وكالات – كتابات :
دعت مجموعة من الدبلوماسيين الفرنسيين – بلغ عددهم نحو: خمسمائة؛ بجانب ست نقابات مهنية ذات صلة بالعمل الدبلوماسي – إلى إضراب واسع النطاق؛ يوم 02 حزيران/يونيو 2022؛ وذلك اعتراضًا على تدهور أوضاعهم الوظيفية – على حد تعبيرهم – بعد إقرار بعض التعديلات الخاصة بقوانين العمل الدبلوماسي في “فرنسا”؛ في شهر نيسان/إبريل الماضي.
إلا أن النظرة المتعمقة لبيئة العمل الدبلوماسي الفرنسي، تُشير إلى تعدد الدوافع من وراء هذه التظاهرات، وأن مرجعها لا يعود إلى سبب واحد، فضلاً عن حملها مجموعة متنوعة من الدلالات التي تعكس حجم التحديات التي تواجه “الخارجية الفرنسية” في الوقت الراهن؛ كما رأى “د. يوسف داوود”، مقاله التحليلي الذي نشره موقع مركز (إنترريغونال) للتحليلات الإستراتيجية.
إذ عكس تصاعد احتجاجات الدبلوماسيين الفرنسيين؛ في الآونة الأخيرة، والدعوة إلى الإضراب عن العمل، تخوف هؤلاء الدبلوماسيين من تأثير تعديلات قوانين العمل الدبلوماسي على مكانتهم ومزاياهم، وكذلك التخوف من تراجع الدور الفرنسي في الخارج.
ولا يمكن إغفال أن تصاعد هذه الاحتجاجات يفرض ضغوطًا على الحكومة الفرنسية الجديدة، ويمكن أيضًا أن يؤثر على الانتخابات البرلمانية الجديدة.
دوافع جوهرية..
يرتبط إضراب الدبلوماسيين الفرنسيين بعدد من الدوافع الرئيسة المتمثلة فيما يأتي:
01 – تعديل هيكل الخدمة العامة في “فرنسا”: وفقًا لتعديلات قوانين العمل الدبلوماسي؛ في نيسان/إبريل الماضي، من المتوقع أن يجري خلق طبقة جديدة من كبار الموظفين الإداريين الفرنسيين ستنخرط في رسم السياسة الخارجية لـ”باريس”؛ ما قد يؤدي إلى إنزواء درجتَي المستشارين والوزراء المفوضين في “الخارجية الفرنسية”؛ حيث من المستهدف تقليص عدد الموظفين بـ”الخارجية” إلى النصف على مدى ثلاثين عامًا.

بالإضافة إلى ذلك، لن يجري توزيع كبار الدبلوماسيين؛ (الدرجات العليا)، على إدارات معينة على نحو دائم، بل سيتم تدويرهم باستمرار بين إدارات الوزارة المختلفة، وهو ما يراه هؤلاء انتقاصًا من الخبرات التي راكموها في مجال معين، وتشتيتًا لجهودهم.
وقد مثَّلت هذه التعديلات الشرارة الرئيسة؛ التي أطلقت هذا الإضراب؛ فبالرغم من اعتماد هذه التغيرات في شهر نيسان/إبريل، فإن الدبلوماسيين كانوا يترقَّبون نتائج الانتخابات الرئاسية وتشكيل الحكومة الجديدة التي كانت ربما تُوقِف هذه التعديلات عن الدخول في حيز النفاذ.
02 – التخوف من تراجع الدور الفرنسي الخارجي: لم تفرز هذه التعديلات نوعًا من السخط الداخلي بشأن مستقبل الدبلوماسية الفرنسية فحسب، بل امتد أثرها إلى إعادة التساؤل حول دور “فرنسا” على الصعيد الدولي؛ حيث تساءل “دومينيك دو فيليبان”؛ وزير الخارجية ورئيس الوزراء السابق، عن مدى تشكيل هذه التعديلات نوعًا من تراجع القوة الفرنسية أمام الهيمنة الأميركية؛ فلطالما لعبت الدبلوماسية الفرنسية أدوارٍ موازنة ومعارضة النفوذ الأميركي، مثل معارضة التدخل العسكري في “العراق”؛ عام 2003، أو عند التوصل إلى “اتفاق باريس” حول المناخ؛ عام 2015، الذي قوبل بمعارضة قوية من “واشنطن”؛ لذلك فإن هذه التعديلات أعطت التيار الدبلوماسي المتشدد – أي التيار الناقم على ميل “باريس” إلى التبعية لسياسة “واشنطن” الخارجية – مجالاً لتأكيد وجهة نظرهم وعززت من الدوافع المؤدية إلى هذا الإضراب.
