يظهر شريط الفيديو جثة رجل ملقاة على الأرض.. وطرف حبل يوثق قدمي صاحبها بينما الطرف الآخر مثبت في مؤخرة سيارة همفي مدرعة. وتجمع رجال بالزي العسكري العراقي بجوار السيارة. يحذر أحدهم من احتمال وجود قنبلة على الجثة ويناول آخر زميلا هاتفه النقال الحديث ثم يقف فوق الجثة مبتسما ويرفع إبهامه بينما يلتقط الزميل صورة. تبدأ الهمفي في التحرك في الصحراء وهي تجر من خلفها جثة القتيل.
ضابط بالشرطة الاتحادية العراقية هو الذي عرض على رويترز الأسبوع الماضي اللقطات القصيرة التي تصور جنودا بالجيش العراقي على ما يبدو يمثلون بجثة مقاتل من المسلحين المناوئين.
قال الضابط الذي يقيم ويعمل في بغداد وله أصدقاء كثيرون يقاتلون الآن في محيط مدينة الرمادي السنية “هذا الأمر عادي جدا. إن رجالنا يقتلون على أيدي القاعدة. فلماذا لا نفعل نحن نفس الشيء بهم. هذا دفاع عن النفس.”
ويبدو بعد مرور ما يقرب من ثلاثة أشهر على إعلان رئيس الوزراء نوري المالكي الحرب على المسلحين في محافظة الأنبار بغرب البلاد أن القتال تحول إلى سلسلة من الأعمال الوحشية كثيرا ما تسجلها كاميرات المسلحين وجنود الجيش على السواء.
ويقول جنود إنهم أصبحوا طرفا في قتال بطيء وممتد مع فصائل سنية أخرى في مدينة الرمادي وفي محيط الفلوجة. وتقول الأمم المتحدة إن أكثر من 380 ألف شخص نزحوا عن ديارهم فرارا من القتال.
ويبث المسلحون تسجيلات وصورا متواترة لإعدام الجنود الحكوميين وتعذيبهم. والآن -وحسبما يقول ضابط الشرطة وضابط بالجيش وآخر برتبة لواء وأحد أفراد القوات العراقية الخاصة- بدأ بعض الجنود يردون بالمثل.. فينفذون عمليات إعدام دون محاكمة ويعذبون أعداءهم ويهينونهم ثم ينشرون صور أفعالهم على الإنترنت.
تقف الصور والروايات المروعة القادمة من الأنبار شاهدا على تأجج المشاعر الطائفية بالعراق فقوات الأمن -التي يشكل الشيعة معظم أفرادها- وفصائل المسلحين ترى نفسها عادة عناصر فاعلة في معركة إقليمية وطائفية أكبر. والممارسات الوحشية تساهم بدورها في تعميق تلك الانقسامات وتزيد من خطر تحول المنطقة السنية بالعراق إلى ساحة معركة دائمة. وبات القتال بالفعل امتدادا للحرب الأهلية في سوريا.
اعدام خارج نطاق القضاء
وأقر ضابط برتبة لواء في بغداد بأن بعض الجنود في وحدات مكافحة الإرهاب أو القوات الخاصة ينفذون حالات إعدام خارج نطاق القضاء لكنه وصف هذا بأنه حالات فردية وعزاه إلى نقص تدريب الجنود الجدد الذين كان هناك تعجل في إحلالهم محل المصابين والقتلى من أبناء الجيش.
وأضاف “هذا رد فعل في الميدان لا أكثر ولا أقل.” وطلب مثله مثل معظم المسؤولين العراقيين الذين تحدثوا إلى رويترز ألا يذكر اسمه. وقال “هذا يحدث عادة عندما تكون هناك مواجهة عسكرية. يجهز الجنود على المسلحين الجرحى ويطلقون الرصاص عليهم عدة مرات تنفيسا عن غضبهم.”
