وكالات – كتابات :
مع اقتراب عطلة أعياد الميلاد تبدأ جولة أخرى من الإضرابات في “بريطانيا”؛ حيث تُسّبب إضرابات عمال السكك الحديدية في توقف شبكة النقل، فيما يستعد طاقم حرس الحدود للخروج أيضًا، وأصبح عمال البريد وسائقو الحافلات وموظفو الخدمة المدنية إما في خضم الإضراب أو يُهددون بالإضراب.. فما الذي يحدث في “بريطانيا”، وإلى أي حدٍ يمكن لهذه الإضرابات أن تتفاقم ؟
الإضرابات في “بريطانيا” تتسع.. ماذا يعني ذلك ؟
هذا الأسبوع؛ نظمت الممرضات أكبر إضراب لهن منذ عقود في “بريطانيا”، كما أضرب سائقو سيارات الإسعاف في أجزاء كثيرة من “إنكلترا”، في نزاع مرير بشكلٍ خاص سيؤدي إلى مزيد من الاضطرابات لنظام الصحة العامة المّدمر بالفعل، كما يقول تقرير لشبكة (سي. إن. إن-CNN) الأميركية.
وانتفض العاملون خلال الفترة الماضية؛ في مختلف القطاعات، قائلين إن رواتبهم وظروف عملهم وقدرتهم على تقديم الخدمات الأساسية قد تعرضت للخطر بسبب سنوات من خفض الدخل وارتفاع تكاليف المعيشة وفشل الحكومات المتعاقبة في تقديم حلول مقبولة من جميع الأطراف.
وتواجه “المملكة المتحدة” تضخمًا هو الأسوأ منذ أكثر من 40 عامًا، وشهدت البلاد تغّيير رئيس الوزراء ثلاث مرات في غضون أشهر قليلة، فاستقال “بوريس جونسون”، وخلفته “ليز تراس”، التي قدمت خطة اقتصادية لإنقاذ الموقف، إلا أن تلك الخطة تسبّبت في إثارة الذعر داخل وخارج “بريطانيا”، فاستقالت “تراس” قبل أن تُكمل شهرها الثاني في المنصب.
تولى “ريشي سوناك”؛ المهاجر من أصول هندية وزوج ابنة ملياردير هندي، رئاسة الوزارة في الأسبوع الأخير من تشرين أول/أكتوبر الماضي، وسط تحديات اقتصادية وسياسية ضخمة تواجهها “المملكة المتحدة”، وتفاقمها، بجانب الحرب في “أوكرانيا”، وتداعيات (بريكست)؛ التي لم تجد لها “لندن” حلولاً ناجحة بعد.
بحسب تقرير لـ”هيئة الإذاعة البريطانية”؛ (BBC)، تسّببت الإضرابات في ضياع حوالي: 417 ألف يوم عمل، خلال شهر تشرين أول/أكتوبر الماضي فقط، وهو أعلى رقم منذ تشرين ثان/نوفمبر 2011.
لكن تقديرات النقابات العمالية في “بريطانيا” تُشّير إلى أن شهر كانون أول/ديسمبر الجاري، سيشهد خسارة أكثر من مليون يوم عمل، ما سيجعله أشد الشهور اضطرابًا في “المملكة المتحدة”، منذ تموز/يوليو عام 1989، بحسب تقرير شبكة (ABC News).
ما القطاعات الحسّاسة التي انخرطت في الإضرابات الحالية ؟
لا تتأثر الخدمات الصحية والطواريء فقط؛ لقد تأثرت جميع أشكال السفر تقريبًا بالإضراب أو من المتوقع أن يحدث في الأسابيع المقبلة، إلى جانب التعليم ونظام العدالة الجنائية والخدمة البريدية ومجموعة من المجالات الأخرى.
01 – الخدمات الصحية والطبية..
جاء إضراب عمال الإسعاف؛ يوم الخميس 15 كانون أول/ديسمبر 2022، الذين يُطالبون بزيادة في الأجور تماشيًا مع التضخم، بعد إضراب الآلاف من الممرضات؛ في 15 و20 كانون أول/ديسمبر 2022.
02 – السكك الحديدية..
كانت إضرابات السكك الحديدية مسّتعرة منذ عدة أشهر وتُهيّمن في كثير من الأحيان على الصفحات الأولى في “المملكة المتحدة”.
ودعت نقابة (RMT)، التي تُمثل في الغالب الحُّراس وفاحصي التذاكر وموظفي الصيانة، إلى سلسلة من الإضرابات، بما في ذلك خلال فترة عيد الميلاد. ويُطالب عمال السكك الحديدية برواتب أفضل وأمن وظيفي أعلى.
03 – البريد..
