وكالات – كتابات :
منذ قيام الثورة الشيوعية في “الصين”؛ في منتصف القرن الماضي، تقلبت العلاقة بين “بكين” و”واشنطن”، وذلك بعد دخولها للكتلة الشرقية، حيث أخذت العلاقة شكلاً عدائيًا بين الطرفين، لكنهما استطاعا تغيير شكلها لاحقًا، حتى كان لـ”أميركا” دور في اندماج “الصين” في الاقتصاد العالمي، ووصولها إلى قوتها الحالية، والتي تجعلها المنافس الأول لـ”أميركا”، وأكبر تهديد لهيمنتها.
صعود الصين.. البداية من الخلاف في المعسكر الشرقي..
في بداية خمسينيات القرن الماضي، تحاربت “الولايات المتحدة الأميركية” مع “الصين” بشكل مباشر؛ في الحرب الكورية، والتي دخلتها القوات الصينية إلى جانب القوات الكورية الشيوعية ضد “كوريا الجنوبية”؛ المدعومة بشكل مباشر من القوات الأميركية، وبذلك بدأت أولى علامات العلاقة العدائية بين “الصين” و”أميركا”، وبعدها بدعم “الصين” للقوات الفيتنامية الشيوعية في “الحرب الباردة”.
لكن وبعد عقدين من الزمان، وفي خضم “الحرب الباردة” بين المعسكر الشرقي؛ بقيادة “الاتحاد السوفياتي”، والمعسكر الغربي؛ بقيادة “الولايات المتحدة الأميركية”؛ ظهر إلى العلن أول خلاف ضخم داخل المعسكر الشرقي، وهو الذي عُرف باسم: “الشقاق الصيني-السوفييتي Sino-Soviet Split”، والذي وقع عام 1962.
سمح هذا الخلاف داخل المعسكر الشرقي نفسه؛ لـ”الولايات المتحدة الأميركية”، بمحاولة البناء عليه ماديًا، ومحاولة الاستفادة من هذا الخلاف، وعليه زار الرئيس الأميركي السابق؛ “ريتشارد نيكسون”، “الصين”، عام 1972، في أول زيارة لرئيس أميركي في التاريخ لأراضي “جمهورية الصين الشعبية”.
لم تكن الزيارة حدثًا عابرًا في التاريخ، بل كانت أحد أهم مفاصل “الحرب الباردة”، وضعفًا كبيرًا للمعسكر الشرقي وموقفه السياسي في العالم، والذي نتج عن رؤية كل من الطرفين: السوفياتي والصيني، للآخر كخائن للعقيدة الماركسية، ومرتد عنها، خصوصًا بعد وفاة أهم زعيم لـ”الاتحاد السوفياتي”؛ “جوزيف ستالين”.
مع ذلك؛ لم تتطور العلاقات “الغربية-الصينية” كثيرًاً طوال فترة حكم؛ “ماو تسي تونغ”، والذي بقي في السلطة حتى وفاته؛ عام 1976، ظل خلالها معاديًا للغرب بشدة، وإن لم يكن على وفاق مع السوفيات، بدءًا من نهايات عهد؛ “نيكيتا خروتشوف”، ولاحقًا في عهد حكم “ليونيد بريغينيف”.
لكن الدولة الصينية بعد “ماو”؛ بدأت نهجًا مختلفًا، أكثر انفتاحًا اقتصاديًا على العالم، وأكثر رغبة بعلاقات دبلوماسية وتجارية مع الغرب، بما هو في صالح “الصين” طبعًا، حتى تحولت البلاد إلى: “مصنع العالم”؛ الذي لا غنى عنه، ضمن نظرة غربية وأميركية تحديدًا؛ إلى أن انفتاح “الصين” تجاريًا سيعني يومًا ما تحريرها سياسيًا، وخلق الظرف لخلق نظام ديمقراطي فيها؛ على حسب المعايير الأميركية المهيمنة على العالم إلى اليوم.
كيف ساهمت “أميركا” في خلق “التنين الصيني” ؟
في عام 2000؛ صرح الرئيس الأميركي السابق؛ “بيل كلينتون”، بأنه: “كلما تحرر الاقتصاد الصيني أكثر، فذلك سيعني تحرير المواطنين الصينيين وإمكاناتهم”، كما أنّ التوقع الغربي كان يدور حول أن “العولمة” وأدواتها؛ التي تحاول طبع العالم بأسره كنسخ أميركية مستنسخة، وتحديدًا “الإنترنت”، سيُساعد في تنفيذ هذه المهمة، وتحويل “الصين” إلى حليف للغرب ربما وبالتالي إلى تابع، وعلى الأقل إلى جزء مهم في النظام العالمي في الاقتصاد، بحسب (فورين بوليسي).
