتصاد الصيني أداءً أفضل من المتوقّع، وشهد نموًا بنسبة: (5.3%) في النصف الأول من العام على الرغم من سيل الرسوم الجمركية. واليوم، وبعد (03) جولات من المفاوضات التجارية، قرّرت كلّ من “الولايات المتحدة” و”الصين” تمدّيد هدنة الرسوم الجمركية.
علاوة على ذلك؛ ثمّة مخاوف من أن يتجه “ترمب” إلى التسّاهل في المجال الاستراتيجي. ففي أواخر تموز/يوليو، وردت تقارير تُفيّد بأنّ “البيت الأبيض” رفض السماح للرئيس التايواني؛ “لاي تشينغ تي”، بالتوقّف في “نيويورك” في طريقه إلى “أميركا الوسطى” بسبب اعتراضات “بكين”. بعدها، تمّ الحديث عن احتمال انعقاد قمة بين “ترمب” و”شي”؛ في وقتٍ لاحق من هذا العام.
وقد أعلنت “الهند” صراحة عن طموحاتها بأن تُصبح ثالث أكبر اقتصاد في العالم بحلول نهاية هذا العقد. ويُدّرك صنّاع القرار أنّ زيادة دخل الفرد يُعدّ أمرًا ضروريًا في حال أرادت “الهند” أن تُصبّح دولة متقدّمة. ولتحقيق هذين الهدفين، لا بُدّ من توافر التكنولوجيا ورأس المال. وبينما تُفاوض “نيودلهي” على تقلّبات سياسة: “أميركا أولًا”، فإنها ترى دورًا جديدًا لـ”الصين” في توفيرهما.
ومع ذلك؛ وبينما تُجري “نيودلهي” هذه المراجعة، لا تزال تُعارض “بكين” بشأن مصالحها العسكرية الرئيسة. فعلى سبيل المثال، رفضت “الهند” التوقيع على البيان الصادر عن اجتماع وزراء دفاع “منظمة شنغهاي للتعاون”؛ (SCO)، في حزيران/يونيو، مُعتبرة أنه لا يُعبّر عن مخاوف “نيودلهي” بشأن الإرهاب. وفي تموز/يوليو، سافر وزير الخارجية الهندي؛ “إس. غايشانكار”، إلى “الصين” لحضور قمة “منظمة شنغهاي للتعاون” بعد انقطاع دام (05) سنوات. وفي أثناء وجوده هناك، أعرب “غايشانكار” مجدّدًا عن مخاوف “الهند” بشأن الإرهاب، مذكّرًا الدول الأعضاء في “منظمة شنغهاي للتعاون” بأن المنظمة تأسست في الأصل للمساعدة في مكافحة الإرهاب والنزعة الانفصالية والتطرّف.
وقد اقترنت هذه الأقوال بالأفعال. ففي أعقاب الهجوم الإرهابي الذي حصل في منطقة “باهالغام”؛ في “كشمير”، في نيسان/إبريل، أطلقت “الهند” عملية (السيندور)، وهي إحدى أوسع حملاتها العسكرية شمولًا منذ الحرب “الهندية-الباكستانية” عام 1971. وفي خضمّ هذا الصراع، أعلنت “الهند” أنها وجّهت ضربات لمعسكرات تدريب إرهابية ومنشآت عسكرية مهمة في “باكستان”. وبذلك، أعلنت “الهند” أنّ: “وضعها الطبيعي الجديد” يتمثّل في اعتبار الأعمال الإرهابية العابرة للحدود عملًا حربيًا.
ومن خلال إعادة انفتاحها على “بكين” بشكلٍ حذر، تستجيب “نيودلهي” بحكمة لبيئة استراتيجية معقّدة ومتطوّرة. وستواصل “الهند” بناء قدراتها المحلية، إلى جانب بناء شراكات خارجية مع دول تُشاركها التوجّهات نفسها. ومع ذلك، فقد أثبتت “الهند” بالفعل قدرتها التامّة على صدّ أيّ عدوان صيني إذا لزم الأمر. وكان قبول “بكين” على مضّض لدورها في تغيّير الوضع الراهن من جانب واحد على طول خط السيطرة الفعلية السبب في بدء الجولة الأخيرة من التقارب “الصيني-الهندي”.