وكالات – كتابات :
بات “الإنترنت” واحدًا من أدوات إدارة الصراع البارزة التي توظفها “الولايات المتحدة” في مواجهة خصومها: “إيران وروسيا والصين وكوريا الشمالية”، وهو ما يرجع إلى قدرته على اختراق الأبواب المغلقة، ومعرفة بيانات سرية، واستهداف بعض الأهداف الحساسة، مع انخفاض تكلفته النسبية في حالات، وارتفاع تكلفة الخسائر الناجمة عنه في حالات أخرى، بيد أن توظيف تلك الأداة قد يُسفر عن استخدامها بشكلٍ مضاد من قبل مختلف خصوم “الولايات المتحدة”، لا سيما مع امتلاكها جميعًا القدرات السيبرانية التي تُمكِّنها من خوض صراع سيبراني محتدم يطال مختلف الشبكات والأنظمة الأميركية.
ولعل هذا ما دللَّ عليه هجوما “سولار ويندز” و”كولونيال بايبلاين”؛ بحسب ما استهل مركز (إنترريغونال) للتحليلات الإستراتيجية؛ تقريره التحليل المنشور على موقع المركز.
طبيعة التوظيف..
وظَّفت “الولايات المتحدة”؛ الإنترنت، في مواجهة عددٍ من الدول على النحو الذي تجلى في الحالات التالية:
01 – دعم حرية الإنترنت في “إيران”..
أصدرت “وزارة الخزانة” الأميركية الرخصة العامة الإيرانية؛ (D-2)؛ عقب انقطاع خدمة “الإنترنت” في البلاد بعد الاحتجاجات التي اندلعت على خلفية وفاة؛ “مهسا أميني”، إبان احتجازها من قبل “شرطة الأخلاق”.
ومن ثم؛ تهدف “الولايات المتحدة” إلى إيجاد آليات بديلة تُمكِّن المواطنين الإيرانيين من الاتصال بالإنترنت تحقيقًا لجملة من الأهداف، يأتي في مقدمتها تسليط الضوء على السياسات الإيرانية القمعية ضد المتظاهرين من ناحية، ودعم التدفق الحر للمعلومات من ناحية ثانية، ووصول الإيرانيين إلى المعلومات المستندة إلى الحقائق من ناحية ثالثة، وإمداد المواطنين ببرامج مكافحة الفيروسات ومكافحة التتبع بجانب أدوات استخدام الشبكة الافتراضية الخاصة من ناحية رابعة؛ بحسب ما تزعم الدعايات الأميركية المضللة عن أهداف “واشنطن” الحقيقية في اختراق السيادة الوطنية للدولة الخصم وتسهيل الأعمال الاستخباراتية ضد النظم الغير مرغوب فيها أميركيًا.
02 – تقديم خدمات الإنترنت للأوكرانيين بدون مقابل..
عقب بدء الحرب “الروسية-الأوكرانية”؛ في 24 شباط/فبراير الماضي، قدمت شركة (سبيس إكس) خدمة (ستارلينك)؛ في “أوكرانيا”، دون أي مقابل مادي استجابةً لتغريدة نائب رئيس الوزراء وزير الشؤون الرقمية؛ “ميخاليو فيدوروف”.
وقد أمكن تنشيط الخدمة في “أوكرانيا”؛ نهاية شهر شباط/فبراير الماضي، عقب إرسال الآلاف من المحطات الطرفية المُحمَّلة بأجهزة استقبال “الإنترنت” الفضائي التي توالى إرسالها تباعًا على نحو وفَّر خدمة “الإنترنت” في مناطق توقفت فيها الخدمة كليًا أو جزئيًا بسبب الحرب المشتعلة بين الجانبين: الروسي والأوكراني؛ إذ يُسهم “إنترنت الفضاء” – بوجه عام – في وصول الإنترنت إلى المناطق المعزولة من جراء تدهور البنية التحتية أو الظروف الاستثنائية.
وقد أضحى الاتصال بـ”الإنترنت”؛ إبان الحروب الدولية، أحد العناصر الحاسمة في المواجهات العسكرية الحديثة؛ لأنه يُمكِّن المواطنين من معرفة آخر تطورات العمليات العسكرية الميدانية من ناحية، ويحد من انتشار الشائعات والأكاذيب والأخبار المغلوطة من ناحية ثانية؛ أيضًا كما تروج الآلة الدعائية الأميركية والغربية وتوابعها من منصات عربية إعلامية؛ تضليلاً عن الهدف الأساس وهو تسهيل أعمال الاستخبارات وتمرير الأوامر العسكرية والمخابراتية إلى القوات الأوكرانية والمرتزقة الأجانب داخل الجبهة الأوكرانية.