ولكننا نعلم اليوم أن هذه التصريحات تبدو مجانبة للصواب، بل إن (فورين بوليسي) تصفها بالسذاجة حتى، و”الولايات المتحدة” اليوم مضطرة لدخول صراع ربما يكون الأخطر على قيادتها وهيمنتها في العالم مع “الصين”، نفسها التي كان يُعلق عليها كل هذه الآمال في المستقبل، وأصبح اندماج “الصين” السابق في الاقتصاد هو نفسه ما جعل “الصين” بهذه القوة، والتي استدعت الرئيس الأميركي السابق؛ “دونالد ترامب”، لبدء حرب تجارية معها.
سمح هذا الانفتاح؛ بأن تستفيد “الصين” بالفعل؛ لكن لم يحمل فائدة لـ”الصين” وحدها، بل إن الشركات الأميركية تسابقت على دخول السوق الصينية، والتي تحتوي على مليار زبون، وبسبب هذا الحجم الأضخم في العالم، ولو لم يكن الصينيون بثراء الأوروبيين والأميركيين؛ إلا أنهم عُدّوا من قِبل الشركات المختلفة حول العالم صيدًا ثمينًا لا يمكن التفريط فيه.
لكن “الصين” لم تُحرر اقتصادها بالكامل، لتُصبح حركة رؤوس الأموال سهلة باتجاه الداخل والخارج، بل بنت على قوتها الاقتصادية وجاذبيتها، لتفرض قيودًا؛ (Capital Control)، على هذه الحركة، وتبني اقتصادًا محليًا قويًا، لا يعتمد على استثمارات قصيرة الأجل من الخارج بالدرجة الأولى، وسعت إلى جذب التكنولوجيا الغربية وتبنيها في “الصين”.
لأجل الهدف النهائي الذي بيَّنه “كلينتون” في خطابه؛ تغاضت “الولايات المتحدة الأميركية” عن كثير من إجراءات “الصين” التي لا تعكس تحررًا كاملاً، بالإضافة طبعًا إلى جاذبية الأرباح الممكن تحصيلها؛ لا من البيع في السوق الصينية وحسب، بل واستغلالها كمصنع قليل التكلفة لنقل وسائل الإنتاج الغربية إليها.
لم يكن هذا الموقف مقتصرًا على النظرة السياسية وحدها؛ بل عملت الشركات الأميركية على الضغط على الحكومة الأميركية داخليًا للدفع بهذا الاتجاه، وهو ما أكسب هذه الشركات أصدقاء في “بكين”، وسمح لها بالتربّح من الانفتاح الصيني.
ولكن “الصين” أبقت على نهجها الاقتصادي غير المتحرر (على النهج الأميركي الخادم لمصالح واشنطن وحدها)؛ إلا بالقدر الذي يسمح لها بالاستفادة، ويمنع من إدماج “الصين” بشكل كامل في النظام الرأسمالي، ويمنعها من اتخاذ السياسات التي ترغب بها وتريدها، وما زال القطاع العام هو اللاعب الأساس في الاقتصاد الصيني بشكل مطلق، سواء عن طريق تدخله في الاقتصاد عبر مؤسساته، أو عن طريق ملكيته أو إدارته لشركات كثيرة في “الصين”.
في الفترة ما بين: عام 1980 وحتى عام 2021، نمت حصة “الصين” من إجمالي الناتج العالمي من: 1.28%، حتى وصلت اليوم إلى: 18% من إجمالي الاقتصاد العالمي، مع توقع بارتفاع هذه النسبة لاحقًا، وأصبحت إحدى أهم الدول تجاريًا في العالم، وأهمها على الإطلاق للنمو العالمي.
في نفس الوقت؛ ظلت “الولايات المتحدة الأميركية” أكبر اقتصاد في العالم بالطبع؛ لكن هذا المركز بدا مهددًا أكثر من أي وقت مضى بسبب “الصين”، فلن تحتاج “الصين” كثيرًا قبل أن تتجاوز “الولايات المتحدة الأميركية” في حجم الاقتصاد الكلي؛ وإن بقي الفرد الأميركي أكثر ثراء من المواطن الصيني بالمتوسط؛ بحسب زعم المجلة الأميركية.
كيف بدت الخطة الأميركية لتغيير الصين عن طريق الاقتصاد ؟
تنص النظرية الماركسية على مركزية الاقتصاد في فهم المجتمع والتاريخ، فالعلاقات بين الطبقات المختلفة، بما يتضمن علاقات الإنتاج ووسائله وغيرها، هي المحدد الأساس لحركة التاريخ، والصراع بين هذه الطبقات هو المحرك الحقيقي للمجتمع.
لذلك فالسياسة والفن والثقافة وغيرها؛ رغم أهميتها الكبيرة، فإنها منتج من منتجات الاقتصاد وعلاقات الإنتاج، ولا يمكن فهم هذه الأمور من خارجه، حتى لو استطاعت التأثير في الاقتصاد لاحقًا؛ بحسب وصف التقرير الأميركي.
