سؤال أبرزته الحرب “الروسية-الأوكرانية” كما أفرزته جميع الآزمات .. غياب “الصناعة العربية” والجاني معروف !

سؤال أبرزته الحرب “الروسية-الأوكرانية” كما أفرزته جميع الآزمات .. غياب “الصناعة العربية” والجاني معروف !

وكالات – كتابات :

ما إن اندلعت نيران الحرب بالاجتياح الروسي لشرق “أوكرانيا”؛ يوم الخميس الماضي، حتى انفجرت التقارير الصحافية وآراء الخبراء وتصريحات المسؤولين الحكوميين العرب؛ بشأن تأثير دول منطقة الشرق الأوسط بالحرب وتداعياتها الاقتصادية عليها بداية من الصناعة والتجارة والزراعة.. مما يبلور تساؤل محدد وهو: لماذا لا تُصنع الدول العربية ؟؛ وبالطبع الإجابة ليست بسهولة عدد الكلمات القليلة للسؤال..

عقب اندلاع ثورات “الربيع العربي”؛ كان الاقتصاد ونمط الإنتاج في القلب من النقاش العام حول قضايا الحكم والسياسة في الدول العربية، وكان أحد أهم الأسئلة المطروحة اقتصاديًّا هو: لماذا تعتمد دولنا على الاستيراد من الخارج ؟.. ولماذا لا نستطيع تحقيق الإكتفاء الذاتي على الأقل في السلع الإستراتيجية ؟.. ولماذا نجحت أمم أخرى في أن تتجاوز الاعتماد على الخارج في اقتصاداتها، بل تُصدر أيضًا إلى الخارج، بينما فشلنا نحن ؟

وعلى الرغم من أن هذا السؤال ليس محصورًا بالقطاع الصناعي فحسب؛ بل يتعداه إلى القطاعات الأخرى، فإن الصناعة والصناعات المعقدة ذات التكنولوجيا العالية تحديدًا؛ هي ما يُميز الأمم المتقدمة عن غيرها، وهي ما اعتمدته كثير من الدول النامية لتحقيق الصعود الاقتصادي، وحجز مكانة بين الدول المتقدمة، أو قريبة منها.

وتُظهر الإحصاءات؛ في الوقت الحالي، أن الدول العربية تُعاني من عجز في الميزان التجاري؛ (الصادرات-المستوردات)، من السلع، باستثناء الدول المُصدرة للطاقة بأنواعها، وهي دول تعيش وضعًا استثنائيًّا عن باقي البلدان العربية.

ولا يمكن اعتبار تصدير “الطاقة الخام”؛ جزءًا من الصناعة بمعناها الحقيقي، فالصناعة التحويلية القائمة على إضافة قيمة على المواد الخام هي الأهم في هذا المجال، وإن كان بالإمكان استخدام السلع الإستراتيجية مثل: “النفط والغاز الطبيعي”؛ في خلق القدرة على إنتاج قاعدة صناعية، وذلك باستخدام ريوع “النفط” و”الغاز” واستثمارها في استيراد التكنولوجيا وتبنيها، ورفع إنتاجية الأفراد وتعليمهم وتدريبهم لخلق القاعدة الصناعية اللازمة للتنمية.

فلماذا لم ينجح الوطن العربي في هذه المهمة ؟.. ولماذا لم تنجح “مصر” تحديدًا في ذلك؛ بصفتها الدولة العربية الأكبر – من ناحية  السكان، وذات الإمكانات الأضخم، إذا ما استثنينا صناعات الطاقة، وبصفة “مصر” نموذجًا لباقي الدول.

من حلم التصنيع إلى برامج الإصلاح الاقتصادي..

لم ينشأ الاهتمام بتأخر الاقتصاد في “مصر” وضرورة تبني نمط إنتاجي؛ فجأة بعد انتفاضة “25 يناير”، بل سبقه قبل ذلك مشروع ضخم، استطاع بالفعل تحقيق خطوات كبيرة في اتجاه التصنيع، إلا أن هذا المشروع باء بالفشل أو الهزيمة لاحقًا، سواء على يد الخارج، وعلامته الفارقة خسارة العرب في حرب عام 1967 مع “إسرائيل”، أو من الداخل بعد تحول “مصر”؛ عن السياسات الاشتراكية التي ميزت “مصر الناصرية”؛ إلى الانفتاح الاقتصادي مع الرئيس المصري الأسبق؛ “أنور السادات”، ومن ثم الرئيس المصري المخلوع؛ “حسني مبارك”.

في منتصف القرن الماضي؛ كانت الإستراتيجية الأكثر شعبية هي إستراتيجية: “استبدال المستوردات”، وما تعنيه هذه الإستراتيجية هو أن البلد سينتهج سياسات اقتصادية منغلقة، بحيث يُفرض على المستوردات جمارك عالية، ويجري إدخال هذه المستوردات عن طريق شركات حصرية مُصرح لها بالاستيراد، وعلى مستوى ضيق نسبيًّا، بهدف البدء تدريجيًّا باستبدال منتجات مُصنعة محليًّا بالمنتجات المستوردة من الخارج.

تفترض هذه المقاربة قيام الدولة بالمهمة الأساسية في الاقتصاد، لتُصبح في المكانة الأولى في كل من الإنتاج، والتوزيع، والاستهلاك، والتجارة مع الخارج، والتوظيف، ضمن خطة مركزية تضعها الحكومة لكل ذلك، تُنفذها وتُشرف على تنفيذها وتقييمها، فيما يُعرف: بـ”الاقتصاد المخطط”.

اصطدمت هذه الإستراتيجية بمشكلات اقتصادية عديدة، ولم تستطع تقديم حلول لها، وانتهى الأمر بالكثير من الدول بتحقيق معدلات تضخم عالية، وفي ظرف عالمي ساده أزمة ديون ضخمة، تبعها توجه كثير من الدول إلى المؤسسات الدولية؛ (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي)، لطلب الديون، وكانت أهم شروط هذه المؤسسات التخلي عن إستراتيجية “الاقتصاد المخطط”، وتحريره وفتحه على التجارة العالمية.

وعلى الرغم من أن “مصر”؛ واجهت صعوبات اقتصادية في الستينيات والسبعينيات، فإن طريقها نحو الانفتاح الاقتصادي لم يكن مدفوعًا بالرغبة في إنهاء هذه الصعوبات، بل كان دافعه الأساس سياسيًّا، إذ هدف “الانفتاح”؛ في منتصف السبعينيات، للتقارب مع “الولايات المتحدة الأميركية”، وهو التقارب الذي أفضى إلى توقيع اتفاقية السلام مع “إسرائيل”؛ 1979، واستكمال مشروع التحرير الاقتصادي في “مصر” لاحقًا في عهد الرئيس المصري الأسبق؛ “حسني مبارك”.

في الوقت ذاته؛ عرفت دول أخرى إستراتيجية أخرى للتنمية الاقتصادية، إلا أنها كانت ناجحة هذه المرة، فإذا كانت إستراتيجية “استبدال المستوردات” تقوم على الانغلاق، والمؤدي بالتالي إلى عدم تنافس منتجات البلد في السوق العالمية؛ ومن ثم انخفاض جودتها، كما هو مفترض وكما حصل بالفعل، تقوم الإستراتيجية الأخرى على: “النمو المُقاد بالتصدير”.

فبدلًا من الإنغلاق الاقتصادي، تقوم هذه الإستراتيجية على وصل المنتجين المحليين بالأسواق العالمية ذات الطبيعة التنافسية، لتتمكن الصناعات المحلية من الإرتقاء والمنافسة مع الدول المتقدمة، ولا تهدف هذه الإستراتيجية إلى تحقيق الإكتفاء الذاتي بالمعنى نفسه الذي تقصده الإستراتيجية الأولى، وإنما بمعنى التكامل مع التجارة الخارجية.

بحيث تتخصص الدول عن طريق الشركات الخاصة العاملة فيها بإنتاج ما يمكنها تحقيق تنافسية عالية فيه، مع الإبقاء على استيراد سلع أخرى من الخارج، دون تحقيق عجز في الميزان التجاري، لكون السلع المتخصصة وعالية التنافس عالية السعر، بما يسمح بأن تكون الصادرات أعلى قيمة من المستوردات في الوضع المثالي، ونجحت إستراتيجية التكامل في دول شرق وجنوب “آسيا”، بينما فشلت إستراتيجية “إحلال الواردات”، ولكن هل يمكن القول إن الاختلاف بين الإستراتيجيتين فرق تقني واقتصادي فقط ؟.. أم أنه فرق سياسي أيضًا ؟

تمثل “الولايات المتحدة الأميركية” ودول “أوروبا الغربية”؛ بالإضافة إلى دول حليفة أخرى مثل: “اليابان”، أغلب الثقل في الاقتصاد العالمي، وكانت نسبة هذه الدول من إجمالي الاقتصاد العالمي أكبر قبل صعود “الصين” مثلًا، كما أنها تُمثل القوة السياسية والعسكرية الأكبر في العالم، والأسواق الأضخم للاستهلاك والاستيراد من الخارج.

ويعني ذلك أن الدول التي تُريد إتباع الإستراتيجية الثانية؛ عليها أن تحظى بعلاقات سياسية جيدة مع هذه الدول؛ (كوريا الجنوبية مثالًا)، أو أن تفرض نفسها مصنعًا للعالم لا يمكن للعالم الاستغناء عنه؛ ولو لم يتفق معها الغرب و”اليابان” سياسيًّا؛ مثل “الصين”، فهل كانت تستطيع “مصر الناصرية”؛ ضمن أجندتها السياسية فعل ذلك ؟.. وهل تستطيع الدول المصنفة دولًا معادية لـ”الولايات المتحدة” و”أوروبا” إتباع مثل هذه الإستراتيجية ؟.. ولماذا هذا الفارق بينها وبين دول أخرى نجحت في التصنيع وتحقيق التنمية ؟

يجيب الاقتصادي؛ “علي القادري”، عن ذلك بالتفريق بين نمطين من إعادة الإعمار بين “كوريا الجنوبية” والعالم العربي، فقد حظيت “كوريا الجنوبية” بدعم أميركي ضخم يُقدر: بـ 10% من الناتج المحلي الإجمالي في بداية العلاقة بين “الولايات المتحدة” و”كوريا الجنوبية”؛ في الخمسينيات، إلا أن الأرقام وحدها ليست هي المهمة، بل السيادة التي وُفِّرت للدولة الكورية، والسماح لها بالقيام بإصلاحات اقتصادية كبيرة، هي نفسها ما حورب في أماكن أخرى في العالم، ومنها العالم العربي، مثل سياسات إعادة توزيع الأراضي.

يقول الاقتصادي اللبناني؛ “علي القادري”، إن إعادة الإعمار في الدول العربية كانت أشبه ما تكون باستمرار للحرب، والتي تهدف لتحقيق مطامح الإمبريالية، بتحطيم ما حققته التنمية سابقًا، بل تحطيم الدولة نفسها أيضًا.

ويمكن القول إن الطريقة التي يقوم عليها العالم اليوم؛ تقضي بإيكال مهمة لكل منطقة في العالم، وعليه تُصبح “آسيا” مصنعًا للعالم، لكون استيراد كثير من المنتجات الصناعية من هذه البلدان أرخص وأكفأ بالنسبة لـ”الولايات المتحدة” و”أوروبا” من تصنيعها لديهم، بينما هذا الدور لا يخص الدول العربية، إذ إن دورها هو البقاء مسرحًا للصراعات والحروب، وما يترتب على ذلك من أرباح غربية.

ونتيجة لمجموع الظروف الاقتصادية، ومضافًا إليها الظروف السياسية المتمثلة بهزيمة “القومية العربية”؛ في حرب عام 1967 خصوصًا، وغيرها من الوقائع التاريخية، أبدلت الأنظمة العربية بسياسات التحرر والاستقلال الاقتصادي سياسات التبعية والديون من المؤسسات الدولية، وتركت اقتصاداتها لتصمم على هذا الأساس، بل أطلقت بنفسها مسار تفكيك الدولة اقتصاديًّا عن طريق الخصخصة وبيع أصول الدولة للقطاع الخاص المحلي والأجنبي على حدٍ سواء.

وقد شملت عملية تفكيك منجزات “التنمية الاشتراكية” الدول العربية؛ التي شهدت حروبًا مباشرة على أرضها لحقتها عملية إعادة إعمار، بل شملت أيضًا تلك الدول التي وقعت إرادتها الاقتصادية رهينة للخارج أيضًا، أو طبقت حكوماتها هذه السياسات عن طيب خاطر.

التخلف المفيد للغرب.. معوقات التصنيع في الوطن العربي..

تاريخيًّا استطاعت الدول المتقدمة أن تسبق غيرها في الوصول إلى الثورة الصناعية، واحتكار التقنيات اللازمة للصناعة، بل استعمار الشعوب الأخرى عن طريق استغلال هذه الصناعات، لاستغلال ثروات أراضيهم، واستغلال شعوب هذه البلدان أيضًا.

وأدت الثورة الصناعية إلى تراكم رأس المال بشكل ضخم عند فئة معينة من سكان العالم، تتركز في الغرب تحديدًا، ولديها شبه احتكار في كثير من مجالات الصناعة؛ وخصوصًا الصناعات الثقيلة والمعقدة وذات التكنولوجيا المعقدة، بينما سمحت هذه الدول، لبعض البلدان الأخرى بالقيام بمهام أقل أهمية وربحًا من التصنيع.

تراكم رأس المال المخيف الذي حصله الغرب سابقًا أدى إلى قيام قواعد صناعية ضخمة، وخبرات وتكنولوجيا معقدة مبنية على التراكم، وتعتمد على سلاسل إنتاج وتوزيع كبرى، وتقسيم متخصص للعمل، بحيث توجد شركات ضخمة جدًّا، وشركات متوسطة وأخرى صغيرة، سواء داخل البلد الواحد أو على مستوى العالم، وتؤدي كل واحدة منها مهمة في عملية الإنتاج ودورته، وبينها تكامل صناعي قائم ومستقر، وبمؤسسات قادرة على إدارة هذه العمليات بكفاءة وتنافسية.

فكيف يمكن لدول العالم الأخرى أن تُنافس هذه الصناعات القائمة بالفعل والمتطورة على مدى سنوات طويلة ؟.. لا يمكن فعل ذلك إلا بإحدى الإستراتيجيتين ضمن المحددات السياسية اللازمة لكل واحدة منهما بطبيعة الحال.

فإما أن تنغلق الدول على نفسها، وتعزل ذاتها عن السوق العالمية؛ على الأقل حتى تستطيع بناء صناعات قادرة على التنافس، وإما أن تعتمد نظام النمو المدفوع بالتصدير؛ بشرط أن تتوفر العوامل السياسية والدبلوماسية اللازمة، والتي لا يمكن توافرها دون موافقة ضمنية من الدول الغربية، وموافقتها على أن تقوم الدولة بهذا الدور في الاقتصاد العالمي. بحسب آراء بعض الاقتصاديين العرب.

بالإضافة إلى ذلك؛ فإن البديل عن الإنتاج الصناعي هو التوجه نحو الإنتاج الخدمي، ولذلك مغريات كثيرة، فالقطاع الخدمي يحتاج تكاليف أقل بكثير من القطاع الصناعي، فبينما تُحقق الصناعة مبيعات مرتفعة جدًّا، فإن تكاليف هذه الصناعة مرتفعة جدًّا هي الأخرى، ما يعني أن هامش ربحها أقل بكثير، بينما لا تحتاج الخدمات إلى تحقيق المبيعات نفسها لتحصيل الربح نفسه بسبب انخفاض التكاليف. وهنا تجاري البلدان العربية حركة العولمة المالية الاقتصادية الحاكمة لسوق النيوليبرالية العالمية؛ وهو ما يحدث الآن بالفعل بالكثير من البلدان الهامة بالمنطقة.

إذ لا تحتاج كثير من القطاعات الخدمية إلى معدات وآلات كبيرة، بل لا تحتاج إلى عدد كبير من العمال والموظفين، ولا تبقي على مخزون من البضائع لتنفق على تخزينها، كما أنها لا تحتاج إلى بُنى تحتية ضخمة، وعليه لا يستطيع القطاع الخاص في الدول النامية تحقيق القاعدة الصناعية وحده، لعدم تحقيقها لاقتصادات الحجم الكبير، وحاجتها إلى إنفاق كبير، وللانتظار فترات طويلة بعدها قبل تحصيل الربح.

كما أن الدول المتقدمة تتأسس حول صناعاتها الكثير من القطاعات الأخرى المكملة والمتلازمة للصناعة، سواء كانت قطاعات صناعية أخرى أو خدمية، بينما تفتقر الدول النامية للقدرة على ذلك، ولا يمكن تحقيقه إلا من خلال الدولة واستثماراتها وإدارتها للاقتصاد، والإنفاق المرتفع بطبيعة الحال.

ومع ذلك ليست وظيفة الوطن العربي في الاقتصاد العالمي ما يحد قدرة دولنا على إنجاز التصنيع، بل الصناعة نفسها ليست قطاعًا سهلًا لدخوله، ويحتاج إلى إمكانات كبيرة، أو تعويض الدولة واستثماراتها وإدارتها لهذه الإمكانات.

ففي علم الاقتصاد هناك مفهوم يُعرف باسم: “موانع الدخول”، وهي الأمور التي تمنع دخول أطراف جديدة لسوق مُنتج ما، ففي حال أرادت شركة عربية الإقدام على دخول سوق أحد المنتجات فإنها ستصطدم بهذه الموانع، والتي بينها الموانع التكنولوجية، وتفضيل المستهلكين منتجات بعينها حتى داخل الدول العربية نفسها.

ولنأخذ المثال التالي: لو أراد أحدنا افتتاح شركة تصنيع سيارات في “الولايات المتحدة الأميركية”؛ فإنه سيحتاج إلى رأس مال ضخم، وهو وإن لم يكن كله متوفرًا معه نقدًا يمكن تحصيله عن طريق الاقتراض، وبأسعار فائدة منخفضة نسبيًّا، وسيجد في “الولايات المتحدة” بنية تحتية ضخمة تمكن صناعته من البدء والاستمرار؛ إن استطاع تجاوز العقبات الطبيعية مثل المنافسة.

ثم إن هذه الشركة لن تحتاج إلى تصنيع كل شيء بنفسها، بل تستطيع التعاقد مع شركات أخرى لشراء الكثير من القطع والآلات والمعدات اللازمة للتصنيع، فكثير من مصانع السيارات تشتري حتى قطعًا أساسية ومهمة مثل المحركات والبطاريات، ناهيك عن الإطارات وغيرها. كما أن الكثير من أنواع الإنتاج الوسيط اللازم لتصنيع السيارات سيكون متوفرًا لهذه الشركة، وبجودة عالية وخبرة طويلة، وربما حتى بأسعار تنافسية.

لكن لنفترض أننا نريد افتتاح الشركة نفسها في الوطن العربي، فبالإضافة إلى المعوقات الطبيعية الموجودة في كل مكان لن تجد هذه الشركة شيئًا مما ذكر أعلاه، فكيف إذا أضيف لكل ذلك الترتيب الاقتصادي العالمي، ووجود بدائل أخرى مربحة وبتكاليف أقل ؟

لكن مشكلة القطاعات الخدمية أنها لا تحتاج إلى عمالة كبيرة، وهو أحد تفسيرات ارتفاع معدلات البطالة في الوطن العربي، والتي سجلت حسب بيانات “البنك الدولي” أكثر من: 11% من إجمالي القوة العاملة، وهي نسبة مرتفعة؛ خصوصًا إذا ما أخذنا في عين الاعتبار أن العالم العربي يشمل دول الخليج الثرية.

ومع ذلك يُحقق الوطن العربي معدلات نمو لا بأس بها، بل مرتفعة في بعض الأعوام، ما يعني أن قطاعات كثيرة من الناس محرومة من جني ثمار هذا النمو نظرًا إلى طبيعة الاقتصاد الذي لا يُنتج منه توظيف للناس، والذي لا يمكن له تحقيق ذلك دون الصناعة.

وبالإضافة إلى القطاعات الخدمية؛ فإن إحدى أهم وظائف العالم العربي أن يكون مصدرًا رخيصًا للمواد الأولية، وخصوصًا لـ”الطاقة” بمختلف أشكالها، وكما بيَّن الباحثان الهنديان: “أوستا باتنايك”، و”برابهات باتنايك”، فإنه من الضروري للرأسمالية الحفاظ على الطلب العالمي على مثل هذه المواد منخفضًا لكي لا يرتفع سعرها بشكل مضطرد نظرًا إلى ارتفاع الطلب المتزايد مع تزايد الإنتاج والسكان.

ولكن ماذا لو لم يتمكن الوطن العربي؛ منذ الفورة النفطية من عدم تصدير كل هذه الكميات من موارده إلى الخارج، وتكاملت دول الخليج مع الدول العربية الأخرى الممتلكة لرأس المال البشري، واستخدمت هذه الموارد في بناء صناعات عربية ضخمة وبتكلفة بسيطة؛ بينما يُصدر الفائض عن الحاجة إلى الخارج بأسعار مرتفعة ؟.. وماذا لو استخدم “النفط” سلاحًا لإجبار الغرب على تصدير التكنولوجيا للدول العربية وتبنيها ؟

عندها سينخفض العرض العالمي من “النفط”، ما يعني ارتفاع سعره وتوفير أموال أكثر للاستثمار، وسترتفع قدرة الدول العربية على بناء القاعدة الصناعية والمنافسة في العالم بمنتجاتها، بالإضافة إلى تكامل دولها اقتصاديًّا الذي سيعني إنتاجًا أكبر بكثير من مجموع إنتاجها الحالي، ولكن وكما يُبين الباحثان الهنديان؛ فإن الإمبريالية التي هي صفة ملاصقة للرأسمالية لا يمكنها السماح بمثل هذه النتيجة، وعليه يستخدم الغرب نفوذه وقوته الدبلوماسية والعسكرية لإنتاج الوضع القائم وإعادة إنتاجه بما يخدم مصالحه.

وعليه فليست الإجابة عن سؤال عدم وجود قاعدة صناعية حقيقية في الوطن العربي إجابة سهلة، ولا يمكن إرجاعها إلى الثقافة أو الأعراف أو العلاقات الاجتماعية؛ كما أرجعها الكثيرون لمثل هذه العوامل، بل إن لهذه النتيجة عوامل أعمق متشابكة بين السياسة والاقتصاد وغيرها.

ومن ثم من الممكن تحقيق التحول الصناعي، ولكن ذلك يحتاج إلى رؤية اقتصادية وسياسية تستطيع التغلب على هذه العوائق، وتحتاج إلى الإقرار بإشكالية الصراع مع الغرب، وفعل ما يلزم للخروج من هذا الصراع بأقل الأضرار وأكبر المكاسب، ولن يحصل ذلك في ظل القناعة بأن الاقتصاد العالمي اليوم اقتصاد تنافسي وحر، وما ينطبق على الاقتصاد ينطبق على السياسة أيضًا.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة