24 ديسمبر، 2024 7:31 م

عسكرة المياه كنمط للصراع الدولي وأحد أهم أدوات داعش

عسكرة المياه كنمط للصراع الدولي وأحد أهم أدوات داعش

كتبت – رشا العشري :

تعاملت الاتفاقيات الدولية مع مشكلة المياه الدولية، كما عالجت بعض المعاهدات على مدار السنين قضايا من بينها الحصص المائية وتنظيم الملاحة وصيد الأسماك، وبناء المنشآت العامة مثل الـسـدود، وتـم تعديل بعض المعاهدات ولا سيّما منذ مطلع السبعينيات لتعكس القلق المتزايد حول مختلف المشكلات المائية الآخذة في التزايد والمخاطر. إلا أن الحروب والصراعات المتصاعدة قد جعلت من المياه أحد الأسلحة الهامة في التأثير في الصراع الدائر، لنصل من خلال ذلك إلى مفهوم عسكرة المياه والذي يعتبر من أهم أدوات السياسة والتأثير في مجريات الحرب التي تستخدمها الدول أو الفاعلين عبر قومية.
مفهوم عسكرة المياه
عسكرة المياه هو استخدام المياة كسلاح استراتيجى لبسط النفوذ وتعزيز الأهداف السياسية والعسكرية؛ وذلك بالتلاعب في إمدادات المياه، لتحويلها لسلاح يُستخدم في صراع لا علاقة لها به، وهو ما يُعرف باسم “عسكرة المياه” weaponizing water ، وتختلف السيطرة وفقا للنهج الفاعل والمسيطر بخريطة التنافس الإقليمى؛ وذلك بالنظر لنوع الفاعل إن كان رئيسياً متمثلاً فى الدولة سواء حكومة ذات سيادة كاملة وتلجأ بمقتضاها العسكرة المائية وفقاً لمرتكزاتها القانونية؛ أو فاعل آخر عابر للقومية سواء ذو نمط مسالم كحالة حزب الله أو ذو نمط عنيف وذلك مثل ما ظهر مؤخرا بخريطة الشرق الأوسط والمتمثل فى حالة ( تنظيم الدولة– داعش) ويختلف كلا النمطين باستراتيجيات العسكرة المائية. (1)
على مدار العديد من العصور السياسية تستخدم الحكومات على اختلاف دولها سلاح المياه بدرجة أقل كثيراً من الفاعلين من غير الدول (الفواعل العابرة للقومية)، وربما يعزى ذلك إلى أن الدول تتقيد بالاتفاقيات الدولية التي تحظر استخدام البيئة كسلاح. بالمقابل؛ هناك أنماط تتمثل فى الإلتفاف حول تلك الإتفاقيات باصطناع المواجهه المائية؛ ولعل ذلك ما يظهر بحالة سد النهضة الإثيوبى والذى يشير إلى جملة من الأزمات متداخلة الأبعاد الهيدرولوكية الايكولوجية والسياسية والإقتصادية الأمنية وكذلك الإنسانية . وتختلف طرق التناول العسكرى للمحدد المائى باختلاف الفاعل الرئيسى فى تشكيل دائرة الصراع محل الاهتمام، ما بين فاعل قومي متمثل فى الدولة المحددة بقواعد قانونية ومُلزمة بالإتفاقيات والمعاهدات الدولية. وتعتمد على استراتيجيات التطويق والإلتفاف حول المضمون المائى للإقليم. كما في نموذج سد النهضة واستخدام الآلية السيكولوجية للعسكرة المائية والمتمثلة فى الإرهاب للأمن المائى المصرى. (2)
استخدام العسكرة كنمط للضغط
استخدام المياه كسلاح ليس وسيلة مستحدثة؛ إذ إنه في عام 1914 في الحرب العالمية الأولى فتحت بلجيكا أقفال الأنهار على أعلى مستوى تجاه البحر لإغراق سهل “YSER” المتنازع عليه، كما كانت أداة بشار الأسد في سوريا، وصدام حسين في العراق، اللذان استخدما امدادات المياه لممارسة الضغط على مناطق معينة وتعمد حرمانها منها؛ ففي عام 1990 قام صدام حسين بتجفيف المياه في جنوب البلاد كأداة لمعاقبة السكان المحليين لرفضهم نظام الحكم.
في منتصف الثمانينات بدأ مفهوم العسكرة ، وحدثت بعض التطورات الهامة في مجال البحوث والدراسات المتعلقة بالصراع بين الدول، حيث اهتمت العديد من الدراسات بفهم العمليات التطورية في دراسة العلاقات بين الدول على أساس الصراع، على الرغم من أن هذه الدراسات لم تركز على التنافس صراحة. (3)
الفئات المتعددة لعسكرة المياه
يشير الباحث ماركوس كينج” Marcus King، الأستاذ المساعد في الشؤون الدولية بجامعة جورج واشنطن، إلى إمكانية اندلاع الصراعات على المياه ذاتها، أو نتيجة قيام أي من الفاعلين بالتلاعب في إمدادات المياه، لتحويلها لسلاح يُستخدم في صراع لا علاقة لها به، فيما يُعرف باسم “عسكرة المياه” weaponizing the water. وقد صنف الباحث خمس فئات لعسكرة المياه، اعتماداً على ما إذا كان استخدام سلاح المياه لأسباب سياسية أم عسكرية، وذلك على النحو التالي: (4)
1- العسكرة الاستراتيجية:
هناك نوعان من العسكرة الاستراتيجية، يتمثل النوع الأول في استخدام المياه للسيطرة على مناطق واسعة من الأراضي لتحقيق السيادة، والثاني هو استخدامها كأصل لتمويل الأنشطة كشراء الأسلحة. وتشمل العسكرة الاستراتيجية أيضاً استهداف أو تدمير المراكز السكانية الكبيرة أو المنشآت الصناعية وغيرها من البنى التحتية، ويمثل تنظيم “داعش” أبرز الأمثلة في هذا الشأن.

