وكالات – كتابات :
“فرنسا هي السبب في تأجيج العنف والإرهاب بمنطقة الساحل الإفريقي”.. هكذا يتهم مراقبون والسكان المحليون؛ “باريس”، ورغم إعلانها إنهاء عملية (برخان)، فإن نفوذ “فرنسا” العسكري بالساحل لم ينتهِ، وفي الوقت ذاته، فإن الأزمة مرشحة للتصاعد.
وأعلن الرئيس الفرنسي؛ “إيمانويل ماكرون”، في 09 تشرين ثان/نوفمبر، إنهاء عملية (برخان) العسكرية؛ التي كانت “فرنسا” بدأتها منذ 08 سنوات بدعوى مكافحة الإرهاب في منطقة “الساحل الإفريقي”.
ولا يُعرف بعد مصير الموقف العسكري الفرنسي في “غرب إفريقيا” بعد هذا القرار، ولكن يتوقع أن تؤول الأمور في منطقة “الساحل” إلى مزيد من الفوضى، إلا أن قدرة عمليات الانتشار الفرنسية مفتوحة الأجل على منع تدهور الأمور صارت أمرًا مشكوكًا فيه، حسبما ورد في تقرير لموقع (Responsible Statecraft) الأميركي.
ويقول التقرير: “لقد استنفدت فرنسا؛ على أي حال، كلَّ نصيب لها من الترحيب السياسي الذي كان ضروريًا لانتشارها في المنطقة. ومن جهة أخرى، فقد تبيّن أن جميع نجاحات عملية (برخان) زائلة التأثير”.
نفوذ “فرنسا” العسكري بالساحل سيأخذ شكلاً جديدًا بعد إنتهاء “برخان”..
وقال “ماكرون”؛ أثناء عرض: “إستراتيجية الأمن القومي الفرنسي” الجديدة في خطاب أمام وزراء الحكومة وكبار الضباط العسكريين؛ في مدينة “تولون”، إن “فرنسا” ليس لديها: “دعوة مفتوحة الأجل للمشاركة في عمليات خارجية”، وأوضح أنه قرر إنهاء عملية (برخان) لهذا السبب، وأن “فرنسا” تنوي أن يكون تعاملها مع دول المنطقة قائمًا على موقف كل دولة على حدة؛ “بمقتضى تلبية الاحتياجات التي يُبديها شركاؤنا: من جهة المعدات والتدريب والشراكات التشغيلية، واتفاقات التعاون طويلة الأمد وقصيرة المدة”.
على الرغم من ذلك؛ فإن تصريحات “ماكرون” جاءت مفتوحة للتفسير على أوجه مختلفة، إذ تبدو “فرنسا” حريصة بقدرٍ ما على مواصلة العمل مع دول “غرب إفريقيا”، مثل: “النيجر”، التي ما زالت تحتفي بها.
وقد تطرقت إستراتيجية الأمن القومي إلى مسألة: “تهديد المجموعات (الجهادية) المتشددة”، التي قامت عملية (برخان) لمعالجتها في المقام الأول، وتوقعت أن تظل المشكلة قائمة خلال العقد المقبل، ما قد يُثير أزمات: “تستدعي المشاركة العسكرية لمساندة الشركاء المحليين”.
والخلاصة أن الإستراتيجية الفرنسية تُشير في واقع الأمر إلى استمرار الدور العسكري لـ”فرنسا” في “غرب إفريقيا” ومنطقة “الساحل”؛ أكثر مما تُشير إلى تغييره أو الانصراف عنه.
لماذا إنهارت عملية “برخان” ؟
إنهارت عملية (برخان) بسبب التوترات السياسية بين “فرنسا” و”مالي”؛ فقد دخلت القوات الفرنسية؛ “مالي”، المستعمرة الفرنسية السابقة، في عام 2013؛ للتصدي للمجموعات المتشددة التي سيطرت على مناطق في شمال “مالي”؛ وكانت تتقدم للسيطرة على وسط البلاد. وبعد أن تمكنت “فرنسا” من تعطيل الحملة الأولى، أعلنت عن بدء عملية (برخان) لمحاربة المجموعات المتشددة في جميع أنحاء المنطقة.
