خاص : ترجمة – لميس السيد :
“أدرك سكان الموصل بعد ترحابهم بتنظيم داعش عند دخوله المدينة، أن شهر العسل لن يدوم طويلاَ وأن الدمار الذي خلفوه كان أكبر من أن يتداركه الجيل الحالي من العراقيين”.
من المعتاد أن الآئمة يرتدون الأبيض ويتحلون بلسان عذب لإقناع الغير، ولكن ما رأه “ياسر سمير أحمد”، أحد حاضري الخطبة الوحيدة لـ”أبو بكر البغدادي” على منبر “مسجد النوري” الكبير في الموصل عام 2014 عند إعلان تنظيم “داعش” مدينة الموصل عاصمة خلافته المزعومة، كان مختلفاً عن ذلك تماماً حيث رأى رجلاً يرتدي السواد من رأسه وحتى إخمص قدميه لدرجة أنه يصبح من الصعب أن تميز معالم وجهه، كان هذا الشخص الملتحف بالسواد هو “البغدادي”..
وبعد ما يقرب من ثلاث سنوات، وجد “ياسر” وعائلته الممتدة, أنفسهم يتسللون خارج أنقاض المسجد المدمر، هاربين من القتال الوحشي أثناء تحرير الموصل، حيث كان التنظيم يستميت من أجل الحفاظ على سيطرته على معقله الأخير.
قالت مجلة “فورين بوليسي” الأميركية، التي نجحت في التحدث إلى أحد الشهود الذين حضروا خطبة “البغدادي” وشاهدوه بأعينهم، وهو “ياسر أحمد”، 25 عاماً، أن رحلته في الهروب من الموصل، تفسر كيف وجد “داعش” الدعم من اهالي المدنية وكيف فقده تماماً، بعد أن تلاعب بسكان المدينة بلا رحمة واستغل المتضررين منهم، وتسلط رحلته أيضاً الضوء على صعوبة استعادة الحكومة العراقية العلاقة مع مواطني الموصل الذين فقدوا الثقة بهم وإضطروا إلى اللجوء لتنظيم “داعش” أملاً في إصلاحاتهم الوهمية.
فر “ياسر” وأقربائه من الموصل ليصلوا إلى خطوط الجيش العراقي, حيث استقر هو وأبيه في منزل بشرق المدينة، اشتريا ملابس جديدة وحلقا لحاهم وتناولا الطعام، إلا أن ملامح الحرمان لا تزال ظاهرة على وجوههم، بعد أن فقد “ياسر” إخوته “محمد وأحمد”، بعدما لقوا مصرعهما في أيار/مايو الماضي.
يقول “ياسر”: “ليس لدي أي ذكريات باقية قبل ذلك الوقت.. لقد محا “داعش” كل شيء.. وعندما فقدت إخوتي، فقدت كل ذكرياتي الجيدة”.
كواليس الخطبة الوحيدة للبغدادي في الموصل..
استعاد “ياسر” ذكرى يوم 5 تموز/يوليو 2014، بعد استيلاء التنظيم على المدينة قبل ذلك بعدة اسابيع، أول ما لاحظه المواطنون في الموصل، هو رحيل الجيش العراقي وهو ما سمح لهم التجول بحرية عبر نهر “دجلة” وصولاً إلى البلدة القديمة في الموصل.
ويروي “ياسر” أن المتحمسين لـ”داعش” التفوا حول “مسجد النوري”, وعندما رأى “ياسر” واصدقاءه الحشد قرروا الدخول، وسط التشديدات الأمنية حول المسجد وانعدام تغطية شبكات المحمول بمجرد الدخول إلى ساحته.
دخل “ياسر” إلى المسجد، عندها رأى مشهد منظم الحركة تماماً لـ400 داعشي مكتظين بالداخل، بالإضافة إلى أشخاص عاديين مثله كانوا يقفون لمراقبة صعود الإمام الذي سيلقي الخطبة، وإذا بـ”البغدادي” يصعد إلى منبر “الهضبة” للحديث، وقال: “يا شباب ليس لكم عيش هنا.. ان الحكومة تدفعكم إلى حد المنتهى.. ونحن سنحرركم”.