03 – استهداف “الصين” سيبرانيًا..
تعرضت “بكين” لعدد من الهجمات السيبرانية الأميركية، كان آخرها – على سبيل المثال لا الحصر – الهجمات السيبرانية التي إنطلقت من مكتب عمليات الاختراق الخاصة التابع لـ”وكالة الأمن القومي”، مُستهدفةً جامعة شمال غرب “الصين” للعلوم التطبيقية؛ وذلك على النحو الذي أكده “المركز الوطني الصيني للاستجابة الطارئة لفيروسات الحاسبات”.
ووفقًا له؛ استخدمت “الولايات المتحدة”: 41 سلاحًا سيبرانيًا متخصصًا لشن عمليات سرقة سيبرانية أكثر من: 1000 مرة ضد الجامعة الصينية، وسرقت منها بعض البيانات التقنية الحساسة، كما تؤكد “الصين” أن “الولايات المتحدة” نفذت عمليات مراقبة صوتية عشوائية ضد مستخدمي الهواتف المحمولة الصينيين، وسرقت بعض رسائلهم النصية، وحددت مواقع وجودهم لاسلكيًا.
04 – مصادرة العُملات المشفرة لقراصنة من “كوريا الشمالية”..
تبعًا لشركة التحليلات المشفرة (Chainalysis)، صادرت “الولايات المتحدة”؛ في 09 أيلول/سبتمبر المنصرم؛ على سبيل المثال، أكثر من: 30 مليون دولار من العُملات المشفرة زعمت “واشنطن” أنها سرقها بعض القراصنة المرتبطين بـ”كوريا الشمالية” من إحدى الألعاب الإلكترونية الشهيرة المعروفة باسم: (Axie Infinity)، وهو ما يعكس في جوهره إمتداد الصراع بين “الولايات المتحدة” و”كوريا الشمالية” إلى الفضاء السيبراني مع توظيف القراصنة المحترفين للقيام بعمليات احتيالية وسرقات غير مشروعة، مع صعوبة استرداد المبالغ المسروقة، لا سيما أن المضبوطات تُمثل نحو: 10% من إجمالي الأموال المسروقة من (رونين نتوورك) المالكة للعبة، التي تُقدر بنحو: 615 مليون دولار من العُملات المشفرة.
كما تدعي التقديرات الأميركية؛ التي يروج لها تقرير المركز البحثي، إلى أنه في عام 2022 فحسب، سرقت الجماعات المرتبطة بـ”كوريا الشمالية” ما يقرب من مليار دولار من العُملات المشفرة من بروتوكولات التمويل اللامركزية التي تشمل الخدمات المالية المقدمة على سلاسل الكتل العامة.
تقييم الفاعلية..
يمكن الدفع بأن فاعلية توظيف “الإنترنت”؛ في مواجهة خصوم “الولايات المتحدة”، تواجه بعض التحديات؛ وذلك بالنظر إلى جملة من الأسباب يمكن الوقوف عليها في النقاط التالية:
01 – تنامي القدرات السيبرانية للخصوم..
في ظل التطور المضطرد في القدرات السيبرانية الإيرانية والروسية والصينية، تتزايد بالتبعية المخاطر السيبرانية الأميركية؛ إذ تملك تلك الدول مجتمعةً خبرات واسعة في الأنشطة السرية، وتستخدم “الإنترنت” أداة للإكراه والقوة، وهو ما يعني أن أي هجوم على “الولايات المتحدة” لن يكون عرضيًا، بل جزءًا من إستراتيجية أكبر للمواجهة، لا سيما في ظل تعدد المؤسسات المسؤولة عن الأمن السيبراني في كل من الدول المعنية؛ فعلى الصعيد الإيراني؛ على سبيل المثال، هناك ثلاث منظمات عسكرية تلعب أدوارًا رائدة في العمليات السيبرانية، هي: “فيلق الحرس الثوري الإيراني” (IRGC)، و(الباسيج)، و”منظمة الدفاع السلبي” (NPDO)، فيما يلعب الأول الدور الرئيس في استهداف الأهداف الأميركية والبنية التحتية الإسرائيلية.
02 – تعدد ردود الأفعال المحتملة..