وقامت (برخان) بالأساس على برنامج اغتيالات تضمَّن – بقدرٍ لا بأس به من النجاح – القضاء على كبار القادة العسكريين للمجموعات المتشددة.
ومع ذلك؛ فقد تصاعد عنف المجموعات المتشددة واتسع نطاقه داخل “مالي”، حتى امتد إلى مناطق من: “بوركينا فاسو والنيجر” المجاورتين. واشتد العداء لـ”فرنسا” بين عموم الناس في البلدان الثلاثة، فقد اتهمها النقاد بالفشل في تحقيق الأمن، والسعي إلى تجديد دورها الاستعماري في مساندة القادة المكروهين خدمةً لمصالحها، حتى إن بعض القائلين بتآمرها على البلاد اتهموها بالتحريض على الاضطراب وغياب الأمن والاحتيال بوجهين؛ (بث الفوضى حتى يلجأ الناس إليها فتحميهم).
انقلاب “مالي” كان القشة التي قصمت ظهر البعير..
اجتمعت الانتقادات المشروعة مع نظريات المؤامرة، فزاد الرفض السائد لحضور القوات الفرنسية.
وجاء انقلاب آب/أغسطس 2020 العسكري، فأزاح الشريك الأساس لـ”فرنسا” في البلاد، الرئيس “إبراهيم بوبكر كيتا”. وقد حاولت “فرنسا” أن تبحث عن مكان لها إلى جانب السلطة العسكرية الجديدة، إلا أن الانقلاب الذي وقع في آيار/مايو 2021؛ جاء إلى الحكم بمجموعة أشد صراحة في مناهضتها للحضور الفرنسي، وأدى إلى تفكيك الروابط المتبقية بين “باريس” و”بماكو”.
فقد هاجم المجلس العسكري؛ “فرنسا”، وسعى علانية إلى التعاون مع “روسيا” واستقدام مجموعة (فاغنر)؛ المرتبطة بـ (الكرملين)، ورفض تلبية المطالب الإقليمية والدولية بتحديد جدول زمني سريع للعودة إلى الحكم المدني.
تفاقم العنف..
واشتد العنف في “مالي” هذا العام، وأرجع بعض المراقبين ذلك إلى تراجع عملية (برخان) العسكرية. ولم يتمكن الجيش المالي وأفراد مجموعة (فاغنر) من إيقاف العنف، بل زعم البعض أنهم زادوه إشتعالاً، وقد صارت (فاغنر) الآن هدفًا لهجمات المجموعات المتشددة، ووسيلة يحشدون الناس بها.
وتفاقم سوء الأحوال، خاصةً في منطقتي: “غاو” و”ميناكا”؛ في شمال شرق “مالي”، حيث عمد الفرع التابع لتنظيم (داعش) بالمنطقة، المعروف عادة باسم: “تنظيم (داعش) في الصحراء الكبرى”، إلى شن هجمات متوالية على الميليشيات والمدنيين.
ومنذ آذار/مارس من هذا العام: قُتل مئات من الناس، ونزح آلاف، وانقطع السير في معظم الطرق الرئيسة؛ بسبب عمليات السطو والاختطاف، وفرض مقاتلو تنظيم (داعش) سيطرتهم على مساحات كبيرة من الأراضي.
اغتالت “فرنسا” عدة قيادات لتنظيم (داعش) في “مالي”، وألقت القبض على كثير من المنتمين إليه منذ ظهوره هناك عام 2015. والغالب أن استمرار وتيرة الغارات على التنظيم كان من شأنه أن يمنع هيمنته الحالية أو يحد منها على الأقل. إلا أنه من الواضح أن الغارات الفرنسية لم تحدّ من قدرات التنظيم على المدى الطويل، فقد تمكنت الجماعة من الاستمرار في هجماتها؛ رغم اغتيال “فرنسا” لمؤسسها في عام 2021، وإلقاء القبض على قائد بارز آخر؛ في حزيران/يونيو 2022.
“فرنسا” اعتمدت على الاغتيالات وأججت التوترات العرقية..