ومضى قائلا إن آخر مرة علم فيها بوقوع أمر كهذا كانت قبل أسبوعين تقريبا في الخالدية قرب الرمادي حيث قتل جنود من القوات الخاصة عددا من أفراد داعش.
لكن متحدثا باسم الفرقة الذهبية الخاصة المكلفة بمكافحة الإرهاب نفى الروايات التي تشير إلى حالات إعدام خارج نطاق القضاء.
وقال المتحدث صباح النعماني “إن الادعاءات حول قتل إرهابيين غير مسلحين هي ادعاءات باطلة لا أساس لها من الصحة. أعتقد أن الانتصارات التي حققتها قواتنا قد أزعجت هؤلاء الذين يصدرون مثل هذه الاتهامات ويقومون بفبركة أفلام فيديو بطريقة تهدف إلى تشويه سمعة قواتنا الأمنية.” وتابع بقوله “نحن نقوم بمحاسبة جنودنا إذا ما قاموا بمخالفة أبسط قواعد الاشتباك. نحن لن نقبل بحصول أي مخالفات.”
أما وزارة الداخلية التي تنتشر قوات من الشرطة الفيدرالية التي تعمل تحت إمرتها في الرمادي فقالت لرويترز إنها تنظر في الأمر بجدية. وقال المتحدث باسمها سعد معن “إن حصلت بعض الأخطاء أو اخلال في تطبيق معايير حقوق الإنسان خلال إحدى المعارك فلنضع في اعتبارنا أن هذا ليس نهجا وإنما هو أخطاء فردية إن حصلت يخضع من يرتكبها إلى المحاسبة والتحقيق ويرسل إلى محكمة عسكرية.”
وأرسلت الحكومة الأمريكية ما يقرب من 100 صاروخ هلفاير وبنادق إم4 وذخيرة وطائرات استطلاع بلا طيار للجيش العراقي منذ تفجر القتال في يناير كانون الثاني. وبدأت إدارة أوباما أيضا تدريب قوات عراقية خاصة في الأردن. وقام الجيش الأمريكي قبل انسحابه في أواخر 2011 بتدريب القوات العراقية الخاصة وتجهيزها وتنفيذ عمليات معها.
وقال مسؤول بالسفارة الأمريكية لدى إبلاغه بما تردد عن حالات الإعدام “ينبغي التحقيق في هذه المزاعم وإن تأكدت فيجب محاسبة المسؤولين.”
وقد أطلع أفراد أمن عراقيون رويترز على الصور ومقاطع الفيديو المنشورة على الإنترنت بينما يمكن الاطلاع على بعضها الآخر على مواقع التواصل الاجتماعي في صفحات تحمل أسماء وحدات عسكرية مقاتلة في الجيش العراقي والشرطة وجهاز مكافحة الارهاب.
حالة ركود
بدأت الاحتجاجات في الرمادي والفلوجة في ديسمبر كانون الأول 2012. ويتهم أبناء الأقلية السنية في العراق قوات الأمن منذ أمد طويل بارتكاب انتهاكات من بينها التعذيب كما يشعر السنة بالاستياء بسبب البطالة وسجن آلاف السنة من رجال ونساء بتهم تتصل بالإرهاب. ثم اتسعت رقعة حركة الاحتجاج في شتى أرجاء المنطقة السنية الواقعة إلى الغرب من بغداد.
وقدم رئيس الوزراء المالكي ونائبه صالح المطلك في الربيع الماضي مجموعة إجراءات للتصدي لشكاوى السنة لكن منافسيه تمكنوا من تحقيق أغلبية في البرلمان لرفضها. ثم استغلت جماعة داعش التي نشطت بفضل ما حققته من نجاح في سوريا حادث مقتل 50 على الأقل من المحتجين العزل على أيدي قوات الأمن التي قالت إنها كانت ترد على نيران تعرضت لها. وبدأت الجماعة حملة مكثفة من الهجمات الانتحارية وتفجيرات السيارات الملغومة جعلت من العام الماضي أكثر أعوام العراق دموية منذ 2008.