2- العسكرة التكتيكية:
يتجلى هذا النوع في استخدام المياه كسلاح في ساحة المعركة، لتوفير الدعم المباشر والفوري للعمليات العسكرية، أو استخدامه ضد أهداف ذات أهمية عسكرية كبيرة. ومثال على ذلك ما قامت به “داعش”، في سبتمبر 2014، من تحويل مياه النهر من منطقة حوض شروين بمحافظة ديالى العراقية، وذلك لإعاقة تقدم قوات الأمن العراقية، وإغراقها تسع قرى.

3- أداة للإرهاب النفسي:
ينطوي هذا النوع من العسكرة على بث الخوف في صفوف غير المحاربين من خلال حرمانهم من الوصول إلى إمدادات المياه أو تلويثها. ويلجأ الفاعلون إلى ما يُطلق عليه “الإرهاب المائي”، سواء على المستوى الاستراتيجي أو التكتيكي، مثلما حدث في سوريا في يوليو 2015، حيث هدد “مجلس شورى مجاهدي وادي بردى” بقطع المياه عن عين فيجة، والتي تمد دمشق بماء الشرب.

4- أداة للابتزاز أو التحفيز:

ينطوي هذا الشكل من العسكرة على استخدام المياه كسلاح لضمان شرعية السلطة الحاكمة، أو كمكافأة على الدعم المقدم من المواطنين. ففي يونيو 2014 عندما سيطر “داعش” على الموصل وتكريت، قام التنظيم بقطع المياه عن القرى المحيطة بها، وتم تعطيل تدفق المياه من محطة تنقية مياه الموصل إلى قرى الأقليات المسيحية في ضواحي الموصل، ما تسبب في إرغام السكان على شراء المياه بنحو 6.25 دولار لكل متر مكعب، وهذا ما لم يستطع معظم السكان تحمله.

5- العسكرة غير المقصودة:
عندما يسبب استخدام سلاح المياه أضراراً جانبية على المدنيين أو البيئة الأيكولوجية، يُسمى ذلك بالعسكرة غير المقصودة. ويعد نزوح السكان غير المتعمد شكلاً متكرراً لهذه الأضرار الجانبية. على سبيل المثال، في ديسمبر 2014 أتلف المقاتلون 35% من مرافق معالجة المياه في سوريا، وهو ما نتج عنه تفشي تلوث مياه الشرب في البلاد.

