أُرديَ كريم أحمد (44) عاماً برصاصة طائشة، إذ فقد حياته عند باب داره تحت أنظار أطفاله الثلاثة أثناء انتظاره قدوم صديقه الذي يقلّه بسيارته يوميا إلى موقع عمله في مركز قضاء الميمونة – 40 كلم جنوب غرب العمارة – وهو ليس آخر ضحايا الصراعات العشائرية الدامية التي تندلع بين حين وآخر في أقضية ونواحي محافظة ميسان.
يسكن أحمد في حزام المناطق التي تشهد اندلاع نزاعات عشائرية ذهب ضحيتها عدد من القتلى والجرحى دون أن تحرك الأجهزة الأمنية ساكناً، يقول شقيقه علي (أبو حسام) لـ”نقاش” حول الحادث “لا نعرف من قتل أخي، وعندما توجهنا بالشكوى للجهات الأمنية أمطرونا بالأسئلة عما إذا كانت لديه عداوات أو مشاكل مع أحد، ووعدونا بإجراء تحقيق، لكننا نعلم أنهم لن يتوصلوا إلى نتيجة”.
وغالبا ما تندلع النزاعات بسبب مشاجرات شخصية حول المال أو النساء أو قطعة أرض أو حيوان، بينما تفجّر النزاع الأخير في قضاء الميمونة بعد نشوب شجار بين شخصين ينتميان إلى عشيرتين مختلفتين حول كمية من التراب ما أدى لمقتل احدهما، وعلى الفور هبّت عشيرته لحرق منزل قاتله، ثم تطور النزاع حتى أغلق القضاء بالكامل ومنعت الناس من الحركة بسبب الإطلاقات النارية العشوائية دون أن تتمكن الأجهزة الأمنية من التدخل.
ويلاحظ متابعون أن النزاعات تفاقمت بعد انتقال الفرقة العاشرة المدرّعة التابعة للجيش العراقي المتمركزة في ميسان وذي قار والمثنى، لتشارك في عمليات تحرير الأنبار من تنظيم داعش.
واعترف رئيس لجنة الأمن والدفاع في مجلس محافظة ميسان سرحان سالم بعدم قدرة الشرطة المحلية على مواجهة أبناء العشائر وقال لـ”نقاش” انه “بدون دعم الجيش فأن قوات الشرطة لا تستطيع فضّ النزاعات العشائرية كون السلاح المستخدم من قبل العشائر يفوق ما يتوفر لدى الشرطة، ففي بعض النزاعات تستخدم الأطراف المتنازعة مدافع رشاشة وهاونات وقاذفات البي كي سي”.
كما تنأى الأجهزة الأمنية بنفسها عن التدخل في الصراعات العشائرية خوفا مما يسمى بـ(الكَوامه) وهو تهديد عشائري، فعناصر الشرطة تنتمي غالباً إلى العشائر المتنازعة، وقد سبق أن تعرضوا عند تدخلهم لفضّ إحدى النزاعات للتهديد والاعتداء.
وعلى وفق مدير شؤون العشائر في قيادة شرطة ميسان العميد الحقوقي حسن عبد النبي فأن “عناصر الأجهزة الأمنية والحكومية تكتفي بالتوسط لحل تلك النزاعات التي تتفجر بين حين وآخر، لكننا كثيرا ما نواجه بمغالاة بعض الأطراف في مطالبها، كما أن الأجهزة الأمنية لا تستطيع اعتقال احد من الجناة دون أن تُسجل دعوى قضائية ضده وهو ما لا يحدث غالباً”.
عبد النبي أوضح أن “عددا من شيوخ ووجهاء ميسان يحاولون حل النزاعات أو الحد منها، إضافة إلى معاقبة المسيء ، لكننا نلاحظ أن تلك النزاعات بدأت بالتفاقم في ظروف معقدة بعد تدخل جهات منتفعة بإثارة الفتن واستثمارها في ترويج تجارة السلاح دون أن تأبه للسلطة او تخشى العقاب”.
وتتحكم النعرة القبلية بالمجتمع العراقي ومن أجل السيطرة على أبناء عشائرهم وضع شيوخ القبائل سنناً عشائرية في فترات سابقة تعود لعشرينيات القرن المنصرم، وتم تثبيت (الديّة) وهو مبلغ مادي يدفع لذوي المجني عليه.
ويؤكد المؤرخ العشائري محسن داغر العقابي لــ”نقاش” أن “تاريخ بعض النزاعات العشائرية يمتد إلى أكثر من ثمانين عاماً، حيت كانت قبيلة (ال ازيرج) وقبيلة (بني لام) في صراع مستمر، وقد نجم عن ذلك سقوط عدد كبير من كلا الطرفين في معارك امتدت أعواماً، وما زالت الصراعات تتجدد بين القبيلتين من حين لآخر بسبب التعصب والثارات”.
فيما تعاظمت (الديّة) وأصبحت تخضع لمطامع بعض الشيوخ, وفي أحد حوادث القتل طلب شيخ عشيرة الضحية مبلغ مليار دينار من عشيرة الجاني، وانتهى الاتفاق بعد وساطات إلى دفع (600) مليون دينار، في حين لم يكن الفصل العشائري في هذه الحالات يتجاوز 60 مليون دينار، وفي حالات أخرى يطلب من ذوي الجاني ترك محل سكنهم والانتقال إلى مكان بعيد.
ويرى رجل الدين الشيخ مجيد الساعدي أن “طلب الديّة مقبول شرعا ولكن المغالاة فيه حرام، فمن يفرض مبالغ كبيرة كـتعويض لعائلة المقتول يرتكب إثما كبيرا، وفي كثير من الأحيان يمتنع رجال الدين عن التوسط في نزاع عشائري إذ لا أحد يصغي لكلامنا”.
ويعيش أهالي قضائي المجر والميمونة تحت وقع الرصاص، وقد دخل الاقتتال بين الأطراف المتنازعة شهره الرابع دون أن يلوح حل في الأفق، فيما ارتفعت حصيلة القتلى إلى عشرة أشخاص في المجر وجرح عشرات آخرون وتم تشريد عائلات عديدة بعد إحراق دورها، فيما سقط ثمانية قتلى وعدد من الجرحى في الميمونة وحرق خمسة منازل تابعة لأبناء إحدى العشائر المتنازعة، فضلا عن إغلاق السوق التجارية في المنطقة.
وروى شاهد عيان حبّذ عدم ذكر اسمه لـــ”نقاش” بأن “الطرفين استخدما أسلحة متوسطة وثقيلة، ما تسبب في نشر الرعب في القضاء ودفع بعض العائلات إلى الهروب من الأحياء التي اجتاحتها المواجهات”.
وبسبب غياب أي رادع أمني يقوم أفراد العشيرتين بقطع طريق ميسان- ذي قار بنصب نقاط تفتيش مسلحة بين قضاء الميمونة وناحية السلام للبحث عن خصومهم”.
وفشلت محاولات بعض وجهاء العمارة للتوسط بين العشيرتين المتنازعتين نتيجة تشدّد أطرافهما وارتفاع أعداد القتلى والخسائر المادية.
يقول الشيخ عبد الحسين عرنوص الغنامي وهو شيخ عشيرة البو غنام بأن ” الأمور تفاقمت حتى وصلت حد الاقتتال بين أبناء المدينة التي شلّت فيها الحياة”.
وعزا السبب إلى ضياع كلمة الشيوخ الكبار وانتشار السلاح بيد كل من هب ودب وعدم تحكيم العقل، مضيفاً أن “الواقع العشائري في العقود الماضية كان أفضل بكثير من حيث الالتزام وانصياع الناس وخاصة الشباب، وتغليب رأي مشايخ ميسان وهو عكس ما نشاهده اليوم”.