وكالات – كتابات :
تُشكل وسائل التواصل الاجتماعي إحدى السمات المميزة للعصر الحالي، التي جعلت التواصل وبناء شبكات من العلاقات العابرة للحدود أمرًا واقعًا، ناهيك عن تحولها إلى مصدر هام للدخل للملايين من الأفراد والشركات.
وعلى الرغم من مرور شبكات التواصل الاجتماعي بمراحل من التراجع، وتوجيه الكثير من الاتهامات والانتقادات لنموذجها العملي القائم على تحقيق أقصى ربح ممكن، بغض النظر عن التكلفة التي يتّكبدها الأفراد – على غرار فقدان الخصوصية – والمجتمعات بفعل انتشار الجرائم الإلكترونية، فإن هذه المنصات قد تمكنت من التوسع والانتشار وبناء المزيد من قواعد المستهلكين، إلا أن لحظة الصعود والازدهار قد قاربت على الإنتهاء في ظل الأزمات التي تواجهها، وهو ما طرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل منصات التواصل الاجتماعي، وقدرتها على التعافي السريع؛ بحسب التقرير الذي أعده مركز (إنترريغونال) للتحليلات الإستراتيجية.
محفّزات التأزم..
يشهد النظام العالمي عددًا من الأزمات المتلاحقة، التي كان لها عظيم الأثر على حالة الاقتصاد، ناهيك عن تصاعد حدة الصراع بين “الولايات المتحدة” و”الصين”، وهو الأمر الذي ألقى بظلاله على منصات التواصل الاجتماعي.
أخيرًا وليس آخرًا؛ تشهد هذه المنصات حالة من الأفول والتدهور الداخلي، التي سارعت وتيرة التراجع العام للتطبيقات المختلفة.
ويمكن تلخيص أبرز محفّزات التراجع على النحو التالي:
01 – تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية..
يشهد الاقتصاد العالمي حالة من التراجع والانكماش المصحوب بتسجيل معدلات مرتفعة من التضخم، وهو ما كان له عظيم الأثر على قطاع التكنولوجيا، بمختلف مكوناته، خاصة الشركات القائمة على إدارة أبرز منصات التواصل الاجتماعي.
ونتيجة لذلك، أعلنت الشركة الأم لـ (فيس بوك)؛ (ميتا)، أنها بصدد التخلي عن: 11 ألف وظيفة، أو 13% من القوى العاملة لديها.
وقد قام مكتب الشركة في “أوستن” بالفعل؛ بتسريح أكثر من: 220 عاملاً. ويتحرك عملاق التكنولوجيا لإلغاء آلاف الوظائف في جميع أنحاء البلاد، مع حلول بداية العام الجديد.
وقد أعلن “مارك زوكربرغ”، الرئيس التنفيذي لشركة (ميتا)، عن خطة الشركة لتسّريح العمال في وقتٍ سابق من هذا الشهر، وأشار إلى أن انخفاض إيرادات الشركة، وتراجع نمو القطاع التكنولوجي، والتجارة الإلكترونية – خلافًا للتوقعات السابقة التي عززت من قوتها الجائحة – قد دفعت الشركة لاتخاذ مثل هذا القرار المأساوي، كما قال إن التخفيضات ستؤثر على جميع قطاعات الشركة.
وعلى ذات النهج، أعلنت العديد من شركات التكنولوجيا البارزة عن تسّريح العمال أو تجميد التوظيف في الأشهر الأخيرة، بما في ذلك شركات (تسلا) و(سناب شات) و(تويتر) و(آمازون).
وأشار بعض المحللين في مجال التكنولوجيا إلى أنه مع وجود ركود يلوح في الأفق، تتخذ شركات التكنولوجيا الضخمة قرارات لخفض التكاليف لأول مرة منذ سنوات.
02 – الإدارة المضطربة لبعض المنصّات..
شهدت منصّة التواصل الاجتماعي (تويتر) جدلاً واسعًا، في أعقاب استحواذ رجل الأعمال؛ “إيلون ماسك”، مؤخرًا عليها؛ فقد قام في البداية بخفض نصف قوة العمل في الشركة التي بلغ قوامها حين ذاك: 7500 فرد.
وما ضاعف الأزمة داخل (تويتر) مطالبة؛ “إيلون ماسك”، من تبقى من الموظفين بالعمل بشكل مضاعف، لتعويض النقص في الأيادي العاملة، مع دعوة المعارضين لهذه السياسة، للمسّارعة بتقديم استقالته.
وفي رد مقتضب وسريع، قام العشرات من الموظفين بتقديم استقالاتهم النهائية من الشركة، بما في ذلك العضو المسؤول عن إعدادات الأمان وأكواد الدخول إلى مقر الشركة؛ ما أحدث نوعًا من الإرباك والفوضى في اليوم التالي لاستقالته؛ حيث لم يتمكن باقي الموظفين من دخول مكاتبهم وممارسة أعمالهم على النحو المعتاد.