03 – نقص إمكانات الخدمة في الخارج: منذ نحو خمس سنوات، ارتفعت الأصوات داخل “الخارجية الفرنسية” المنادية بضرورة إجراء إصلاح مالي وإداري يُمكِّن الدبلوماسية الثالثة على مستوى العالم – من حيث عدد البعثات – من تحقيق أهدافها؛ وذلك في ظل معاناة البعثات التمثيلية من ضعف الموارد.
وقد ألقت هذه الإشكالية الممتدة بظلالها على دوافع الإضراب الحالي؛ إذ تم ضم مطلب تحسين الأوضاع المعيشية للدبلوماسيين الفرنسيين إلى قائمة المطالب الخاصة بالتدهور المتوقع في الوظيفة ذاتها.
صحيح أن هذا الدافع ليس سببًا مباشرًا وراء الإضراب، نظرًا إلى تفاقمه عبر سنوات طويلة، إلا أنه يُعتبر العامل المشترك لدى السواد الأعظم من الدبلوماسيين المشاركين في الإضراب مشاركةً فعلية أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
04 – تعقيدات الواقع الدولي الحالي: لا يمكن تناول تراجع الإمكانات المادية والتغير الجوهري المتوقع في الدبلوماسية الفرنسية، بمعزل عن ظروف الواقع الدولي الضاغطة التي عمل الدبلوماسيون الفرنسيون في ظلها؛ خلال الأعوام الأخيرة؛ حيث إن تكاتف هذه الظروف مع عدم تحسين أوضاعهم قد خلق شعورًا لديهم بأن تضحياتهم غير مُقدَّرة.
في ذات السياق؛ تُجدر الإشارة إلى التحديات التالية: تحديات انتشار فيروس (كورونا)، وتعاقب الأزمات، مثل عمليات الإجلاء من “كابول”؛ بعد انتصار (طالبان)، في آب/أغسطس 2021، والحرب “الروسية-الأوكرانية”؛ وما أعقبها من طرد “روسيا” للدبلوماسيين الأجانب، ناهيك عن تفاقم الأوضاع في “مالي” والهزيمة “الدبلوماسية-العسكرية” في صفقة غواصات (أوكوس).
هذا وقد عبر عدد من السفراء عن اندهاشهم من تقليص إمكانات الدبلوماسية الفرنسية في ظل اندلاع الحرب في “أوروبا”، وما تفرضه من ضرورة توسيع أدوار الدبلوماسية لا تقليصها؛ لذا تُعد تعقيدات وعوائق النظام الدولي من دوافع الإضراب، خاصةً إذا صنَّفها الدبلوماسيون أنفسهم بأنها عناصر فشل وتراجع تأثير.
دلالات الاحتجاج..
ينطوي احتجاج الدبلوماسيين الفرنسيين – الذي يُعد احتجاجًا نادرًا؛ وفي الوقت ذاته كسرًا للكثير من التقاليد السياسية – على عدد من الدلالات الرئيسة المتمثلة فيما يأتي:

01 – تكاتف مختلف الدرجات الوظيفية حول الإضراب: عكس الإضراب مستوى غير مسبوق من التكاتف لدى مختلف الدرجات الوظيفية في “الخارجية الفرنسية”؛ فقد نشر العديد من السفراء والمديرين الإقليميين الرفيعي المستوى دعمهم للحركة على (تويتر)؛ خلال الأيام القليلة الماضية، تحت هاشتاغ: (# Diplo2métier).
كما أعلن بعض السفراء في الخارج، مثل السفيرة الفرنسية في الكويت؛ “كلير لو فليشر”، والسفيرة الفرنسية في عُمان؛ “فيرونيك أولغنون”، بأنهما ستُضربان عن العمل في فترة الإضراب في “باريس”، كما قام آخرون – مثل “فيليب إيريرا”؛ مدير الشؤون السياسية في “الخارجية الفرنسية” – بإعادة تغريد عمود نشرته مؤخرًا مجموعة الدبلوماسيين الشباب.
هذا؛ ويعكس التكاتف خروج المطالب عن الطابع الفئوي الضيق لتمتد إلى المؤسسة ككل، وهو ما قد ينبيء بتعطل نسبي في نشاط الدبلوماسية الفرنسية على كل المستويات خلال الفترة المقبلة.