عسكرة المياه في الاستراتيجية الإسرائيلية
ترتكز فكرة عسكرة المياه على التفوق العسكري للدولة بما يضمن لها حماية مواردها المائية، وردع أي محاولات أخرى ضد سياستها المائية، وهو ما يعد إسقاطاً واضحاً على الحالة الإسرائيلية، والتي يعزي موقفها إلى تفوقها العسكري مقارنة بالدول العربية المحيطة، حيث تستند استراتيجية عسكرة المياه في الفكر الإسرائيلي إلى عدد من المحددات المحركة نحو تأمين مصادر المياه الداعمة لبقاء الدولة واستقرارها؛ ولعل من أهم تلك المحددات ما يتمثل في العجز المائي، بالإضافة إلى تدفق الهجرات وما يترتب عليه من زيادة سكانية، وفي المقابل هناك رغبة في التوسع الزراعي في ظل التهديدات البيئية المتسارعة مما يدحض السعي نحو زيادة معدلات النمو الصناعي مما يساهم في ترسيخ الاستراتيجيات العسكرية لتأمين المصادر المائية، وهو مايظهر في المشروعات الاسرائيلية المختلفة وكذلك الحروب المستهدفة لمصادر المياه في كل من لبنان وسوريا، وكذلك بالطرح الخاص بالجدار العازل في الأراضي المحتلة. (5)
بالتالي تلجأ إسرائيل إلى تبنى استراتيجية عسكرة المياه، وذلك على الصعيد الداخلي والخارجي. فعلى الصعيد الداخلي تزداد سيطرتها على مصادر المياه، التي احتلتها بقوة، وعلى الصعيد الخارجي يمتاز سلوكها السياسي بالسعي للسيطرة المباشرة أو غير المباشرة على مصادر المياه المحيطة بها لسد احتياجاتها المحلية المتزايدة. (6)
من ثم اعتمد الـكـيـان الصهيوني فـي أمـنـه الـمـائـي على سـرقـة الـمـيـاه الـعـربـيـة، ســواء مـن الأراضــي المحتلة (فلسطين والجولان) أو من الأراضي العربية المجاورة كالعراق وسورية ولبنان والأردن ومصر. ومنذ أيام الانتداب البريطاني، وقبيل الاحتلال الصهيوني لفلسطين، كان زعماء الحركة الصهيونية والساسة البريطانيون يدركون أن مشكلة المياه ستشكل حجر عثرة في أي تسوية سياسية مستقبلية، لـذا فـإن الصهاينة طالبوا بعد صـدور وعـد بلفور بـأن يمتد احتلالهم (حتى جنوب لبنان) كي يتسنى لهم السيطرة على مياه نهر الليطاني. (7)