رد الكثيرون في المسجد المزدحم بحماسة على توجيهات “البغدادي” القوية إلى الجهاد, وترددت عبر الموصل كرسالة موجهة للسكان كلهم. يقول والد “ياسر”، 55 عاماً: “عندما جاءوا الداعشيين لأول مرة، شعرنا وكأنها الجنة.. لأن الناس عانت كثيراً تحت حكم الجيش”.
شهدت العراق, في العقد الذي أعقب الغزو الأميركي للعراق، تحول الموصل إلى بؤرة متمردين, وقد أصبح الاعتقال عشوائي والمضايقات وابتزاز المواطنين من قبل قوات الأمن العراقية أمر روتيني. وقد احتجز ابن عم “ياسر”, البالغ من العمر 14 عاماً عندما كان يجلس في مقهى لا يفعل شيئاً سوى تدخين الشيشة وألقي في زنزانة السجن لمدة ثمانية أشهر.
قال “ياسر” إن وقع كلمات “البغدادي” اصابه بالإعياء, لأنه لم يكن فقط يذم في الجيش والشرطة, بل كان يقول انهم مرتدين.
لا وجه للمقارنة بين الجيش وخلافة “داعش”..
قالت المجلة الأميركية أن انتقادات العراقيين للجيش لم تكن تزن شيء مقابل ما خلفه “داعش” من احتلال الموصل لمدة ثلاث سنوات، وأن كل من حضروا تلك الخطبة المشئومة للبغدادي هم اليوم في عداد الموتى، وقليل ممن حضروا يوافق على تحدي الحديث عن تلك الخطبة، نتيجة لمناخ الموصل الحالي الذي يسيطر عليه الاعتقالات والخوف والاختفاء القسري، حيث رفض اثنين ممن حضروا الخطبة التواصل مع المجلة، ويقول احد الآئمة المحليين أن إماماً من “مسجد النوري” قد عبر عن أرائه التي بدت انها كانت موازية لأراء “البغدادي” في احد المقابلات الصحافية، قد تم فصله من المسجد وهو الآن مطلوب من قبل الأمن.
وتقول “فورين بوليسي” أن بداية وجود “داعش” في المدينة، كان ينذر بأن الحياة تحت حكمهم لم تبدو سهلة كما كان يظنها اهلها، حيث أزال التنظيم ابراج الهاتف الخلوي وأطباق الأقمار الصناعية وكبح التواصل مع العالم الخارجي, وعندما أصبحت المدينة معزولة توقف معظم الناس عن العمل. وبدأت الشرطة الدينية في إنفاذ قوانين اللباس الإسلامي، وحظر التدخين، ومحو الصور التي تحتوي على اجسام بشرية بحجة حرمانيتها، “ثم بدأ الناس يفهمون من هم داعش حقاً”، حيث قدر “ياسر” فترة شهر العسل بين الموصليين و”داعش” بأقل من 6 أشهر.
بعد عام من غزو “داعش” مدينة الموصل، بدأت الحملة الجوية للتحالف الدولي ضرب أهداف تنظيم “داعش”, وبدأت بعدها الكهرباء, والخدمات الأخرى, بالإنقطاع وتم إعدام المدنيين من قبل التنظيم بسبب مخالفات غير رئيسة مثل امتلاك بطاقة هاتف خلوي, وتم قتل أخرين عن طريق الخطأ إثر الغارات الجوية.
قرر وقتها “ياسر” تنقل عائلته لغرب الموصل, بعد أن دمر “داعش” جامعة الموصل وقتل أكثر من 300 شخص، ظناً منه أن المدنية القديمة ستكون مأوى وأمان بالنسبة له وعائلته، ولكن ما حدث كان عكس ذلك، حيث حددت إقامتهم هناك، ولم يعد بإمكانهم الإنتقال عبر نهر “دجلة” للوصول إلى شرق المدينة، بعد أن تقدم قوات الأمن العراقية بإتجاه الموصل في تشرين أول/أكتوبر الماضي.
