منذ العام 2003 وبعد أن سقط صدام حسين.. كان الشغل الشاغل لإقليم “كردستان” العراق هو ضم محافظة “كركوك”.. ولطالما رُددت العبارة الشهيرة بأن “كركوك هي قدس كردستان”، في إشارة واضحة لأهمية المحافظة بالنسبة للكرد، حتى جاء شهر آذار/مارس 2017 ليشهد في نهايته رفع علم إقليم كردستان إلى جانب علم العراق أعلى قلعة محافظة كركوك التاريخية وجميع الأبنية والهيئات التابعة لها، إيذاناً ببدء مرحلة جديدة تباينت حولها آراء مكونات المحافظة ومن خارج العراق نفسه.
تركيا تعترض
فقد رأت تركيا أن تصويت مجلس محافظة كركوك بالموافقة على رفع علم كردستان على كامل مؤسسات المحافظة ومقرها قرار انفرادي يخص مستقبل كركوك ويؤثر على أمن واستقرار العراق، فضلاً عن ضرره البالغ بالجوانب الاجتماعية والاقتصادية للمحافظة خاصة أن المدينة ذات ثقافات مختلفة وأن مثل هكذا قرارات تمثل خطراً عليها، بحسب ما ذكره المتحدث باسم الخارجية التركية رداً على القرار.
انتهاك للسيادة العراقية
التعليق التركي لم يلق ترحيباً من المدافعين عن القرار، إذ جاء الرد على التصريحات التركية في ذات اليوم، واعتبر النائب عن كركوك “ريبوار طه” تصريحات وزارة الخارجية التركية، انتهاكاً وتجاوزاً على السيادة العراقية، وعبر عن رفضه التدخل في الشؤون الداخلية العراقية وإثارة ازمات داخلية من أي دولة كانت، ولفت إلى أنه على تركيا الالتفات إلى وضعها الداخلي وليس التدخل بشأن الاخرين، مطالباً بغداد وحكومة إقليم كردستان بالرد العاجل على تصريحات أنقرة.
بينما دعا النائب عن محافظة كركوك “شاخوان عبد الله”، أبناء المحافظة إلى طرد و”إسكات” جميع الأصوات التي تحاول شرخ ما أسماه “وحدة المحافظة”، زاعماً أن رفع علم كردستان فوق مباني المحافظة مطلب شعبي، وأن الرافضين يعبرون عن رأيهم الشخصي غير الملزم للأغلبية.
غضب عربي تركماني
القرار الذي سيكون له تبعاته بحسب مراقبين للأوضاع في العراق – خاصمة المناطق الشمالية – جاء التصويت عليه في مجلس محافظة كركوك في الثامن والعشرين من آذار/مارس 2017 بغياب أعضاء المجلس من العرب والتركمان، إذ أن 26 عضواً بالمجلس صوتوا لصالح القرار من أصل 40.
وسبق أن رفض ممثلو المكون التركماني بكركوك، في 17 آذار/مارس 2017، قرار رفع علم إقليم كردستان فوق دوائر المحافظة، مؤكدين على أنه يعمل على خلق الفتنة بين أبناء المحافظة بمكوناتها المختلفة.
وطالبت الأحزاب التركمانية الطلاب بمقاطعة الجامعات والمعاهد ليوم الأحد 26 آذار/مارس رداً على قرار رفع العلم الكردستان، مؤكدين على أنها خطوة “لحفظ التعايش والسلام بسبب أزمة رفع الأعلام”.
كركوك مدينة كردستانية
ورد عليهم بعدها بأقل من 24 ساعة، رئيس هيئة المناطق الكردستانية خارج إدارة الإقليم “نصر الدين سندي”، بقوله إن محافظة كركوك مدينة كردستانية، وإن رفع العلم الكردستاني على المؤسسات الحكومية والرسمية بها خطوة مهمة، بل تأخرت كثيراً، ويجب إلحاقها بكردستان بأسرع وقت.

استفتاء عاجل
واستنكر “سندي” الاستعانة ببغداد والتعويل عليها في متابعة أزمات المناطق الكردستانية الواقعة خارج إدارة الإقليم، مشدداً على أن بقاء الوضع على ما هو عليه سيشكل خطراً على الكرد في كركوك، بل وطالب بضرورة الإسراع لإجراء استفتاء لإلحاق كركوك بإقليم كردستان بشكل قانوني غير قابل للتراجع.
محافظ كركوك “نجم الدين كريم” قال، في التاسع والعشرين من آذار/مارس 2017، إن قرار رفع العلم يأتي وفق الأطر الدستورية والقانونية ولم يكن موجهاً ضد طرف أو مكون. ملمحاً إلى أن رفع علم كردستان “لا علاقة له بمصير كركوك السياسي”.
احتجاجات تركمانية
على الجهة الأخرى تظاهر عدد من التركمان في محافظة كركوك بعد تصريحات المحافظ المتعلقة بقانونية قرار رفع العلم الكردستاني، معتبرين القرار انفرادي يخدم مصالح جهة واحدة وأنه غير قانوني، على حد قولهم، فهل تؤثر هذه الاحتجاجات أم المركب سيسير وربما نشهد مظاهر أخرى من التغييرات في محافظة كركوك المقسمة لأربعة أركان، أولها “قضاء كركوك” المشكل من خليط من التركمان والعرب والكرد، ثم “قضاء الحويجة” المشكل من مدن الحويجة والزاب والرشاد والرياض والعباسي ومئات القرى الريفية ويسكنها أكثرية من العرب السنة، ثم “قضاء داقوق” ويضم أغلبية من التركمان المسلمين الشيعة والكرد في بعض المناطق شمالي داقوق والمناطق القريبة من مدينة كركوك، وأخيراً “قضاء الدبس” بأغلبية من العرب السنة في وسط وجنوب قضاء الدبس مع اغلبية من الأكراد في شمال القضاء.
مذكرة احتجاج
وقف المحتجون في محيط مقر محافظة كركوك، رافعين أعلام عراقية وتركمانية وشعارات ضد قرار رفع علم إقليم كردستان فوق المباني الحكومية بالمحافظة، ورفعوا لافتات وشعارات وهتافات “كلا.. كلا.. للقرارات غير الدستورية”، و”التركمان يرفضون قرار المحافظ برفع علم إقليم كردستان فوق المباني”، مشددين على أنهم سيقدمون مذكرة احتجاج رسمية لمجلس المحافظة وإداراتها ضد القرار.
قلق أممي
في الأثناء، عبرت الأمم المتحدة، كعادتها – عن قلقها إزاء رفع محافظ كركوك نجم الدين كريم علم إقليم كردستان فوق قلعة المحافظة، محذرة من اتخاذ أية خطوات مما وصفتها بـ”أحادية الجانب” والتي قد تسبب “خطورة على حالة التعايش السلمي”.. لكن هل تملك الأمم المتحدة حقاً أي سلطة لتغيير القرار أم أن مثل هكذا تصريحات ربما تؤجج الموقف أكثر وأكثر بين مكونات المحافظة؟
“فتش” عن النفط
إن رفع العلم الكردستاني يأتي بعد عدة أشهر مما كشفته وكالة “رويترز” للأنباء في أيلول/سبتمبر عام 2016، قبل 6 أشهر فقط من رفع علم كردستان على كركوك، نقلاً عن مصادرها من أن شركة تسويق النفط الحكومية العراقية (سومو) وإقليم كردستان العراق استأنفا تصدير النفط بشكل مشترك من حقل كركوك “العملاق” – ولنركز هنا على كلمة عملاق – بعد إبرام اتفاق مبدئي جديد بشأن تقاسم الإيرادات!
واعتبرت “رويترز” وقتها أن هذا التطور يمثل انفراجاً في العلاقات بين بغداد وأربيل بعد نزاع استمر بضع سنوات على كيفية تقاسم النفط ومخصصات الميزانية، في خضم أزمات مالية لدى الجانبين ومعركتهما ضد تنظيم داعش.
ولمن لا يعلم فإن بموجب هذا التفاهم، فإن شركة نفط الشمال الحكومية وحدها تضخ يومياً – على الأقل المعدل قابل للزيادة – من نفط كركوك حوالي 150 ألف برميل، ما يعني نحو 7 ملايين و500 ألف دولار في اليوم – على أساس أن البرميل الواحد بـ50 دولار – وبنحو 225 مليون دولار في الشهر و2 مليار و700 مليون دولار في العام الواحد، والذي يصدر عبر خط أنابيب يمتد في المناطق الكردية وصولاً إلى ميناء “جيهان” في تركيا.
كان إقليم كردستان يتولى أمر نفط كركوك بشكل منفرد، قبل آذار/مارس 2016، ولم تصدر أي شحنة لحساب شركة “سومو” من ميناء جيهان منذ منتصف عام 2015 حين بدأ الإقليم يستقل ببيع النفط المستخرج من حقوله ومن كركوك، بمعدل يقدر بنحو خمسمائة ألف برميل يومياً.

النفط وتحرير الموصل مقابل رفع العلم
يقول متابعون إن قرار رفع العلم الكردستاني على كركوك، جاء بعد تفاهمات بين رئيس الوزراء العراقي “حيدر العبادي” ورئيس وزراء إقليم كردستان “نيجيرفان البارزاني” على تقاسم النفط وكذلك مشاركة الأكراد “البشمركة” على الأرض في تحرير الموصل، أهم وآخر معاقل تنظيم داعش في العراق، وهو ما تحقق بعدها بشهر وتحديداً في تشرين أول/أكتوبر 2016، عندما نجحت القوات الكردية في انتزاع السيطرة من داعش على 9 قرى شرق الموصل وتمهيد نحو 80 كيلو متر من الطريق أمام القوات المشاركة في تحرير الموصل، أي أن هناك فاتورة كان على الجالسين في بغداد تسديدها!
رسالة تهديد أخيرة
وعندما تأخر سداد الفاتورة، وتنفيذ ما جرى الاتفاق عليه، أوقفت قوات حزب “الاتحاد الوطني الكردستاني” بالقوة في الثاني من آذار/مارس 2017 ضخ نفط الشمال في كركوك – وكان وقتها بمعدل 160 ألف برميل – كرسالة إنذار لحكومة العبادي بأن عليها دين في رقبتها وإلتزامات تجاه كركوك لابد من تنفيذها، ليأتي إعلان محافظ كركوك في الرابع عشر من آذار/مارس 2017 – بعد أقل من أسبوعين من التهديد الكردي – بالاستعداد للتصويت على رفع علم كردستان على مقرات ومنشآت المحافظة!