خاص : كتبت – ابتهال علي :
مازالت إستراتيجية الرئيس الفرنسي، “إيمانويل ماكرون”، في مواجهة مظاهرات حركة (السترات الصفراء)؛ لم تؤتي بثمارها المباشرة المتمثلة في القضاء على الحركة وتهدئة الشارع الفرنسي، فهل تنتهي مظاهرات، “السبت”، التي تهيمن على الحياة في “فرنسا” منذ نحو خمسة شهور، أم تستمر حالة الغليان بين الفرنسيين لتصل إلى نقطة لايحُمد عقباها ؟
يدرك المراقب للمشهد الفرنسي، أن اللحظة الراهنة تشكل مفترق طرق أمام “فرنسا”؛ حيث يصارع الرئيس الفرنسي وحكومته “عدوًا” هلاميًا يفتقر للقيادة السياسية، ومما لا ريب فيه أن نتيجة هذا الصراع سوف تشكل مستقبل “فرنسا” إحدى الدول الأوروبية المحورية خلال العقود القليلة القادمة.
“ضريبة الكربون” وظهر البعير..
استمرت مظاهرات حركة (السترات الصفراء)، في جميع أنحاء “فرنسا”، على مدار خمسة شهور بداية من يوم 17 من شهر تشرين ثان/نوفمبر الماضي، ورغم أن الشرارة الأولى المتسببة في إندلاع المظاهرات هي قرارت الرئيس الفرنسي برفع أسعار الوقود، (ضريبة الكربون)، لكنها كانت القشة التي قصمت ظهر البعير؛ إذ جاء الرئيس الفرنسي إلى قصر “الإليزيه” على صهوة أجندة إصلاحية اعتبرها الفرنسيون أداة لتقويض دولة الرفاه الفرنسية وقوانين العمل التي تُعد من أقوى القوانين العمالية في العالم.
ثورة “السترات الصفراء” و”باميلا أندرسون”..
وليس من اليسير تعريف الحركة سياسيًا ووضعها في أطر نظرية، حيث تضم بين دفتيها المعارضة اليسارية واليمينية والمعارضين للعولمة والمطالبين بإصلاحات في نظام التعليم وحقوق المهاجرين.
وربما كان الوصف الأكثر إقناعًا لجذور حركة (السترات الصفراء)؛ وصف ممثلة الإغراء الأميركية، “باميلا أندرسون”، التي تحولت لناشطة سياسية وبيئية وتعيش في مدينة “مرسيليا” الفرنسية حاليًا، عندما قالت: “إنها ثورة بدأت تغلي في فرنسا لسنوات، من قِبل الناس العاديين ضد النظام السياسي الحالي الذي – كما هو الحال في العديد من الدول الغربية الأخرى – يتواطأ مع النخبة ويحتقر مواطنيه”. وتعتبر، “أندرسون”، أن ما اسمته، “العنف الرمزي”، لحركة (السترات الصفراء) كان لا مفر منه بسبب “العنف الهيكلي” الهائل للدولة الفرنسية، وفرض الليبرالية الجديدة على جمهور رافض لها.
حكومة “ماكرون” وسياسة “العصا والجزرة”..
واتسم أداء حكومة “ماكرون” بالتذبذب وحالة من التردد، منذ إندلاع الأزمة، واتبعت إستراتيجية “العصا والجزرة”؛ حيث لجأت في البداية إلى تأجيل الزيادة المقررة على “الوقود” لمدة ستة أشهر وتعهدت بزيادة الحد الأدنى للأجور بمقدار 100 يورو شهريًا وإلغاء الضرائب على العمل الإضافي والمكافآت، وهي خطوة لم تثبت فاعليتها في تهدئة غضب واستياء الشارع الفرنسي.
فاضطر الرئيس الفرنسي إلى إلغائها نهائيًا، في شهر كانون أول/ديسمبر الماضي، ورغم ذلك استمرت الاحتجاجات حتى الآن.
الحوار الوطني : صدمة رئيس وتشاؤم شعب..
وفي محاولة لإمتصاص غضب أصحاب (السترات الصفراء)؛ أطلق الرئيس الفرنسي، في منتصف كانون ثان/يناير الماضي، مبادرة “الحوار الوطني الكبير” لخلق حوار مع الفرنسيين في كل أنحاء البلاد يرتكز حول قضايا القدرة الشرائية ونظام الضرائب والديمقراطية والبيئة، واستمر على مدى شهرين حتى منتصف آذار/مارس الماضي.