يقوم عمال البريد في “هيئة البريد الملكي البريطاني”؛ (Royal Mail)، التي أصبحت الآن شركة خاصة، بالإضرابات في الفترة التي تسّبق عيد الميلاد؛ مما يؤثر على عمليات التسليم خلال فترة الأعياد المزدحمة.
04 – خدمات النقل..
ويضرب عمال (Borer Force) في “نقابة الخدمات العامة والتجارية”؛ (PCS)، لمدة ثمانية أيام خلال فترة الأعياد، حيث ستؤثر الضربات على “مطار هيثرو”؛ في “لندن”، بالإضافة إلى محاور في: “لندن غاتويك ومانشستر وبرمنغهام وكارديف وغلاسكو”.
كما أعلن منّاولو الأمتعة الإضراب في بعض التواريخ. فيما خطط سائقو الحافلات في “لندن” لسلسّلة من الإضرابات طوال شهر كانون أول/ديسمبر.
05 – القطاع التعليمي..
يقوم العديد من نقابات المُعّلمين بالتشاور مع أعضائها بشأن الإضراب بعد رفض العروض الحكومية لحل المشكلة، وهناك بالفعل إضراب وطني للمُعّلمين مُقرر في “إسكتلندا”؛ الشهر المقبل.
06 – العدالة الجنائية..
دخل المحامون الجنّائيون في إضراب في وقتٍ سابق من هذا الشهر، قبل التصويت لقبول عرض رسمي لإنهاء الأزمة.
لماذا تفجرت كل هذه الإضرابات الآن ؟
تقول الصحافة البريطانية إن كل قوة عاملة لديها شكاوى خاصة بقطاعاتها أدت بها إلى الانخراط في الإضرابات. لكن يجب أيضًا النظر إلى موجة الإضرابات في ضوء الركود الاقتصادي والمجتمعي الذي تُعاني منه “المملكة المتحدة” منذ فترة طويلة، والذي ترك العمال في أمسّ الحاجة إلى تحسّين أوضاعهم.
وتسّببت أزمة تكاليف المعيشة وارتفاع التضخم في تدهور أوضاع البريطانيين هذا العام. عند تعديل الأجور وفقًا للتضخم، انخفضت الأجور في “المملكة المتحدة” بواحد من أكثر المعدلات حدة منذ عام 2001، وفقًا لـ”مكتب الإحصاء الوطني”؛ (ONS).
ويتحمل العاملون في القطاع العام البريطاني على وجه الخصوص العبء الأكبر؛ حيث بلغ متوسط نمو الأجور في القطاع الخاص: 6.9% في منتصف عام 2022، مقارنة: بـ 2.7% للقطاع العام. وقال “مكتب الإحصاء الوطني”؛ إن: “هذه النسّب من بين أكبر الفروق بين معدلات نمو القطاع الخاص والقطاع العام التي شهدناها في البلاد”.
ومع ذلك؛ بالنسبة للعديد من العمال المُضّربين، يمكن إرجاع الغضب إلى ما هو أبعد من الأزمات الاقتصادية الحالية. فمنذ أن شهد برنامج التقشف لرئيس الوزراء السابق؛ “ديفيد كاميرون”، خفض ميزانيات الخدمات العامة، اشتكى الموظفون من تراجع العديد من إمتيازاتهم ورواتبهم وشبكات الأمان المؤسّسية في “بريطانيا”.
وتراجع تمويل المجالس المحلية والمدارس على مدار العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وهو عقد من التراجع يقول النقاد إنه أعاق تقدم “بريطانيا”، تاركاً جرحًا عميقًا في الخدمات التي يعتمد عليها الآباء والأطفال والمواطنون كل يوم.
وأدت توابع خروج “بريطانيا” من “الاتحاد الأوروبي” ووباء (كورونا)؛ إلى زيادة إحكام القيود وتعقيد الجهود للخروج من نهج القبضة الضيقة في العقد الأخير.
في الآونة الأخيرة، كان عدم الاستقرار في قلب الحكومة – تغّير منصب رئيس وزرائها 05 مرات في غضون ست سنوات – وقد أدى البرنامج المالي الكارثي الذي كشفته رئيسة الوزراء السابقة الشائنة؛ “ليز تروس”، إلى تحطيم آمال العديد من البريطانيين في أن القطاع العام سيحصل على دفعة في القريب العاجل.
لماذا يُعد إضراب قطاع الخدمات الصحية البريطانية أمرًا خطيرًا ؟
من النادر حدوث إضرابات في خدمة الصحة الوطنية، أحد أعمدة الهوية الوطنية لـ”بريطانيا” وأحد البرامج الحكومية الأكثر شهرة في العالم. وحتى هذا الشهر، لم يكن أكبر اتحاد تمريض في “المملكة المتحدة” قد دعا إلى الإضراب في تاريخه؛ منذ نحو 100 عام، فيما يُعد إضراب سيارات الإسعاف الأخير هو الأول من نوعه منذ عام 1990.
