وكالات- كتابات:
لا يمكن لقاريء (كتاب غزة الأسود)؛ الصادر حديثًا عن دار (لوسوي) الفرنسية، إلا أن يفتح عينيه على أمور يتجاهلها الإعلام، في خضمّ التغطيات اللامحدودة للحرب في “غزة”.
إنه شهادة معلنة عما يجري في ساحات الحرب، وسرد لحظوي لما حدث منذ السابع من تشرين أول/أكتوبر 2023، من خلال تقارير منظمات دولية غير حكومية، ومؤسسات فلسطينية وإسرائيلية، ووكالات “الأمم المتحدة”، فضلاً عن شهادات مباشرة واسقصاءات صحافية.
جَمعت مواد الكتاب؛ “أنييس لوفالوا”، المتخصّصة في قضايا الشرق الأوسط، ومحللة العلاقات الدولية، وقدّم له “روني برومان”، الرئيس السابق لمنظمة (أطباء بلا حدود).
ووصفت صحيفة (لو موند) الفرنسية؛ الكاتبين في عددها الصادر في 08 تشرين أول/أكتوبر: “بأنهما يتحلّيان بموقف شجاع في سياق الإعلام السياسي، حيث يتم تصنيف أي انتقاد للسياسات الإسرائيلية في خانة معاداة السامية. بل إنهما يرفضان هذا الترهيب الفكري، ويتمرّدان على التلاعب في الخطاب، الذي يبُطيء النقاش العام”.
جذور الحرب..
تتطرّق أقسام الكتاب السبعة؛ لحصار “غزة” الذي سبق الحرب الحالية، والهجمات على النظام الصحي والعاملين في المجال الإنساني، ومنع وصول المعلومات، واستهداف الصحافيين والسكان المدنيين، وعدم تناسب الأسلحة، وخراب البلاد، وضرورات المحاسبة، مع تعزيز كل ذلك بالمصادر.
وتتناول كل تلك الأوراق مجريات الحرب حتى شهر حزيران/يونيو 2024، كما ذكر الكاتب، مشيرًا إلى أنه : “تمّ جمع هذه الوثائق للشروع في ترسيخ الذاكرة”.
ويقول “روني برومان”: “قبل السابع من تشرين أول/أكتوبر 2023، ساد الاعتقاد بأن قضية فلسطين أصبحت تفصيلًا في الساحة الدولية، مادامت غادرت منذ فترة طويلة عناوين وسائل الإعلام، ولم يُعدّ يهتم بها أحد، إلا عندما “تُزعج” فترات الهدوء في إسرائيل وفلسطين، أي حين يسقط إسرائيليون”.
يُلحّ الكاتب على التفكير: “بأن السابع من تشرين أول/أكتوبر الدموي، لا يمكن عزله عن واقع الاستيطان والاحتلال”. ويستّعيد العظة التي ألقاها القسّ “منذر إسحاق”، راعي الكنيسة (اللوثرية) في “بيت لحم”، عشية عيد الميلاد 2023، قائلاً: “أكدت لنا هذه الحرب، أن العالم لا يعتبرنا متساوين، ربما يكون ذلك بسبب لون بشرتنا، وربما لأننا على الجانب الخطأ من المعادلة السياسية، حتى أن الولاء للمسيح لم يحمينا، بل ذهبوا إلى قتل مئة فلسطيني للنيل من مسلح واحد من (حماس)”.
كلمات الحرب..
في هذا الصدد؛ يدعو “بيتر هارلينغ”، مدير “مركز الأبحاث المتوسطي”؛ (Synaps)، ومقرّه في “بيروت”، والمستشار السابق في “الأمم المتحدة”، إلى الفهم الدقيق لمعاني الكلمات التي تُرافق هذه الحرب.
يقول: “إن رؤية شبكة لا نهاية لها من الأنفاق في أحشاء غزة، عزّزت فكرة أن المجتمع يأوي في داخله الإرهاب، وبالتالي يجب عبوره من جانب إلى آخر للوصول في النهاية إلى قلب الشر. (..) لا ينبغي تفسير الحرب على أنها صراع لا هوادة فيه ضد (حماس)، بل من زاوية التدمير المنهجي للموطن (الإبادة البيئية)، أو للمدينة (الإبادة الحضرية)، أو لسكان غزة أنفسهم (الإبادة الجماعية)”.
كارثة العنف المطلق..
من جهته؛ يؤكد “يوهان صوفي”، المحام والخبير في العدالة الدولية، والمستشار القانوني السابق لـ”الأمم المتحدة”: “على وجوب المحاسبة وتطبيق مبدأ عدم الإفلات من العقاب، بهدف الخروج من الهاوية، وكسر دائرة العنف التي عصفت بالإسرائيليين والفلسطينيين لعقود من الزمن”.