02 – مهمة صعبة لوزيرة الخارجية الجديدة: يأتي هذا الإضراب الأول من نوعه منذ نحو: 20 عامًا، بعد أيام قليلة من تعيين؛ “كاترين كولونا”، وزيرةً للخارجية، خلفًا لـ”جان إيف لودريان”، وهي الوزيرة المعروفة بتبنيها الصارم لمشروع “الاندماج الأوروبي”، وتأكيد دور “فرنسا” الإقليمي في محيطها الجغرافي؛ لذلك فإن هذا الإضراب يُعتبر تحديًا مباشرًا لقدرة الوزيرة الجديدة على إثبات وجهة نظرها والدفاع عن مزايا مؤسستها وسط الحكومة الجديدة، وربما مواجهة “الإليزيه” والنفاذ إلى أوساط “الجمعية الوطنية”؛ (البرلمان)، إن لزم الأمر.
وهكذا فإن هذا الإضراب يُمثل تحديًا للدبلوماسيين على المستوى التنفيذي، ولتماسك الحكومة الفرنسية الجديدة ذاتها.
03 – إعادة تعريف أدوار المؤسسات في “فرنسا”: بتسليط الضوء بدرجة أكبر على دوافع “ماكرون” لإجراء التعديلات الوظيفية المشار إليها سابقًا، يتضح أن المسألة تتعدى فكرة ترشيد موارد وزارة بعينها أو تجربة مقاربة جديدة لتنشيط العمل الخارجي للدولة الفرنسية على نحو أكثر فاعليةً؛ ففي الوقت الذي يتم فيه تقليص ميزانية الخارجية بنسبة: 30% على مدار: 10 سنوات، من المقرر زيادة ميزانية الدفاع بنسبة: 23%؛ خلال 05 سنوات فقط.
من هنا، فإن الإضراب الأخير ما هو إلا جرس إنذار من إنزواء حجم الدبلوماسية والقوة الناعمة في رؤية الحكومة الحالية تجاه النفوذ الفرنسي الخارجي، في مقابل الاعتماد على إستراتيجية الردع والقوة الصلبة التقليدية.
ومما لا شك فيه، أن الحرب “الروسية-الأوكرانية” ساهمت في تسريع وتيرة إدخال هذه التعديلات، التي تُعتبر نتاج عملية إعادة مراجعة داخلية لأدوار المؤسسات الحكومية، وما يستتبعه ذلك من إعادة تخصيص للموارد.
04 – تأثيرات على الانتخابات البرلمانية: مما لا شك فيه، سيُلقي هذا الإضراب بظلاله على مسار الانتخابات البرلمانية؛ المقرر إجراؤها يومي: 12 و16 حزيران/يونيو الجاري؛ حيث من المتوقع أن يستغله مرشحو كتلة اليسار المعارضة بقيادة؛ “جون لوك ميلونشون”، أو كتلة اليمين المتطرفة الأكثر تماسكًا تحت القيادة الموحدة؛ لـ”مارين لوبان”، للحصول على ثقة فئة أكبر من الناخبين، على اعتبار أن “ماكرون” وحكومته لم ينجحا في على الحفاظ على تماسك المؤسسات الحكومية، ناهيك عن صعوبة الحصول على تعاطف المعارضين.
هذا وإن كان الدبلوماسيون على قدر كبير من المهنية التي تمنعهم من البوح بإنتماءاتهم السياسية، فإن هذا لا يمنع وجود علاقات متشعبة بين بعضهم وبين قادة الأحزاب المختلفة، بواقع مواقعهم الحيوية ونفاذهم لدى دوائر صنع القرار في الدول المختلفة، خاصةً علاقتهم بكوادر حزب (الجمهوريين) من رجال الأعمال الذين يحتفظون بمصالح تجارية واستثمارية في عدد كبير من الدول؛ ما يتيح لهم المجال عادةً لإقامة علاقات قوية بالسفراء المعتمدين بهذه الدول.
خلاصة القول: لا يمكن تناول إضراب الدبلوماسيين الفرنسيين بمعزل عن التحديات التي تواجهها الحكومة الفرنسية في الداخل أو عن السياق الدولي بما يفرضه من تعقيدات.
وقد عكست الدلالات المشار إليها؛ حجم المتغيرات المحيطة بهذا الإضراب، وما قد يصل إليه الوضع الداخلي من هشاشة متضاعفة إذا أفضت الانتخابات البرلمانية إلى تغيير وزاري سريع ينبيء بمزيد من الانقسام داخل السلطة التنفيذية التي يُعاني قائدها أصلاً – وهو الرئيس “ماكرون” – من تراجع في الشعبية رغم فوزه في الانتخابات الأخيرة.