وهناك بعض المخاوف بشأن مستوى الخدمات الصحية والطبية التي ستصل إليها البلاد خلال الإضراب. وتقول (CNN) إن الحكومة قررت نشر أفراد القوات المسّلحة في محاولة لتخفيف تأثيرات الإضرابات، واقترح وزير الصحة؛ “ويل كوينس”، على راديو (بي. بي. سي)، أنه يجب على الناس تجنب الاحتكاك بالرياضة أو فعل أي: “نشاط محفوف بالمخاطر” أثناء تعطل خدمات الإسعاف، وهي تصريحات لاقت انتقادات لاذعة من الجمهور.
لكن العاملين في “هيئة الخدمات الصحية الوطنية” دُفعوا إلى حافة الهاوية في السنوات الأخيرة، مع استمرار أزمة التوظيف، والأجور المنخفضة، وقوائم الانتظار المرتفعة؛ مما أدى إلى إزدحام المستشفيات والأجنحة بالكامل وإرهاق الموظفين.
يتعيّن على البريطانيين الآن الانتظار لمدة ساعة واحدة في المتوسط لوصول سيارة إسعاف إذا أبلغوا عن اشتباه في حدوث نوبة قلبية أو سكتة دماغية أو مشكلات أخرى مماثلة. وتصل مدة انتظار المكالمة من (الفئة 1)، التي تتعلق بالتهديدات المباشرة على الحياة، إلى 10 دقائق.
لماذا تُعد هذه الإضرابات غير مسبوقة في “بريطانيا” ؟
هذه الموجة من الإضرابات هي الأكبر التي تضرب “بريطانيا”؛ خلال عقد من الزمان، وقد أدى العدد الهائل للخدمات المتضررة إلى إجراء مقارنات مع ما يُسمى: “شتاء السّخط” بين الأعوام 1978 إلى 1979.
أعقبت تلك الفترة نزاعات مريرة على الأجور بين الحكومة والقطاعين العام والخاص؛ بعد فوزها في الانتخابات عام 1979، خاضت رئيسة الوزراء؛ “مارغريت تاتشر”، معركة منتصرة إلى حدٍ كبير مع العديد من النقابات البريطانية، مما أدى إلى تقليص سلطتها بشدة.
الآن؛ تقول حكومة رئيس الوزراء؛ “ريشي سوناك”، إنها لا تستطيع تحمل مطالب الأجور التي تُطالب بها نقابات القطاع العام. في حالة إضرابات السّكك الحديدية، قالت الحكومة إن المسؤولية تقع على عاتق شركات القطارات الخاصة لحل النزاعات، على الرغم من حقيقة أن الحكومة تُسيّطر على سلاسّل الأموال، بعد أن أنقذت الشبكة خلال وباء (كورونا).
لكن الاضطراب المسّتمر يُمثل صداعًا كبيرًا لـ”سوناك”، الذي تولى المسؤولية من “تروس” بوعد بنهج معقول ومنضبط للاقتصاد البريطاني المتعثر. وتظهر استطلاعات الرأي أن الحكومة تتحمل الكثير من اللوم في موجة الإضرابات العمالية، وأن الجمهور بشكلِ عام متعاطف مع العمال المضربين.
لقد اتخذ الوزراء مرارًا وتكرارًا موقفًا حازمًا، رافضين الإنصياع لمطالب أي نقابة. وهاجم زعيم حزب (العمال) المعارض؛ “كير ستارمر”؛ “سوناك”، في إضراب التمريض؛ في البرلمان الأسبوع الماضي، وقال له إن: “البلد بأكمله سيتنفس الصعداء إذا أوقف الإضراب من خلال إبرام صفقة حكومية مع النقابة”. وقال “ستارمر” إن الإضراب الصناعي كان: “وسام عار لهذه الحكومة”.
ويسّير حزبه، الذي تربطه روابط تاريخية بعدة نقابات، في مسّار دقيق فيما يتعلق بالإضرابات. رفض “ستارمر” دعم مطالب النقابات بشكلٍ صريح، لكنه أشار إلى انسحابها كدليل على أن (المحافظين) أوقفوا الاقتصاد. سيتم اختبار هذه الحجج بشكلٍ أكبر خلال فترة عيد الميلاد والعام الجديد، وسيكون الرأي العام حيويًا في تقوية يد الحكومة أو إجبارها على الجلوس إلى طاولة المفاوضات.