وقوبلت سياسات “ماسك” بالعديد من الانتقادات، كما قامت “نقابة العاملين في مجال التكنولوجيا” البريطانية، بالمطالبة بعقد اجتماع سريع مع القائمين على إدارة شركة (تويتر) في “بريطانيا”، للإطلاع على أوضاع العاملين بها.
وقالت النقابة إنها تسعى بشكلٍ عاجل لعقد هذا الاجتماع من أجل مناقشة أوضاع العمل التي يخضع لها الموظفون داخل الشركة، والعمل على ضمان الوفاء بواجب الرعاية والإلتزامات القانونية تجاه الموظفين، بما في ذلك ذوي الاحتياجات الخاصة.
03 – تضارب تقديرات نمو منصّات التواصل الاجتماعي..
تواجه (ميتا) رياحًا معاكسة منذ أن حولت تركيزها إلى الـ (ميتافيرس) منذ نحو عام، وانخفض سهم الشركة بنحو: 70% خلال العام الماضي.
وتواجه منصة (تويتر) أزمة مالية مستعصية؛ فقد كشفت المراجعة الدقيقة والشاملة لسجلات الشركة المالية التي قام بها “ماسك” عقب الاستحواذ على المنصة، أن المنصة تُعاني من وضع مالي متأزم؛ حيث تتحمل خزائنها ديونًا بقيمة: 13 مليار دولار، ويبلغ إجمالي مدفوعات الفائدة على هذا الدين أكثر من مليار دولار سنويًا.
وقد واجه موقع (تويتر)؛ منذ فترة طويلة صعوبات مالية، وغالبًا ما يخسر المال ويُكافح من أجل مواكبة المنافسين مثل: (فيس بوك) و(غوغل)؛ الذين يُجنّون الأموال عبر التربح من خدماتهم الإعلانية.
وللخروج من هذه المعضلة، سعى “ماسك” إلى خلق مصادر أخرى للدخل، على غرار فرض رسوم شهرية على الحسابات الموثقة، كما أعاد دراسة عقود الإيجار الخاصة بالشركة؛ حيث عارض سداد المدفوعات ويأمل إعادة التفاوض أو الانسحاب من بعض الإلتزامات والعقود بصورة نهائية.
ويستأجر (تويتر) مساحات مكتبية في جميع أنحاء العالم، لكن تسّريح العمال قلل الحاجة إلى الكثير من تلك العقارات، كما تم توجيه فريق الشراكات في (تويتر) لإعادة التفاوض بشأن صفقات المحتوى الطويلة المدى، مع الكيانات الرياضية الكبرى، مثل تلك التي أبرمها مع اتحاد كرة القدم الأميركي.
04 – التضليل المعلوماتي وسعي الحكومات لمكافحته..
منذ الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016، ذاع الحديث عن التضليل المعلوماتي، والدور الكبير الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في هذا السياق، التي تحولت إلى منصّات ترعى وتسّوق للمعلومات الخاطئة، ناهيك عن الترويج والتسهيل للجرائم المختلفة.
وقد سعت المنصّات المختلفة إلى التعاطي مع هذه الأزمة، فعلى سبيل المثال، شكلت شركة (ميتا)؛ الراعية لمنصة (فيس بوك)، مجلسًا للرقابة على المحتوى المنشور عبر منصتها، تحت اسم: “مجلس حكماء الفيس بوك”، كما أكدت بعض الجهات الحكومية تعاون مثل هذه المنصات معها للحد من انتشار الجريمة؛ وذلك على غرار: “المركز الوطني للأطفال المفقودين والمستغلين”، الذي كشف النقاب عن بيانات وأرقام تؤكد تلقيه تقارير من منصة (فيس بوك)، عن مواد الاعتداء الجنسي على الأطفال أكثر من أي خدمة ويب أخرى تتبعها، للحد من انتشار هذه الجريمة عبر منصته.
ويبني (فيس بوك)؛ “منصة عالمية”، لمنع: “الابتزاز الجنسي” من خلال المساعدة في: “وقف انتشار الصور الحميمة للمراهقين عبر الإنترنت”. وعلى الرغم من ذلك، فإن الدراسات تؤكد أن المنصة لم تقم بالقضاء على المحتوى الضار والمُضّلل بصورة كلية، وهو ما دفع المشّرعين في “المملكة المتحدة” إلى العمل على تطوير مشروع “قانون الأمان عبر الإنترنت”، وسيُجبّر هذا القانون المنصات على إزالة المحتوى الذي يُعتبر “ضارًا”.