وإنتهى مشهد “الحوار الوطني” وسط حالة التشاؤم لدى الفرنسيين من جدوى الحوار؛ رغم أن “ماكرون” يعكف مع حكومته على صياغة إستراتيجية لحل الأزمة، ينتظر أن يعلن عنها خلال شهر نيسان/أبريل الجاري.
ونقلت صحيفة (لوبريزيان)، عن الرئيس الفرنسي، أنه شعر بالصدمة خلال جولات “الحوار الوطني الكبير”؛ لعدم طرح قضية “البطالة” في النقاشات الدائرة، رغم أنها السبب الجوهري لتدني القوة الشرائية لدى الفرنسيين وانتشار الإرهاب في العالم – بحسب تصريحاته.
قبضة حديدية وعين حمراء..
ولجأت الحكومة الفرنسية إلى سياسة “القبضة الحديدية” وإظهار “العين الحمراء” للمحتجين، عقب مظاهرات الأسبوع الثامن عشر؛ التي واكبها أعمال عنف وتخريب في شارع “الشانزليزيه”، وحذرت وزيرة العدل، “نيكول بيلوبي”، بأن السلطات ستتعامل بدون رحمة مع المخربين.
وقد تعرضت الحكومة، وبوجه خاص وزير الداخلية، “كريستوف كاستانير”، لانتقادات شديدة من المعارضة ووسائل الإعلام؛ بسبب طريقة تعامله مع مظاهرات (السترات الصفراء)، يوم السبت السادس عشر من شهر آذار/مارس المنصرم، التي شهدت أعمال عنف وتخريب طالت البنوك والمراكز التجارية الهامة في “الشانزليزيه”.
واعتبرت صحيفة (ليبراسيون) الفرنسية؛ أن الأمور وصلت إلى طريق مسدود، مشيرًة إلى أن الشرطة الفرنسية تغض النظر عن أعمال الشغب والسلب والنهب خوفًا من وقوع ضحايا.
ونقلت الصحيفة، عن أحد المقربين من الرئيس الفرنسي، “إيمانويل ماكرون”، أن تقييد حرية التظاهر أفضل من التصعيد في المواجهات بين الشرطة ومثيري الشغب.
وكان أهم قرارات رئيس الوزراء، “إدوارد فيليب”، تعيين مدير أمن جديد للعاصمة، “باريس”، بعد إقالة المفوض السابق، “ميشال ديلبياش”، وحظر الاحتجاجات في الأحياء التي كانت أشد المناطق تضررًا، وهي 15 منطقة وساحات شهيرة منها؛ “بوردو” و”تولوز” وشارع “الشانزليزيه” والمناطق المحيطة به وضمن مربع يشمل القصر الرئاسي والجمعية الوطنية..
واعتبرت (ليبراسيون) أن الإجراءات الأخيرة، التي إتخذتها الحكومة الفرنسية ضد مثيري الفوضى أثناء مظاهرات أصحاب (السترات الصفراء)، تشبه عملية مواجهة المتظاهرين بالمدفعية الثقيلة.
وذكرت صحيفة (لوموند) الفرنسية؛ أن التدابير تشمل أيضًا منح الشرطة سلطات أوسع لإنفاذ القانون ونشر طائرات بدون طيار ومضاعفة غرامة المشاركة في المظاهرات المحظورة أربع مرات تقريبًا. وسوف يتم تغريم من يخفون ووجوههم أو يرتدون أقنعة غاز خلال المظاهرات غرامة قدرها 15 ألف يورو علاوة على السجن مدة عام.
الاستعانة بقوات “الحارس” لمكافحة الإرهاب..
واضطر الرئيس الفرنسي إلى الاستعانة بقوات من الجيش، من وحدة الحارس “سونتونيل” المخصصة لمكافحة الإرهاب، لحماية بعض المواقع بما يتيح لقوات الشرطة حماية النظام، وهو إجراء أثار حالة من الجدال لتدخل الجيش الفرنسي ضد مواطنيه.
يُذكر أن عملية “الحارس”، هي قوات قوامها 7 آلاف عسكري مهمتها مكافحة الإرهاب، ويتركز وجودها في المواقع الحيوية مثل؛ المطارات والمواقع السياحية والأماكن الدينية. وتم نشرها عقب هجمات الثالث عشر من تشرين ثان/نوفمبر عام 2015 الإرهابية في العاصمة، “باريس”، التي أسفرت عن مقتل أكثر من 130 شخصًا وإصابة المئات بجراح.
