وكالات – كتابات :
نشرت صحيفة (الغارديان) البريطانية تقريرًا أعدَّته الصحافية، “كاتي ماكو”، التي تغطي قضايا حقوق الإنسان والطاقة والرعاية الصحية، تتناول فيه قصة المرأة الفلبينية التي سافرت إلى “السعودية”، قبل ستة أعوام؛ لتحسين ظروفها المالية الصعبة من خلال العمل بوظيفة خادمة، لكنها اختفت بعد مدة وجيزة من وصولها.
اليأس من الفقر يسوق إلى الشرق الأوسط..
في مستهل تقريرها؛ تُشير “ماكو”؛ إلى أن الفلبينية، “إيديلين إبوردا أستوديلو”، البالغة من العمر (36 عامًا)، أرادت توفير حياة أفضل لأطفالها الثلاثة، فقررت، في أوائل عام 2015، السفر إلى الشرق الأوسط للعمل في وظيفة خادمة منزلية. ومرت “إيديلين”، التي كانت تعيش في مدينة “مارفيليس”، بـ”الفلبين”؛ مع زوجها، “كريسانتو”، وأولادهما الثلاثة، بظروف صعبة للغاية لأنها وزوجها كانا عاطلين عن العمل لمدة ست سنوات حتى تسلل إليهما اليأس.
ويُوضح التقرير؛ أن “إيديلين” تقدمت بطلب إلى وكالة توظيف فلبينية؛ تُدعى: “مانوموتي للأيدي العاملة”، وسرعان ما جاءتها فرصة عمل في “السعودية” في وظيفة خادمة منزلية. وسافرت “إيديلين” إلى “السعودية”، حيث عملت خادمة في منزل لزوجين يعيشان في منطقة “الطائف”، (في غرب السعودية). لكن أسرتها لاحظت بعد وصولها تقريبًا أن الأمور ليست على ما يرام. إذ صادر أصحاب العمل، (العائلة السعودية)، هاتف “إيديلين”، ولم يسمحوا لها بالتحدث إلى عائلتها إلا مرة واحدة في الشهر. وفي إحدى هذه المرات، ألمحت “إيديلين”، لزوجها “كريسانتو”؛ أنها تعرضت لإيذاء جسدي أيضًا.
يُتابع التقرير أنه في إحدى المكالمات، التي اتصلت فيها “إيديلين” بزوجها، “كريسانتو”، في منتصف النهار، طلبت التحدث إلى أطفالها، وعندما علمت أنهم في المدرسة بدأت تبكي. وأثناء ذلك وفي الخلفية، سمِع “كريسانتو” صراخ سيدة، وهي ربة المنزل، تقول: “توقفي ! توقفي عن ذلك !”؛ ثم إنقطع الاتصال مع “إيديلين”. وكانت هذه المكالمة، بتاريخ 26 آب/أغسطس 2015، ولم يسمع عنها شيء منذ ذلك الحين.
قضية متخمة بالمستندات والوثائق..
لفت التقرير إلى أن دول الخليج الغنية بـ”النفط”؛ تعتمد على ملايين من العمالة الوافدة من دول في: “إفريقيا” و”آسيا” والدول العربية الفقيرة للعمل في وظائف منخفضة الأجر، كأعمال البناء والضيافة، والعمل في الخدمة المنزلية. وتُعد “السعودية” الوجهة الأساسية للعمال الفلبينيين في الخارج. لكن بعضًا منهم، مثل “إيديلين”، لم يعودوا إلى أوطانهم أبدًا.
وأكدَّ التقرير أن صحيفة (الغارديان) راجعت أكثر من: 40 صفحة من الوثائق والمستندات ورسائل البريد الإلكتروني المتعلقة بقضية “إيديلين”، موضحةً أن عائلة “إيديلين” لم تتلقَ أي رد من السلطات السعودية لمعرفة ما حدث لها، والتي تسبب اختفاؤها في إصابة أطفالها الثلاثة: (كريس إدريكس، 19 عامًا، وكريسلين جين، 17 عامًا، وكريستين جوي، 13 عامًا) بصدمة.