يُذكر هنا أن “فرنسا” إفتقرت إلى إستراتيجية واضحة لتحويل حملتها من مجرد غارات واغتيالات إلى حلٍّ سياسي مستدام لمشكلة تنظيم (داعش) أو المجموعات المتشددة في منطقة “الساحل” عمومًا. وقد استمر التنظيم في اكتساب الحاضنة والتأييد من المشكلات العميقة الجذور بالمنطقة: مثل أزمة الرعي في الإقليم، وزاد عليها ما إقترفته “فرنسا” من أفعال زعمت أنها غير مقصودة، لكنها أجَّجت بها التوترات العرقية في الأراضي الحدودية بين “مالي” و”النيجر”، بعد أن حالفت عام 2018 مجموعتين من الميليشيات لمساندتها في محاربة تنظيم (داعش)، مع أن المفترض بها مواجهة الميليشيات والحد من انتشارها.
والخلاصة أن “فرنسا” لم تتمكن قط من معالجة البواعث الأساسية لانتشار العنف في المنطقة، وأبت التراجع عن حساباتها الخاطئة، ومن المحتمل أنها كانت ستبقى عاجزة عن فعل ذلك حتى لو بقيت عقدًا آخر في “مالي”، حسبما ورد في التقرير الأميركي.
وفشلت كل من عملية (برخان) الفرنسية وعمليات (فاغنر)؛ التي تصفها المصادر الغربية بالوحشية حاليًا في القضاء على المجموعات المتشددة، ولم تنجح الاستعانة بميليشيات أجنبية مختلفة العرق، ولا الاستعانة بمجموعات متشددة أخرى. ومع ذلك، فإن الناس ومجموعات المجتمع المدني في “غاو” تطلب من السلطات المالية تكثيف الحضور وزيادة الأمن، ولا يطلب أي منهم عودة “فرنسا” وعمليتها (برخان)، وإنما على النقيض من ذلك شهدت “غاو” احتجاجات مناهضة لعملية (برخان)؛ في آب/أغسطس.
الحل في عملية تقوم بها حكومات المنطقة ومعالجة أسباب الصراع..
ويرى خبراء أن أحسن خيار لـ”مالي” الآن؛ أن تقطع السلطات علاقتها بمجموعة (فاغنر) الروسية، وتمسك بزمام الأمور لحل المشكلة حلاً جذريًا. لكن إقدام السلطة على هذا الخيار يبدو مستبعدًا، لأن نتيجته الأولية ترك مساحات شاسعة من شمال شرق “مالي” غنيمة يفترسها تنظيم (داعش)، وإذا زادت سيطرة التنظيم في المنطقة، فإن ذلك يُتوقع أن يُفضي في النهاية إلى استدعاء التدخل الأجنبي من جديد.
أما عن دور “الولايات المتحدة”، فيذهب الباحثون في تقرير حديث لمعهد (كوينسي) الأميركي إلى أن حكومة “الولايات المتحدة” لا تستطيع فعل الكثير على المدى القصير، وغاية ما يمكنها فعله هو التخفيف من آثار المحنة التي يعيشها سكان منطقة “الساحل الإفريقي” بفعلِ أزماته التي لا تنتهي.
وإذا كانت حكومة “مالي” رافضة أو عاجزة عن توفير الأمن، فيمكن لـ”الولايات المتحدة” أن تُساعد الماليين في إيصال أصواتهم وتأمين انتخابات يُعربون بها عن رأيهم؛ بحسب مزاعم التقرير الأميركي.
الواقع أن المطالبة باستئناف التدخل العسكري في منطقة “الساحل الإفريقي” ستعود إن عاجلاً أم آجلاً، إلا أن المنطقة بحاجة إلى درجة معينة من العمل العسكري لمكافحة هجمات المتشددين الحالية في شمال شرق “مالي”، لكن هذه المرة يجب أن يأتي هذا العمل من حكومات الساحل نفسها؛ (لا سيما بعد فشل محاولات فرنسا لتشكيل قوة إقليمية مشتركة عام 2017، لأن الناس رأت فيها مساعي استعمارية جديدة).
علاوة على ذلك؛ يجب على “الولايات المتحدة” ألا تساند أي جهود عسكرية في منطقة “الساحل” – حتى تلك التي تنشأ عن حكومات المنطقة – ما لم تكن مصحوبة بخطط ملموسة لمعالجة الأسباب الجذرية للصراع، وخطط جادة للحوار مع أي طرف يبدي استعداده للتفاوض.