لكن هل ينجح “ماكرون” في إخماد جذوة الاحتجاجات ؟
ناقش تقرير لصحيفة (لوباريزيان)؛ تصعيد الحكومة الفرنسية ضد حركة (السترات الصفراء) عقب الدمار الذي لحق بشارع “الشانزليزيه”، متسائلًا عن فاعلية التدابير الصارمة في إنهاء الأزمة بعد مرور أسبوعيْن على إتخاذها. وشككت الصحيفة الفرنسية في جدوى هذه الإجراءات الأمنية سواء بالنسبة للحفاظ على النظام العام أو الحفاظ على صورة “فرنسا” أمام العالم.
مظاهرات لا تتوقف وأرقام متناقضة..
وعلى الأرض لم تتوقف الاحتجاجات، إذ سعى المتظاهرون إلى الإلتفاف على القبضة الأمنية، وفي السبت التاسع عشر، إتخذ المشاركون في الاحتجاجات في العاصمة، “باريس”، مسارات جديدة يطوق العاصمة من جنوبها لشمالها لتفادي الحظر المفروض على المظاهرات في شارع “الشانزليزيه” والمناطق المحيطة به.
ووفقًا لأرقام “وزارة الداخلية”، ناهز عدد المتظاهرين 40 ألف فى أنحاء “فرنسا”، في الأسبوع التاسع عشر، منهم خمسة آلاف في العاصمة، “باريس”، بينما تؤكد حركة (السترات الصفراء) إن عدد المتظاهرين بلغ 127 ألفًا.
وكانت الأوضاع أكثر توترًا في المناطق خارج، “باريس”، وأطلقت قوات الشرطة قنابل الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين في مدينة “مونتبيلييه” بجنوب البلاد.
وفي مدينة “نيس”؛ اندلعت صدامات بين الطرفين لإصرار المتظاهرين التجمهر في ساحة محظورة.
ولم يتوقف الحراك، “الأصفر”، أيضًا في الأسبوع العشرين، إذ خرج المحتجون في العاصمة، “باريس”، ومدن أخرى واتسمت الفاعليات بالهدوء النسبي، وعبر بعضهم عن تصميمهم مواصلة المظاهرات حتى ترضخ حكومة “ماكرون” لمطالبهم الداعية لإجراء “استفتاء المبادرة المواطنية” و”رفع القدرة الشرائية” و”تحسين المعاشات التقاعدية”. ونقلت وسائل إعلام فرنسية عن “وزارة الداخلية”؛ أن 33 ألفًا و700 شخص شاركوا في المظاهرات، في الأسبوع العشرين، بينهم أربعة آلاف شخص في “باريس”.
عجوز فرنسية رمزًا للصمود..
وكشف موقف للرئيس الفرنسي من إصابة إحدى المتظاهرات، في احتجاجات الأسبوع التاسع عشر، بمدينة “نيس”، مدى إصراره على موقفه في التقليل من شأن حركة (السترات الصفراء)؛ حيث تحولت عجوز فرنسية، في العقد الثامن من عمرها، رمزًا لصمود الحركة عندما تعرضت الناشطة، “غينيفيف ليغاي”، (73 عامًا)، لكسر في الجمجمة عندما استخدمت الشرطة العنف ضد المتظاهرين بمدينة، “نيس”.
وذهب “ماكرون” إلى أساليب الوعظ متهمًا الناشطة بعدم التحلي بالحكمة لتواجدها في منطقة محظور التظاهر فيها مع تقدم سنها.
وانتقدت النخبة السياسية تعليقات “ماكرون” الساخرة؛ إذ اعتبر “غان لوك ملونشون”، مرشح اليسار للرئاسة الفرنسية وزعيم حزب “فرنسا الآبية”، أن الناشطة ليست بحاجة لدروس وعظات الرئيس الفرنسي، كما عبر السياسي اليميني، “نيكولا دوبون آينيون”، زعيم حزب “إنهضي فرنسا”، عن صدمته مما أسماه “غطرسة” و”إنعدام روح الإنسانية” لدى “ماكرون”.
مخاوف من صعود اليمين المتطرف..
على المستوى السياسي؛ تخشى الأوساط السياسية، في “فرنسا” والعالم، من أن تقود أزمة أصحاب (السترات الصفراء) إلى صعود اليمين المتطرف الفرنسي إلى سدة الحكم، إذ حذر الرئيس السابق، “فرنسوا هولاند”، من صعود اليمين المتطرف في بلاده، منتقدًا أداء “ماكرون” على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي.