ومن شأن هذا الإجراء أن يُمثل سابقة عالمية بشأن تنظيم المحتوى عبر الإنترنت؛ حيث يقول المدافعون عن الخصوصية إنه سيّحد من حرية التعبير، وسيؤثر بصورة عامة على الأرباح التي تجنيها هذه الشركات التي تقوم على الدعاية وقضاء المستخدمين أكبر وقت ممكن في تصفح منصاتهم المختلفة.
سيناريوهات مستقبلية..
من الصعب تخيل العالم الحالي بدون منصات التواصل الاجتماعي، إلا أن التركيب الهيكلي لهذه المنصات، وتراتبيتها وأهميتها في حياة الأفراد قد تشهد تغيرات كبيرة خلال الأشهر والسنوات القادمة، ويمكن توقع وقوع أحد السيناريوهات الآتية:
01 – اللجوء إلى الضم والاستحواذ أو إنهيار بعض المنصات..
على غرار منصة (تويتر)، قد تلجأ عدد من الشركات المطورة والقائمة على إدارة وسائل التواصل الاجتماعي إلى بيع أسهمها إلى شركة أخرى عملاقة، لتحمل التركة المنهكة التي تُعاني منها أغلبية هذه المنصات في الوقت الحالي.
وقد تختفي بعض المنصات، وتضطر إلى الإغلاق؛ ما يفتح الطريق لظهور بعض المنصات الجديدة التي ستملأ هذا الفراغ.
فقد تحقق هذا السيناريو مع منصة (Six Degrees)؛ التي تم إطلاقها في عام 1997، إلا أنها سرعان ما اضطرت إلى الإغلاق في عام 2000، في أعقاب أزمة “فقاعة الإنترنت-dot-com crash”، التي شهدت خلالها أسهم الشركات المقدمة لخدمات الإنترنت إنهيارًا كبيرًا في البورصة الأميركية، في أعقاب فترة من الصعود الجنوني. وقد نشأ على أنقاضها عدد من المنصات الشبيهة على غرار (Friendster) و(MySpace) وأخيرًا (Linked In).
02 – ظهور المنصّات ذات الطابع الكلي الشامل..
منذ إعلان “ماسك” عن رغبته في شراء (تويتر)، عبّر رجل الأعمال المُثير للجدل، عن رغبته في جعل الخدمات التي تقدمها المنصّة أكثر شمولاً وتنوعًا، على غرار الدور الذي يقوم به تطبيق (WeChat) في “الصين” حاليًا؛ حيث لا يقتصر دور التطبيق على كونه منصة للتواصل الاجتماعي وعرض الفيديوهات، بل يتم استخدامه في العديد من الوظائف الأخرى، على غرار الدفع الإلكتروني، والتسويق وبيع العقارات وحجز مواعيد للأطباء، ناهيك عن الترجمة.
وعلى الرغم من أن هذا المفهوم الشمولي يتنافى مع مباديء “ديمقراطية الإنترنت” و”منع الاحتكار”، وهي الأسس التي تقوم عليها وسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات المختلفة – وفقًا للرواية الغربية – فإنه ليس بالأمر المُستبّعد.
03 – صعود ملحوظ للمنصّات الصّينية..
يرى العديد من محللي المشهد التكنولوجي، أن الأزمة التي تمر بها منصات التواصل الاجتماعي، لا تنفصل عن أبعاد التنافس “الصيني-الأميركي” القائم حاليًا في جميع الأصعدة.
فيرى البعض أن “إيلون ماسك”؛ أحد أبرز مُحّركي أزمة منصات التواصل الأميركية في الوقت الحالي، مقرب من الحكومة الصينّية بصورة كبيرة، وأبرز الأدلة على ذلك، فتح أول مصنع لـ (تسلا) في قلب “الصين”.
وعلى الرغم من عدم وجود دلائل تؤكد هذا الطرح، فإن أبرز المستفيدين من الأزمة القائمة في (تويتر) و(فيس بوك)، هي منصة (تيك توك) الصينّية، التي تشهد صعودًا في شعبيتها بصورة مطردة خلال الفترة الماضية.
أخيرًا يمكن القول إن من المستّبعد أن تغيب منصّات التواصل الاجتماعي عن عالمنا الحالي خلال الفترة القادمة، إلا أنه من المتوقع أن تشهد هذه المنصات تطورًا وتغيرًا ملحوظًا في طبيعتها الهيكلية والوظيفية القائمة حاليًا.
وبالرغم من التداعيات السلبية للأزمة الاقتصادية الحالية على منصّات التواصل الاجتماعي، فإن هذه المنصّات تظل جزءًا مهمًا من المشهد الاقتصادي العالمي الراهن؛ وخصوصًا أنها باتت تُمثل مصدر دخلٍ هامًا للعديد من الأفراد والشركات.