ويُلقي التقرير الضوء على ظروف عائلة “إيديلين”؛ التي تدهورت في عام 2009، بعدما فقد “إيديلين” و”كريسانتو”؛ عملهما في المصانع خلال الركود الاقتصادي العالمي. ولم يكن يساعدهما في مواصلة العيش سوى بعض القروض والدعم المالي الذي كانا يحصلان عليه من الأقارب، بالإضافة إلى أن “كريسانتو” كان يشتغل في أي عمل يُعرض عليه. وأصبح فقر العائلة وديونها ساحقًا جدًّا، لدرجة أنه لم يكن هناك خيار سوى سفر أحد الوالدين إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة لجني الأموال.
وفي هذا الصدد؛ تقول لو “أستوديلو أمبيتا”، شقيقة “كريسانتو”، إن: “إيديلين؛ كانت تحلم بأنْ تبني منزلًا جديدًا لعائلتها، وأن تكون قادرة على شراء طعام أفضل وتوفير ما يحتاجه أطفالها من أدوات. وكانت تراودها أحلام كثيرة، غير أنها لم تُحقق أيَّ شيء منها بعد اختفائها. وهذا أمر مؤسف جدًّا”.
ويُشير التقرير إلى أن عائلة “أستوديلو”؛ كانت قد استأجرت غرفة في منزل صغير مشترك مع ثلاث عائلات أخرى. وكانت غرفة المعيشة الخاصة بهم هي نفسها غرفة نومهم ومطبخهم، وكانوا ينامون على الحصير على الأرض، ولم يكن هناك إمكانية للوصول إلى الإنترنت. يقول “كريسانتو”؛ إن: “إيديلين مرِحَة وذكية وحنونة. وكان أحد أوقاتي السعيدة المفضلة عندما نحلم سويًّا أننا في يوم من الأيام سيكون لدينا منزلًا خاصًّا”.
العامِلة المنزلية مجرمة.. حتى لو أسيء إليها !
يُوضح تقرير (الغارديان)؛ أن الخادمة المنزلية الوافدة إلى دول الخليج تعمل بموجب “نظام الكفالة”، الذي يربط وضعَ العاملات القانوني بصاحب العمل ويجعلهن خاضعات له. على الرغم من أن العمل بهذا النظام أصبح غير قانوني حاليًا في معظم دول الخليج، وحظَرت “السعودية”، في عام 2015، مصادرة أصحاب العمل جوازات سفر العمالة الوافدة، حتى لا يتحكَّموا في تحركاتهم كما كان يحدث عادةً.
ويضيف التقرير أنه؛ إذا خرقت أي عاملة منزلية عقدها وغادرت الدولة الخليجية أو فرَّت من المنزل، لأنها ضحية لسوء المعاملة؛ تكون قد ارتكبت جريمة. وأثار “نظام الكفالة” انتقادات واسعة النطاق من منظمات حقوق الإنسان، ووصفته منظمة “هيومن رايتس ووتش” بأنه: “تعسفي” و”استغلالي”.
وأكدَّ التقرير أن الوثائق التي راجعتها صحيفة (الغارديان)؛ تعطي انطباعًا محيرًا لأنها تكشف عن أن السلطات الفلبينية أو وكالة التوظيف لم تفعل شيئًا للمساعدة في تحديد مكان “إيديلين”، لمدة ثلاثة أشهر على الأقل؛ بعد إخطارها بأن “إيديلين” ربما تعرَّضت للأذى. ولم تستجب وكالة “مانوموتي للأيدي العاملة” لأكثر من طلب من الجريدة للتعليق على تلك الحادثة.
وفي كانون أول/ديسمبر 2015، اتصلت “القنصلية الفلبينية”، في “جدة”، وهو أول تحرك لاتخاذ إجراء بشأن الحادثة، بمالك المنزل الذي تعمل فيه “إيديلين”، وهو مواطن سعودي تعرف صحيفة (الغارديان) اسمه، لكنها حجبت اسمه لأنها لم تتصل به للتعليق على الحادثة. وبعد ذلك، قدَّم صاحب العمل بلاغًا إلى السلطات السعودية يُفيد بأن “إيديلين”، هربت في يوم 21 أيلول/سبتمبر 2015، وبناءً عليه، برَّأ نفسه من أي تبِعات أو مسؤولية ربما تقع على عاتقه.