وأضاف، في تصريحات لصحيفة (لوبريزيان)، أن: “التهديد الحقيقي يأتي من جانب اليمين المتطرف، وفي ظل إدارة ماكرون للبلاد، فإن اليمين المتطرف سيحكم البلاد لا محالة عاجلاً أو آجلاً خلال الانتخابات المقبلة، 2022، أو اللاحقة، ليكون الخيار الوحيد الذي لم يجربه الفرنسيون”. وألقى “هولاند” باللوم على حكومة “ماكرون” في الأزمة التي تشهدها “فرنسا” حاليًا لعدم استجابته لمطالب حركة (السترات الصفراء).
دائرة مغلقة من الخسائر الاقتصادية..
واقتصاديًا؛ تنبيء المؤشرات أن الفرنسيين لا يعولون كثيرًا على حوار “ماكرون”، في ظل أزمة اقتصادية خانقة، دفعتهم للخروج للمظاهرات التي بدورها ضاعفت من حجم الخسائر الاقتصادية في البلاد تنذر بدخول البلاد إلى دائرة مغلقة من الخسائر الاقتصادية المرشحة للارتفاع المتواصل.
وفي الأسبوع الأخير؛ دعت البنوك الفرنسية الكبرى إلى وقف أعمال العنف والتخريب خلال مظاهرات “السترات الصفراء”، والتي طالت كثير من فروعها في البلاد. وذكرت صحيفة “لوموند” أن أكثر من 750 مصرف تعرض لأعمال تخريب وسلب نهب منذ إندلاع الاحتجاجات.
وأقر وزير المالية الفرنسي، “برونو لومير”، في شهر شباط/فبراير الماضي، أن المظاهرات كبدت الاقتصاد الفرنسي نحو 5 مليارات يورو، وهي مرشحة للزيادة إن لم تتوقف نهائيًا.
أخطبوط “السترات الصفراء” ورعب النخبة..
ولكن؛ هل تنجح حركة (السترات الصفراء)، التي باتت أشبه بـ”الأخطبوط” الذي يتمدد وتتشعب أذرعه، في الإلتفاف حول الرئيس الفرنسي وتقوض أركان حكمه في قصر “الإليزيه” ؟
تنبأ عالم الجغرافيا الفرنسي، “كريستوف غيلوي”، في دراسة نشرها عام 2014، بإندلاع مظاهرات في فرنسا” بسبب اتقسام التركيبة السكانية لمعظم المدن الفرنسية الكبرى التي تضم المراكز التجارية والمصرفية الفاخرة وتمثل أشد مظاهر الرأسمالية الصناعية والمحاطة بالضواحي المعزولة المهمشة التي تضم 60% من سكان المناطق الحضرية.
وأكد “غيلوي” على أن أي زيادة في أسعار الوقود سوف تضرب سكان الضواحي في مقتل، خاصة أنهم يضطرون إلى الإنتقال يوميًا إلى قلب المدن للعمل والتسوق والدراسة؛ وهو ما يكلفهم نحو 250 يورو شهريًا كأجرة المواصلات أو ركن سياراتهم المتواضعة.
ولا تهتم الحكومات الفرنسية المتعاقبة بالمهمشين أو “الصغار” – كما يطلق عليهم “غليوي” – إذ أن جُل همها هو حماية 1% من السكان فقط وهم الأغنياء، ولذا تكتسب حركة (السترات الصفراء) أهميتها الرمزية في سعي المحتجين على فرض وجودهم على رأس أجندة أعمال سكان قصر “الإليزيه” من الطبقة الحاكمة.
وفي تعليق له عقب إندلاع احتجاجات أصحاب (السترات الصفراء)؛ أكد “غيلوي” على أن الحركة تمثل رعبًا للنخب السياسية والاقتصادية الحاكمة في “فرنسا”، موضحًا أنها حركة لا يمكن السيطرة عليها وإخمادها من خلال الآليات السياسية التقليدية؛ فهي لم تخرج من رحم النقابات العمالية أو الأحزاب السياسية ومطلبها الرئيس هو الديموقراطية وإدماجهم الكامل في النظام الاقتصادي والسياسي.
وأشار الجغرافي الفرنسي إلى أن “النخبة الحاكمة” أمامها اختياران فقط لإحتواء الحركة: أما الإعتراف الكامل بها وبمطالبها أو اللجوء لما أطلق عليه “الاستبداد الناعم” soft totalitarianism.
فى الجانب الآخر؛ لا ينفك الرئيس الفرنسي عن مواصلة نفس السياسيات، والأهم أنه يسعى إلى إلصاق تهمة التخريب وتدمير مؤسسات الدولة بها؛ حيث أعلن عن وجود حوالي 50 ألف مخرب في صفوف أصحاب (السترات الصفراء)، بدون تقديم أدلة ملموسة على هذا الإتهام.