بهذا المعنى؛ يمكن القول إنّ الشركات الأميركية ومراكز القوى داخل الحكومات الأميركية، والتي ضغطت وسعت إلى التقارب مع “الصين”، ومحاولة تحرير اقتصادها، كانوا ماركسيين بمعنى من المعاني، لأنهم ظنوا أن هذا التغيير الاقتصادي سيعني تغييرًا سياسيًا في “الصين” لاحقًا؛ كما ترى النظرة الأميركية القاصرة الملفقة للحقائق التي يعبر عنها بالطبع تقرير المجلة.
وقد كانت الفكرة الأميركية كما يلي؛ التقارب مع “الصين”، ونمو تجارتها واقتصادها، يعني خلق طبقة وسطى كبيرة جدًا، ستكون الحامل لأفكار ليبرالية داخل “الصين”، وهو ما يعني تحول “الصين” إلى بلد ليبرالي في النهاية، وتركه تمامًا للأفكار الشيوعية (!).
فالطبقة الوسطى ترغب بما لا ترغب به طبقات أخرى، وهي الحامل الطبيعي للأفكار الليبرالية، وهو نفسه الذي فعله الغرب و”أميركا”؛ بالخصوص في “كوريا الجنوبية” و”أوروبا الشرقية” (وكافة الدول التابعة للهيمنة الأميركية)، ومن المنطقي افتراض أن ذلك سيحصل في “الصين” أيضًا.
ومع التغيير السياسي في “الصين” ستستفيد الشركات الأميركية، ويستفيد معها الاقتصاد الأميركي أيضًا، فبينما تُقلل الشركات الأميركية من تكاليف العمالة بنقل إنتاجها لـ”الصين”، ستستطيع خلق مجالات عمل جديدة في “أميركا”، وبأجور أعلى نتيجة للأرباح الكبيرة وتقليل التكاليف، وهو ما سينعكس على الاقتصاد الأميركي.
لكن ذلك لم يحصل؛ لم تتغير “الصين” سياسيًا نتيجة للتغير الاقتصادي، رغم أنها ليست “الصين” الشيوعية ذاتها التي حكمها “ماو”، ولم تتحقق وعود الشركات الأميركية بانعكاس الأثر الاقتصادي على “أميركا”، بل خسر كثير من الأميركيين وظائفهم فحسب.
“الدولة اللينينية” باقية في الصين..
يرى محللون غربيون أن الدولة الصينية ما زالت دولة “لينينية”؛ نسبة لمؤسس “الاتحاد السوفياتي”؛ “فلاديمير لينين”، وأن الرئيس الصيني الحالي هو لينيني أيضًا، رغم اختلاف حالة “الصين” اليوم عن حالتها في عهد “ماو”، أو حالة “الاتحاد السوفياتي” السابق.
في المقابل؛ ترى القيادة الصينية نفسها – على لسان “تشي جين بينغ”؛ الرئيس الصيني الحالي، أن اللينينية ليست مجرد إرث قديم من “الاتحاد السوفياتي”، ولكنها دليل للحكم، وهي ما يُشكل التنظيم الحزبي لـ”الحزب الشيوعي الصيني”.
يرى كثير من الشيوعيين أن التاريخ يمر بمراحل مختلفة، وأنه لا وصفة جاهزة للوصول للاشتراكية والشيوعية في النهاية، ولذلك فعلى الاشتراكيين أن يفهموا المرحلة التاريخية ومتطلباتها، ويحددوا آليات عملهم بناءً على ذلك، للقدرة في النهاية على الوصول إلى الاشتراكية.
وعليه؛ فمن المنطقي افتراض أن “الصين” لم تتخلّ بالفعل عن الحلم الشيوعي والاشتراكي، وإنما رأت نفسها مضطرة لتغيير آليات الوصول إلى تحقيق هذا الهدف، وكما أن “كارل ماركس”؛ نفسه كان يقول إن الثورة الاشتراكية تحتاج إلى وجود طبقة عاملة صناعية كبيرة، وهو ما لم يتحقق في “الصين” إبان ثورتها الشيوعية، بل إبتدع “ماو” فكرته الخاصة عن الماركسية والثورة الشيوعية، فقد يكون ما يحصل اليوم هو أيضًا مرحلة مختلفة عن المعهد نحو هذا الهدف.
في هذه الحالة؛ ستكون “الولايات المتحدة” هي أحد المساهمين في إنجاز التطور والتنمية الصينية، دون أن تستطيع خلق تغيير سياسي فيها، أو جعل قادتها يتخلون عن أهدافهم، والتي لو لم تكن اشتراكية بالفعل فهي بالتأكيد ظلت وعلى ما يبدو ستبقى معادية للغرب؛ كما يرى التقرير الأميركي.
يظهر ذلك جليًا اليوم في موقف “الصين” من “روسيا”، وإعلانها قبل هجومها العسكري على “أوكرانيا”؛ عن الشراكة: “غير المحدودة” بينهما، والتي قد تتحول إلى تحالف حقيقي بوجه الغرب بالعموم، والهيمنة الأميركية تحديدًا.