وفي أواخر ديسمبر كانون الأول بدأت الحكومة حملة أمنية مضادة مستهدفة أوكار المسلحين في مدينتي الرمادي والفلوجة اللتين سرعان ما تحولتا إلى ساحتي حرب.
وفي الرمادي تمكنت القوات الخاصة العراقية التي تخضع لقيادة المكتب العسكري لرئيس الوزراء الذي يشغل أيضا منصب القائد العام للقوات المسلحة من الوصول إلى منطقة وسط المدينة والسيطرة عليها. لكن جنود الجيش العراقي يجدون صعوبة في الدفاع عن المناطق التي سيطرت عليها قوات مكافحة الإرهاب الخاصة. فما أن تتمكن الفرقة الذهبية وهي أبرز القوات الخاصة العراقية من السيطرة على منطقة وتسلمها إلى الجيش حتى يعود إليها المسلحون السنة في اليوم التالي ويخرجونه منها.
وفي الوقت نفسه تطوق قوات الجيش العراقي الفلوجة لكن السيطرة داخلها لمجموعات سنية مثل داعش وأبناء العشائر الغاضبين وجماعات مسلحة أخرى.
فشل في اخراج المقاتلين من الفلوجة
وقال الشيخ رافع مشحن الجميلي وهو شيخ عشيرة سنية يقود مقاتلين من العشائر السنية المناهضة للحكومة من منطقة الكرمة التي ينشط فيها المسلحون السنة “يقول المالكي إنه يسيطر على الأنبار… لكنني أتحدى أي مسؤول أن يأتي ويزور الأنبار. أبناء العشائر يقاتلون.”
ويقول دبلوماسيون غربيون وضباط عراقيون إن القوات العراقية لن تتمكن من تعبئة قوة مقاتلة فعالة لدخول الفلوجة إلى أن يكتمل تأمين الرمادي تجنبا لخوض قتال لا يحقق تقدما في المدينتين.
وتساءل دبلوماسي غربي “هل يتمكنون من إخراج المقاتلين من الفلوجة والرمادي ومحيطهما أم يتحول الصراع إلى حرب خنادق تستمر بلا نهاية؟ الوضع في حالة ركود لا يتحرك فيها شيء حركة حقيقية.”
وفي غياب أي تقدم في السيطرة على الأرض تزيد وحشية الصراع يوما بعد آخر.
“استمروا في دعسهم”
عرض جندي من القوات الخاصة على رويترز خلال عطلة في بغداد هذا الشهر صورا على فيسبوك يقبل العسكريون العراقيون على الإطلاع عليها. وتظهر في الصور جثث قال إنها لقتلى من مسلحي تنظيم داعش في الرمادي. وكانت إحداها مضرجة بالدماء. وعلق شعار يقول “الدعس على جرذان داعش القناصة”.
واستخدم الجندي الذي كان قد عاد لتوه من الجبهة وما زال شعره متربا وصوته مرهقا هاتفه النقال ليبرز صورة أخرى من فيسبوك لجندي يقف فوق جثة. وكان القتيل مسجى على الأرض الترابية في سروال من قماش الجينز الأسود ويداه فوق رأسه. ويقول شعار مكتوب “أيها الفرقة الذهبية استمروا في دعسهم بالأقدام.” وقال الجندي “أي إرهابي نقوم بأسره الآن نقتله في نفس المكان باستثناء ذلك الذي نريد التحقيق معه.” وأضاف “لقد شاهدت بنفسي العشرات يعدمون.”
وانتقل الجندي إلى صورة صديق له قتل بالرصاص في الرمادي ويظهر في الصورة مرتديا زي الجيش العراقي الأخضر. ورنا الجندي إلى الصورة في صمت. وقال إنه رأى 62 جنديا قتيلا ينقلون إلى بغداد في أحد الأسابيع و40 جنديا في الأسبوع التالي.