من شأن توظيف “الإنترنت” في مواجهة أي من خصوم “الولايات المتحدة” أن يدفعها إلى توظيف أدوات مضادة قد تشمل شن هجمات سيبرانية انتقامية أو استباقية، والمضي قدمًا في قطع خدمات الإنترنت الوطنية؛ (كما في حالة إيران)، والاستعانة بالقراصنة الوطنيين لاختراق بعض الأنظمة والشبكات الأميركية الحساسة؛ فعقب بداية الحرب “الروسية-الأوكرانية”؛ على سبيل المثال، تعددت التحذيرات الأميركية من هجمات سيبرانية روسية محتملة على “الولايات المتحدة” مع تأكيد عدم قدرة الحكومة الفيدرالية على صد تلك الهجمات بمفردها؛ بفعل امتلاك القطاع الخاص الغالبية العظمى من البنية التحتية الأميركية، وسط مطالبات بتعزيز الأمن السيبراني الأميركي ورفع المرونة الوطنية.
03 – محدودية مستخدمي خدمات “ستارلينك”..
تبعًا لشبكة (سي. إن. بي. سي)، يبلغ عدد مستخدمي (ستارلينك) في “أوكرانيا” نحو: 150 ألف أوكراني يوميًا، وهو رقم ضئيل جدًا بالمقارنة بعدد سكان “أوكرانيا”؛ الذي تجاوز: 44 مليون نسمة.
وفي المقابل؛ ومع دخول الخدمة المحتمل في “إيران”، لا يتصور أن يتجاوز عدد مستخدميها: مليون نسمة على أرجح الآراء، كما أن تلك الخدمة ستواجه تحديات تقنية ولوجستية عدة، لا سيما أنها تتطلب إنشاء محطات صغيرة، وأجهزة مصممة لاستقبال الإشارة من الأقمار الصناعية، ومحطات أرضية ثابتة قريبة من المستخدمين؛ فإن وجدت تلك المحطات في الداخل الإيراني دون موافقة السلطات الإيرانية، تزايدت احتمالات استهدافها، وإن وجدت في أي من الدول المجاورة، تزايدت فرص اندلاع أزمة دبلوماسية بين “إيران” وجيرانها.
04 – ضرورة رفع “العقوبات الأميركية”..
تتطلب الحالة الإيرانية – على سبيل التحديد – التجاوز عن بعض “العقوبات الأميركية”؛ التي فُرضت سلفًا في عام 2014، والتي مُنعت بموجبها شركات تكنولوجيا المعلومات من تقديم مجموعة كاملة من خدماتها إلى الجانب الإيراني.
صحيحٌ أن “وزارة الخزانة” الأميركية سمحت، في 23 أيلول/سبتمبر 2022، لشركات تكنولوجيا المعلومات الأميركية بتوسيع أنشطتها التجارية في “إيران” في المستقبل، وتقديم المزيد من الخدمات عبر “الإنترنت”؛ في “إيران” مرة أخرى، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي وبرامج مؤتمرات الفيديو والخدمات الأخرى، إلا أن هذا الأمر تباينت الآراء بصدده؛ بين من رأى أنه يقوض مصداقية “العقوبات الأميركية”، ومن دفع بتزايد أهميته.
محدودية التأثير..
ختامًا، يُدلل توظيف “الولايات المتحدة”؛ لـ”الإنترنت”، في مواجهة خصومها على تحوله إلى إحدى أدوات الصراع الرئيسة التي يمكن توظيفها بصورٍ عدة؛ يأتي منها على سبيل المثال اختراق الشبكات الوطنية، وسرقة المعلومات الحساسة، وشن الهجمات السيبرانية، وغير ذلك.
ويبرز في هذا الإطار الدور الذي تلعبه الشركات التكنولوجية الكبرى؛ لا سيما مع حجمها العملاق، وتنامي أعداد مستخدميها، وتنوع خدماتها المميزة التي قد تُصبح بديلاً محتملاً عن الخدمات الوطنية، بيد أنه في المقابل، لا يمكن لتلك الأداة بمفردها – لا سيما في الحالة الأميركية – أن تُحقق أهداف “الولايات المتحدة” المرجوة؛ فهي لن تردع الاحتجاجات الإيرانية، ولن تجعل النظام السياسي في “كوريا الشمالية” أكثر ديمقراطيةً؛ (بحسب وصف التقرير المنحاز لوجهة النظر الأميركية)، ولن توقف الحرب “الروسية-الأوكرانية”.
بل لا يمكن إغفال توظيفها المضاد من قبل مختلف الخصوم، لتتزايد في المقابل إمكانية تعرض “الولايات المتحدة” لهجمات سيبرانية تهدد أمنها القومي.