ومع قيام قوات الأمن العراقية بتحرير أحياء في غرب الموصل، بدأ حصار المدينة القديمة، وانخفضت الإمدادات. وعندما قتل إخوات “ياسر” جراء انفجار قذائف “الهاون”، قام “ياسر” وأبيه بدفن جثامينهم في حفرة بحديقة المنزل الذي كانوا يقيمون فيه. لم يكن هناك وقت أو مساحة لحفر قبرين. ومع اقتراب القتال من منزلهم، تحركت العائلة مرة أخرى. وبعد بضعة أيام، دمر المنزل الذي كان يضم قبر إخوته إثر غارة جوية.
ويعلق “ياسر”: “لقد تمنيت كثيراً أن أموت معهما، لأن غير ذلك، كنت أموت طوال الوقت”.
وأخيراً، في صباح أحد الأيام، هربت الأسرة بأكملها. ويسرد “ياسر”: “عندما خرجنا من المدينة القديمة، شعرت بأن عيني كانت على وشك أن تخرج من مكانها.. حرمنا من الطعام والشراب والنوم والراحة وهنا يمكن أن تعتبر نفسك ميتاً”.
خرجت العائلة من تحت الأنقاض، ورأوا “مسجد النوري” مدمراً. وفي أواخر حزيران/يونيو الماضي، عندما قاتلت القوات الخاصة العراقية افراد “داعش” المتبقيين على بعد 50 ياردة من المسجد، قام مقاتلو التنظيم بتفجير هيكل المسجد لحرمان الحكومة العراقية من أي دعاية قوية بإسترداد معقل “داعش”.
يقول “ياسر”: “كان الكثير من الناس يأملون في أن يبقى المسجد والمئذنة على قيد الحياة.. لأنهما الرمز الأخير لتراث الموصل”.
بالنسبة إلى والد “ياسر”، كان رؤية المسجد المدمر مؤثراً في نفسه, تقريباً مثل وفاة أبنائه، حيث قال وهو يمر بجانب حطام المسجد: “ذهبت المأذنة، إذاً ذهبت الموصل”.
مشاعر مختلطة تجاه الجيش العراقي..
توضح المجلة الأميريكة أن العائلة تتمنى من الجيش العراقي استعادة علاقته مع المواطنين، وذلك من أقوال “ياسر”, قائلاً: “لا أحد يكره الجيش الآن.. لقد فقدنا أهلنا.. ونحن لسنا الوحيدون في ذلك ولكننا أحياناً يجب أن نضحي من اجل الأفضل”.
وبسؤال المجلة، لوالد “ياسر”, عن توقعاته نحو مدى إستمرار تلك العلاقة الطيبة مع الجيش، قال: “هذا يعتمد على سلوك الجيش.. وما إذا كان سيعود مجدداً لإيذاء المدنيين”.
هناك بالفعل مؤشرات مقلقة، حيث انه مع انتهاء قوات الأمن العراقية من تحرير المدينة القديمة، تم التعامل مع كل رجل تقريباً في سن القتال كمشتبه به محتمل. وفي ظل القيود المفروضة على السماح لوسائل الإعلام الأجنبية بتغطية الأيام الأخيرة من القتال، نشرت على “الإنترنت” سلسلة من أشرطة الفيديو المثيرة للقلق، تبين أن المشتبه فيهم من تنظيم “داعش” يتعرضون للضرب والإعدام من قبل أفراد قوات الأمن. وأظهرت صور أخرى, نشرت على “الإنترنت”, مئات من الرجال المحتجزين في مراكز احتجاز مكتظة.
وإختتمت العائلة امنياتها بالعودة إلى المنزل الذي دفنوا به الأبناء، الذين لم يتعدوا العشرين من عمرهم، حيث قال الأب: “أود أن ادفن ابنائي في شرق المدينة، فـأنا لم أحزن عليهما بعد”.