وأوضح التقرير أنه بموجب “نظام الكفالة”، في “السعودية”، تُعد “إيديلين” حاليًا مجرمة؛ لأنها هربت من منزل رب عملها؛ سواء كانت ميتة أو على قيد الحياة. كما أن “القنصلية الفلبينية”، في “جدة”، تتماشى مع هذه السردية الخاصة بالأحداث.
الإعفاء من المسؤولية..
وبعد مرور 15 شهرًا على إنقطاع الاتصال بـ”إيديلين” أو غيابها، أوضحت “قنصلية الفلبين”، في “جدة”، عبر رسالة بالبريد الإلكتروني، في تشرين ثان/نوفمبر 2016، أن: “بلاغ الهروب المقدم من صاحب العمل إلى سلطات الهجرة والجوازات يُعفيه من أي مسؤولية عما يحدث للعاملة المنزلية، ولذلك، لا يوجد أساس قانوني لإقامة دعوى قضائية ضد صاحب العمل المذكور في هذا الوقت”.
وأفاد التقرير بأن عائلة “إيديلين” لا تعتقد أنها هربت، مؤكدة أنها كانت ستتصل بهم طيلة هذه المدة. وتُصر العائلة على أنه من المستحيل أن تتوقف تلك الأم الحنون طواعيةً عن الاتصال بأطفالها على مدار الأعوام الستة الماضية. تقول لو: “أعتقد أن صاحب عملها أساء إليها. فإذا كانت قد ماتت، نود أن نعرف مكان جثمانها”.
وعلى الرغم من المحاولات العديدة، لم ترد “القنصلية الفلبينية” على طلبات صحيفة (الغارديان) للتعليق على الحادثة. ويُوضح مواطن سعودي عمل لمدة وجيزة على قضية “إيديلين”، والذي تحدث بشرط عدم الكشف عن هويته خوفًا من الانتقام المهني، قائلًا: “في بعض الأحيان، يتعاملون مع هذه القضايا على أنها مجرد حالات، على الرغم من أن الخادمات المنزلية بَشَر ولديهن حياتهن وأسَرهِن التي تتأثر بغيابهن. وكان من الممكن التحقيق في القضية بمزيد من الدقة”.
وفي السياق ذاته؛ أكدَّت “روثنا بيغم”، كبيرة الباحثين في قسم حقوق المرأة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في منظمة “هيومن رايتس ووتش”، أنه ليس من الشائع؛ فحسب أن يُقدِّم أصحاب العمل بلاغات هروب مزيفة، بل إنهم في بعض الأحيان يفعلون ذلك بينما لا تزال العاملة المنزلية موجودة في منزلهم.
وأوضحت “روثنا” أن: “صاحب العمل الذي يقدم بلاغ هروب عن الخادمة يهدف منه جزئيًّا إلى إعفاء نفسه من دفع ثمن تذكرة عودة الخادمة إلى بلادها، لأن مثل هذه الخادمة تُعد خارِقة لقوانين نظام العمل والهجرة، ومعرَّضة لخطر الاحتجاز والترحيل”، مضيفةً أن بلاغ الهروب الكاذب عن خادمة منزلية على أنها مفقودة يُعد أيضًا إحدى الطرق التي يستخدمها أصحاب العمل لتجنب دفع رواتب الخادمات مع الإحتفاظ بهن يؤدين عملهن دون تحمُّل أي مسؤولية أو عواقب تُذكر.
واستدعت “روثنا” إلى الأذهان؛ قضية احتُجزت فيها عاملة منزلية هندية في منزل لمدة 16 عامًا، حتى تمكَّنت من توصيل رسالة إلى عائلتها، مشيرةً إلى أن: “صاحب العمل الذي احتجزها طيلة هذه المدة؛ لم يُقبض عليه استنادًا إلى قوانين العمل الجبري، أو الاستعباد في الخدمة المنزلية، أو لارتكابه جريمة بسيطة تتمثل في مصادرة جواز السفر”.
