خاص : كتبت – هانم التمساح :
يعيش “العراق”، اليوم، في دوامة لا مخرج منها؛ هي “المحاصصة” الطائفية، التي كرس لها دستور “بريمر” المحتل في زمن لا تحكمه سوى قاعدة السبب والنتيجة، ولا مكان فيه لأبطال يأتون من خارج التاريخ ليقلبوه رأسًا على عقب.. وبينما خرج الشعب العراقي ينتفض ضد تلك الطغمة الفاسدة، التي صنعها الاحتلال من معممون ورجال سياسة، طالبًا التغيير الجذري لكل هذه الطبقة بإنتمائاتها الطائفية المقيتة.. يبقى الساسة على الجانب الآخر تائهون متخبطون غير قادرين على اختيار رئيس للحكومة يخدم مصالح الشعب ويتوافق عليه الجميع.
كارثة بدأت بحل الجيش العراقي وتحويله لمليشيات طائفية..
كان هناك توجه لدى المؤسسة العسكرية الأميركية لإبقاء الجيش العراقي ودفع رواتب أفراده، ومنح الضباط الكبار فيه دورًا مستقبليًا، لكن اللعبة تغيرت تمامًا عند قدوم المسؤول الأميركي إلى “بغداد”؛ إذ كان أول قرار له هو حل الجيش العراقي، الذي يبلغ تعداده حوالي نصف مليون عسكري.
ولم تكتفِ سلطة الاحتلال هذه بذلك، بل رفضت منح الحد الأدنى من الرواتب لهذا العدد الهائل من العاملين فيه. وكأن إنفراط هذه المؤسسة الضخمة وإنفراط عقيدتها القائمة على طاعة الأصغر رتبة لمن هو أعلى منه رتبة، دون اعتبار لمذهبه أو دينه أو إثنيته، جنبًا إلى جنب مع العوز لإطعام أنفسهم وعوائلهم، وراء تفرق رفاق السلاح السابقين، لينتقل أفضل الضباط في الجيش العراقي من وحداتهم العسكرية إلى المليشيات وفق هويات قادتها المذهبية، وأصبحت الطاعة قائمة لرجال دين مزيفين أصبحوا هم أنفسهم القادة العسكريون. ونتيجة لذلك بدأ رفاق السلاح السابقون يقاتلون بعضهم بعضًا. منذ أن تسلم “بول بريمر” منصب رئيس “سلطة الائتلاف المؤقتة”، يوم 12 أيار/مايو 2003.
الإقتتال الطائفي بعد انقسام الجيش..
وأعترف كاتب أميركي، في مقالة لمجلة (التايم)، خلال فترة إندلاع الفتنة الطائفية في “العراق”، عامي 2006 و2007، بأن الضباط المحنكين وراء المواجهة المسلحة بين المليشيات؛ وهم ضباط من قوات “الحرس الجمهوري”، ولو تمكنت “الولايات المتحدة” من إعادتهم إلى ما كانوا عليه ضمن نفس المؤسسة العسكرية، التي كانت فسيمكن إيقاف سعير الفتنة المدمرة، لكن “البيت الأبيض” تجاهل هذا الاقتراح، بل تمادى في مُضى أبعد بتحويل “المحاصصة” نهجًا مؤسساتيًا تُصاغ عليه كل المؤسسات بما فيها الجيش والشرطة والوزارات، وكل هذه المؤسسات فقدت قدرتها على تقديم الخدمات للناس على أساس إنتمائهم للوطن قبل كل شيء، وأتضح هزال الجيش اللاحق الذي تأسس بعد إنهاء الخدمة الإجبارية فيه، عندما نجح عدد صغير من تنظيم (داعش) الإرهابي في احتلال مدن كبيرة، مثل “الموصل”، بوقت قصير جدًا دون أن يلقى أي مقاومة من وحدات “الجيش” الجديد، رغم عددها الضخم.
تدهور الخدمات نظرًا للإنفلات الأمني..
وأدى حل مؤسسة، عدد أفرادها يزيد على نصف مليون شخص وتمتلك عددًا كبيرًا من الكوادر المتخصصة في شتى القطاعات البنائية والخدماتية، إلى إنفلات الوضع الأمني وأضاع فرصة التحكم بالأمن وحماية المؤسسات الحكومية والحفاظ على مستوى الخدمات العامة من توفير للكهرباء والماء إلى إعادة بناء المدارس والمستشفيات والمؤسسات الخدماتية الأخرى، التي تضررت خلال فترة الحرب وما بعدها.
بدلًا عن ذلك؛ برزت المليشيات الطائفية لتحل محل الجيش في أداء بعض من هذه المهام، ولتعمق تقسيم المدن والقصبات والمناطق حسب الهوية الطائفية، وليصبح قادتها طغاة مستبدين يبذرون في الوطن الفساد بكل أشكاله، من سرقة “النفط” وبيعه في أسواق سوداء دولية إلى فرض الإتاوات على رجال الأعمال في مناطقهم، إلى التدخل في تعيين أعوانهم ومريديهم في دوائر الدولة هنا وهناك وانتشار ظاهرة التعيينات لـ”فضائيين” غير موجودين في المؤسسات الحكومية، لكنهم يقبضون رواتب شهرية بانتظام.
معممون وعشائريون يتحكمون..
وبهذا الشكل؛ أصبح القادة المسيِّرون للمجتمع شيوخ العشائر، الذين استعادوا مكانتهم، جنبًا إلى جنب مع معممين لم يدرسوا يومًا علم الإلهيات في أي جامعة. وكأن “العراق” سار بإتجاه تراجعي، قبل ثورة 14 تموز/يوليو 1958، كان الخبراء وحملة شهادات جامعية عليا من “بريطانيا” و”أميركا” هم المخططون لسياسات البلد وعمرانه وتطوره، ثم جاء الضباط ليحلوا محلهم، وبعد ذلك القادة البعثيون ثم سلطة الفرد الواحد، وبعد الغزو “الأميركي-البريطاني” لـ”العراق”، يوم 21 آذار/مارس 2003، أصبح رجال الدين والمعممون وشيوخ العشائر هم دينامو المجتمع، ومعهم أصبحت المحاصصة “الطائفية-الإثنية” آلية مؤسساتية تنتفع منها نخبة سياسية، جاءت تجسيدًا لها أكثر من أن تكون صانعة لها.