وبحسّب “كيوم أنسيل”، الضابط السابق والكاتب الفرنسي: “سيكون الأمر أشدّ على الجانب الإسرائيلي، وستكون ساعة الحساب دراماتيكية بالنسبة للمجتمع الإسرائيلي أيضًا، الذي أصيب بصدمة جرّاء هجوم 07 تشرين أول/أكتوبر، لأنه سمح بتنفيذ عملية تدمير انتقامية، ما تسبّب بمقتل عشرات الآلاف، وهي كارثة لم يكن لها داع، إنها كارثة العنف المطلق”.
حرب بلا نهاية..
تؤكد “أنييس لوفالوا”؛ في نصّها (حرب بلا نهاية)، بأن جذور الحرب تعود إلى العام الذي تأسست فيه “إسرائيل)، ولجوء: (200) ألف فلسطيني إلى “غزة”.
وتُشير الكاتبة إلى: “أن الوقائع الحالية، تندرج في سلسلة أهداف إسرائيلية تمّ تسطيرها بحسّب تطوّر الصراع، وهي تباعًا وأد نشوء الحركة الوطنية الفلسطينية في البداية، ثم عرقلة الحلول الممكنة في العقود اللاحقة من قِبل (الليكود)، والقضاء على الانتفاضات، ومراقبة شؤون الساكنة وضبط الحدود، مرورًا ببناء الجدار العازل الذي بدت صعوبة اختراقه “وهمًا”، وصولًا إلى القضاء على “القضية الفلسطينية”.
ولم تغفل الكاتبة الإشارة إلى: “مساندة الولايات المتحدة غير المشروط لإسرائيل، والحؤول دون تنفيذ القانون الدولي الإنساني”.
شاهد من أهله..
في سيّاق التعريف بالوضع الكارثي لـ”غزة”، الذي كان قابلًا للانفجار في أي لحظة قبيل السابع من تشرين أول/أكتوبر 2023، أورد الكتاب تقريرًا لمنظمة (بتسليم) الإسرائيلية غير الحكومية، يعرض تفاصيل: “الظروف المعيشية القاسية للفلسطينيين، التي أصبحت غير إنسانية منذ عام 2007، بسبب الحصار الذي تفرضه إسرائيل”.
وجاء فيه التقرير: “قطاع غزة هو مسرح الكارثة الإنسانية التي تفاقمت نتيجة تصرّفات دولة إسرائيل. يُمكن لإسرائيل (..) تحسين الظروف المعيشية لسكان غزة، كما يمكنها أيضًا الاستمرار في هذه السياسة القاسية وغير المبرّرة، التي تحكُم نحو مليوني شخص، يعيشون في غزة حياة الفقر المدقع، وظروفًا غير إنسانية”.
واقع ستؤكد تفاقمه المنظمة نفسها في تقريرٍ لها؛ بتاريخ 08 كانون ثان/يناير 2024، قائلة: “هذا الواقع ليس مجرد أثرٍ جانبي للحرب، بل هو نتيجة مباشرة لسياسة إسرائيل المعلنة (..). لقد تمّ تدمير معظم الحقول المزروعة أثناء الحرب، وتعرّضت المخابز والمصانع ومستودعات المواد الغذائية للقصف أو الإغلاق، بسبب نقص الإمدادات الأساسية والوقود والكهرباء”.
وأضاف: “كما استنفدت احتياطيات الأفراد والمتاجر والمستودعات منذ فترة طويلة، وانهارت نتيجة ذلك، شبكات الدعم الأسرية والاجتماعية، التي ساهمت في بقاء سكان غزة على قيد الحياة في بداية الحرب”.
سياسات عسكرية قاسية..
ما ورد أعلاه من حقائق، جزء كبير منه متداول ومعروف، وتوثيقه واجب كي لا يطويه النسيان. ويقوم الكتاب بذلك، ويعزِّزه بالأرقام والإحصائيات.
حقائق تُظهر مآسِ أناس أبرياء، كانوا أصلًا خارج معادلة الحياة “الطبيعية”، في ظل الحصار الذي يعيشونه، فوجدوا أنفسهم يصارعون من أجل البقاء أحياء.
هذا هو الوجه القاسي لهذه الحرب بحسّب الكاتبة: “حيث تجد الإنسانية نفسها في أتونٍ مشتعل، ساهمت فيها سياسات عسكرية قاسية، من خلال مهاجمة نظام الإغاثة والتغذية والمستشفيات، وخنق الصحافة، وإقفال كل المنافذ التي يمكنها أن تغيّر هذا الوضع، كما تُفصِّله تقارير المنظمات والإعلام”.
وتختم: “لا أحد يعرف متى ستنتهي هذه الحرب، لكن الأكيد أنها ستدخل ذاكرة التاريخ كفصل كئيب ومقلق للضمائر، وستؤسس لما بعدها بشكل جذري”.