هل يعني هذا أن “إيديلين” قد تكون على قيد الحياة ؟
يُجيب التقرير عن السؤال؛ مرجحًا أنه كان من الممكن أن يساعدنا تفتيش منزل صاحب عملها بعد مدة وجيزة من اختفائها في تحديد هل هي على قيد الحياة أم لا. لكن الوثائق التي أطلَّعت عليها صحيفة (الغارديان) تُشير إلى عدم إجراء أي تفتيش. وفي كانون ثان/يناير 2018، أفاد تقرير بأن إدارة التوظيف الفلبينية في الخارج تقدمت إلى السلطات السعودية، في كانون ثان/يناير 2017، بطلب لتفتيش منزل صاحب العمل، غير أنها: “لم تتلق ردًّا على المراسلات الرسمية المرسلة بخصوص هذه القضية”.
كما لم يرد مركز التواصل الدولي التابع للحكومة السعودية على الأسئلة المتعلقة بالمساعدة التي قدمها في قضية “إيديلين”، وأسئلة أخرى بشأن هل السلطات السعودية تحقق عادةً في بلاغات فقدان عمالة وافدة أم لا. تقول “روثنا”؛ إن: “الحكومات الخليجية لا تُجري تحقيقات عن العمالة المفقودة. والفرضية السائدة تتمثل في هروب هذه العمالة أو الإلتحاق بعمل غير شرعي”.
ويُشير تقرير (الغارديان) إلى ما ذكرته منظمة “هيومن رايتس ووتش” و”منظمة العمل الدولية”، التابعة لـ”الأمم المتحدة”، أن الإحصائية الدقيقة لأعداد العمالة الوافدة المفقودين في الخليج مبهمة. وتؤكد “روثنا” أن: “عديدًا من العمالة تختفي كل عام. ويجب على حكومات هذه العمالة الوافدة متابعة تلك القضايا، حتى إذا لم تفعل الحكومات الخليجية؛ إذ تبلغهم عائلات المفقودين عندما يفقدون التواصل مع ذويهم، لكن هذه البيانات غير متوفرة”.
لأنهم فقراء !
وكانت صحيفة (الغارديان) قد أرسلت سلسلة من الأسئلة بشأن قضية “إيديلين” إلى كلٍّ من “وزارة الخارجية” الفلبينية، و”وزارة العمل والتوظيف” الفلبينية، و”سفارة الفلبين” في العاصمة السعودية، “الرياض”، و”سيلفستر بيلو”، وزير العمل والتوظيف الفلبيني، بالإضافة إلى “قنصلية الفلبين”، في مدينة “جدة”. لكنها لم تتلقَ أي رد على هذه الأسئلة.
من جانبه؛ أخبر مدير وكالة “مانوموتي للأيدي العاملة”، التي وظَّفت “إيديلين”، صحيفة (الغارديان) بأن الوكالة لا تعرف مكان وجودها. بينما أدَّعت عائلة “أستوديلو” أن السلطات الفلبينية لم تضع القضية ضمن أولوياتها لأنهم فقراء.
وألمح التقرير إلى أن عائلة “إيديلين” تعيش في حالة من اليأس والانكسار؛ إذ يتوق الأطفال إلى عودة والدتهم، ويتشوقون تحديدًا إلى الرحلات العائلية إلى الشاطيء أيام السبت، وهي إحدى الرحلات المفضلة لـ”إيديلين”. لكن ذكرياتهم عنها بدأت تتلاشى. تقول “كريسلين”، ابنة “إيديلين”: “كانت أوقاتًا سعيدة جدًّا. وكانت أمي تحب دائمًا الذهاب في نزهات عائلية، وكانت تحب البحر والرمال”.
واختتمت الكاتبة تقريرها بالإشارة إلى أن هذا العام يُعد عامًا فارقًا في حياة “كريسلين”، لأنها تخرجت مؤخرًا من المدرسة الثانوية وسوف يبلغ عمرها (18 عامًا)، في تشرين أول/أكتوبر القادم. تقول “كريسلين”: “أتمنى أن أرى أمي في عيد ميلادي، فستكون هذه أفضل هدية على الإطلاق. أشتقتُ إلى حضن أمي، وأفتقدُها بشدة. صحيحٌ أننا لسنا أغنياء، لكن كان يكفيني أن يظل شمل العائلة مكتملًا. إن أمي أفضل أم في العالم بأسره”.