وقال الجندي كما يظهر كذلك في صفحات فيسبوك أن التعبير الدارج الذي يستخدمه الجنود في الإشارة إلى الإعدام هو “المادة 5 ارهاب”. وهو تلاعب بالألفاظ يشير إلى “المادة 4 إرهاب” في القانون الفعلي التي تسمح لقوات الأمن بالقبض على الأشخاص بتهمة الإرهاب العمومية.
وقال الجندي وهو يبتسم إعجابا بمنطق التعبير الدارج “المادة 4 هي للاعتقال والمادة 5 للقتل.” واضاف
إن جنود الجيش العراقي يعلمون بأمر التسجيلات المصورة التي يبثها مقاتلو داعش لعمليات إعدام الجنود العراقيين وجثثهم. وقال إن زملائه فاض بهم الكيل ويريدون الرد بالمثل مضيفا “أي شخص تقوم داعش باعتقاله تقتله على الفور لذلك نحن نقوم بنفس الشيء.” واشار الى ان القادة لا يريدون أن يعلموا بالأمر ولا يطرحون أسئلة.
وتابع شارحا وجهة نظر زملائه “نحن نعتقد ان ما نقوم به هو عمل صحيح لان هؤلاء هم كفار” مضيفا “داعش لا يؤمنون بالله وان ما نقوم به هو الصواب. كل الجيش يفعل ذلك.” وقال الجندي إنه لا يبالي إن سبب ذلك فضيحة. وقال “ليشعر الناس بالغضب… نحن ندافع عن العراق.”
“إنهم يرمون لحمنا للكلاب”
ولا يقل المسلحون الذين يقاتلون الحكومة وحشية. ففي تسجيل مصور بثه أنصار تنظيم داعش على الانترنت ثم تداوله الجنود العراقيون الغاضبون ونشطاء مؤيدون للحكومة يظهر مسلح يصوب مسدسه فوق صف من الجنود الراكعين على الأرض.
ويسمع صوت يقول “اللهم تقبل هذه الأضحية.” ويجذب المسلح الزناد فيسقط جندي ويرتجف الآخرون. ويطلق المسلح النار من جديد ثم ينضم إليه مسلح آخر ثم ثالث ويطلقون النار على الجنود واحدا واحدا. ثم تعتم الشاشة.
ويعتمد بعض الجنود العراقيين الآن الأساليب نفسها.
وقال ضابط في إحدى وحدات الجيش العراقي المكلفة بالعمل في الرمادي منذ فبراير شباط إنه اشتبه بعد أسابيع من وصوله بوقوع حوادث القتل. وقال إنه كان يجلس للغداء مع ضباط من الجيش والفرقة الذهبية التي تحملت وطأة أكبر قدر من الخسائر و”كنت أسمعهم يقولون بأنهم تكبدوا خسائر فادحة وإنهم يريدون أن يرهبوا الإرهابيين ويحطموا معنوياتهم.”
وأضاف أنه سرعان ما شهد بعد ذلك بنفسه أول حادث إعدام يراه وقتل فيه مسلحان بعد القبض عليهما.
وقال “كانوا معصوبي الأعين وأيديهم موثوقة الى الخلف جالسين على الارض ورؤوسهم باتجاه الحائط. كل دقيقتين يأتي جندي من الفرقة الذهبية يركلهم بقوة وينعتهم بالكلاب القتلة. ذهبت للقيام بعمل وعندما رجعت بعد عشر دقائق وجدتهم وقد تم إطلاق النار عليهم في الرأس والظهر. لقد كانوا غارقين ببركة من الدماء.”
وتابع “سألت الجندي ماذا حل بك. رد الجندي قائلا سيدي لو أمسكونا هم لقطعونا أشلاء ورموا لحمنا للكلاب. على الأقل نحن لا نقوم بنفس الشيء. نحن نقوم بإطلاق النار عليهم فقط.”