آليات السيطرة المائية كأحد أدوات داعش (تنظيم الدولة) لعسكرة المياه:
قامت داعش باستغلال المياه كسلاح ونوّعت آليات وأساليب التعامل مع المياه، والتي مكّنتها من إخضاع الأهالي لسيطرتها، ويُمكن الإشارة إلى عددٍ من الآليات التي استخدمتها للسيطرة على المياه فيما يلي: (8)
1- قطع إمدادات المياه:
تعتمد داعش على إحداث نقص في إمدادات المياه والكهرباء في بعض المناطق عن طريق قطع الأنابيب والكابلات، أو من خلال تحويل مجرى السد، فمن لديه السيطرة على السد يمكنه أن يسبب الجفاف لمساحات شاسعة.
وفي هذا السياق، قامت داعش بقطع إمدادات المياه والكهرباء في سوريا والعراق عن عدة بلدات ومقاطعات مثل “قراقوش” وهي مدينة في شمال العراق فرضت داعش عليها حظرًا تامًّا في يونيو 2014 لأن غالبية سكانها من المسيحيين، وذلك بعد أن استطاعت فرض سيطرتها على سد الرمادي في مايو 2015، وحولت مجرى المياه إلى بحيرة “الحبانية” فانخفضت المياه إلى أكثر من 50%.
كما استطاعت داعش بعد السيطرة على سدود الفلوجة والموصل وسامراء والرمادي فرض سيطرتها على إمدادات المياه في محافظات بابل وكربلاء والنجف والقادسية، مما أثر على تدفق المياه لمحافظة الأنبار والمناطق الشيعية في الروافد الدنيا عن طريق بناء سدود وتحويل مجرى المياه.
2- إغراق المناطق:
تعتمد هذه الاستراتيجية على أن من لديه السيطرة على المياه يستطيع أيضًا إغراق المناطق، إما من المنبع أو من خلال تحويل المياه وإخراج كميات كبيره من المياه دفعة واحدة، فقد شهد إبريل 2014 إغلاق داعش لسد الفلوجة، ثم فتحه لتغمر المياه المحتجزة مناطق واسعة وصلت إلى 100 كم، ودمرت المرافق الحكومية العراقية، كما دمرت أكثر من 10 آلالاف منزل، وما يقدر بحوالي 200 كم من الأراضي الزراعية الخصبة.
وأدى هذا أيضًا إلى إزالة كافة المحاصيل الزراعية بالكامل، وقتل الماشية، وشرّد حوالي 60 ألفًا من السكان الذين فقدوا مصدر رزقهم نتيجة للفيضانات.
3- تسميم المياه:
تستخدم المياه كسلاح من خلال تلويث وتسميم مصادر المياه مما يتسبب في إحداث أضرار بالغة، فقد شهد ديسمبر 2014 تلويث مياه الشرب بالنفط الخام ببلدة صلاح الدين في جنوب كريت، وهناك عدة تقارير أثبتت وجود إمدادات مياه مسمومة في “حلب” و”الرقة” و”بغداد”.
خلاصة القول:
تعتبر عسكرة المياه من أهم الأسلحة وأدوات الحرب التي تستخدمها الدول في التأثير في إدارة الصراع الدائر، أو الجماعات المسلحة كما ذكرنا في حالة “داعش”، وهو يعتبر الأخطر على الأمن العالمي وأمن الدولة الهدف، فقطع إمدادات المياه أو إغراق مناطق بأكملها، أو تسميمها كانت من أهم الاستراتيجيات الناجحة التي عززت سيطرة التنظيم على العديد من المناطق العراقية والسورية، بل وأكسبتها سلاحاً استراتيجياً تحكمت به في ضحايا المدن المتضررة سواء بالاستجابة لمطالبها بدفع أموال طائلة أو الاستجابة لمطالب أخرى. بل وقد فرض ذلك مساومات عدة في صالح التنظيم لسيطرته على أهم المنابع المائية والتحكم في تدميرها، بما ترك أثراً كبيراً على الدولة والبنية التحتية لها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مراجع:
1. إيمان زهران، عسكرة المياه كنمط للصراع في الشرق الأوسط، المعهد المصري للدراسات (اسطنبول: المعهد المصري للدراسات السياسية، أغسطس 2018)، 3-5.

2. المرجع السابق.

3. PAUL R. HENSEL, INTERSTATE RIVALRY AND THE STUDY OF MILITARIZED CONFLICT ( Florida: Florida State University, Department of Political Science, N.D ), p.p 28-33

4. ماركوس كينج” Marcus King، إعداد: وفاء ريحان، أسلحة “داعش”: عسكرة المياه في الصراع السوري والعراقي، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات (أبو ظبي: مركز المستقبل للأبحاث والدراسات ، 21 فبراير, 2016).

5. إيمان عبد المنعم زهران، المحدد المائى کآلية للصراع فى المشرق العربى حالة حوض نهر الأردن 1990-2010 (القاهرة: المكتب العربي للمعارف، 2012).

6. د. محمد سلمان طايع، مصر وأزمة مياه النيل: آفاق الصراع والتعاون (القاهرة: دار الشروق، 2010)
7. عليان محمود عليان، المياه العربية من النيل إلى الفرات: التحديات والأخطار المحيطة، المستقبل العربي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، د.ت )، ص 1-15.

8. توبياس فون لوسو، عسكرة الموارد: كيف استخدم “داعش” المياه كسلاح في سوريا العراق؟، مركز الروابط لبحوث والدراسات الاستراتيجية، فبراير 2016.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة