خاص : كتبت – هانم التمساح :
لا يزال شباب الانتفاضة العراقية مرابطين في ساحات الاحتجاج التي تشمل معظم المحافظات الوسطى والجنوبية، بعد أن قاربت تظاهرات الشارع العراقي على إتمام شهرها الرابع، حيث إنطلقت مطلع تشرين أول/أكتوبر 2019.
وتُعد تلك الانتفاضة، التي حملت شعار: “نريد وطنًا”، الأوسع انتشارًا والأقوى تأثيرًا بين كل حركات الاحتجاج والتغيير في تاريخ “العراق” الحديث، وكان لها صدى في تغيير بعض المعتقدات الاجتماعية، حتى وإن لم تحقق الكثير على المستوى السياسي، الذي يحتاج لصبر طويل ونضال مستمر للتخلص من شبكات المصالح المتشابكة.
انتفاضة ملهمة ضد الطائفية..
وقد وصل صدى تلك الانتفاضة بلدان تماثل حالة “العراق”؛ فكانت ملهمة لدول أخرى، مثل “لبنان”، الذي يعاني أنظمة المحاصصة الطائفية والحزبية، فضلاً عن أنه يتحرك في منطقة النفوذ الإيراني المتصاعد.
وعلى الرغم من مجابهة تلك الانتفاضة بكل وسائل العنف المفرط والقمع، من تغييب وقتل واختطاف واغتيالات؛ طالت ناشطين وصحافيين، وعمليات الترهيب الممنهجة، لكن ذلك يبدو، لم يؤدِ إلى تراجع المنتفضين عن إرادتهم لما يطلقون عليه: “استعادة الوطن المختطف”.
خلقت حالة تكاتف إجتماعي..
ويشعر المتظاهرون العراقيون أن أحد أكثر المكتسبات المتحققة، وأهمها هو خلقهم حالة تكاتف اجتماعي، وأن انتفاضتهم تعدت حدود ساحات الاحتجاج وباتت مطالبها تمثل رؤية أغلب العراقيين، من خلال تجاوز الهويات الفرعية أمام الهوية الوطنية، وهذا ما لم يتحقق منذ الغزو الأميركي لـ”العراق” وبداية التشظي الطائفي والقومي وصناعة نظام المحاصصة الحزبية والطائفية.
وعلى الرغم من العنف الذي جوبهت به الاحتجاجات، خلال الأشهر الماضية، ما خلَّف حوالي 700 قتيل و25 ألف جريح، تتزايد أعدادهم باستمرار، لكنها لم تتراجع مع استمرار التصعيد.
وتتمحور مطالب المحتجين العراقيين بخطوات تمهد لانتخابات مبكرة بإشراف أممي يضمن عدالتها ونزاهتها، فضلاً عن تغيير قوانين تلك الانتخابات ومفوضيتها بما يتجاوز مبدأ المحاصصة الذي قامت عليها المفوضيات السابقة، وترشيح رئيس وزراء مستقل لمرحلة انتقالية يضمن شفافية تلك الإجراءات. لكن القوى السياسية، وتحديدًا تلك المرتبطة بـ”إيران”، لا تزال متعنتة في تنفيذ تلك المطالب، وأبرز ما يخيفها هو عدم وجود ضمانات لها بأن المرحلة المقبلة لن تشمل ملاحقتهم قضائيًا في ملفات فساد وقتل، وتحديدًا فيما يتعلق بقمع الانتفاضة، وهذا أحد أبرز المطالب الشعبية، بحسب مراقبين.
نهاية مرحلة المحاصصة الطائفية..
وبينما تتفاوت آراء المحتجين حول المتحقق من منجزات في انتفاضتهم، إلا أنهم يجمعون على أنها نجحت في تفتيت مفهوم “الطائفية” على المستوى الاجتماعي، ويرون أن ذلك يعني نهاية مرحلة المحاصصة الطائفية في إطارها السياسي مستقبلاً، التي فشلت في بناء الدولة.
وعلى الرغم من تعنت السلطة في تنفيذ مطالب المنتفضين؛ فإنها نجحت في تحقيق أهدافها من خلال صناعة وعي وطني يحدث للمرة الأولى، منذ عام 2003، وكشفت مدى هشاشة مشروع “الإسلام السياسي في العراق وتورط الكثير من أطرافه في الفساد؛ والحصول على الأصوات بالتزوير ومدى رفض العراقيين لهم”.
نهاية مشروع “الإسلام السياسي”..
وأظهرت الانتفاضة وعي شباب صغار قبروا “الطائفية” وقادو مشروع “الإسلام السياسي” إلى نهايته، باعتباره جزءًا من أزمات البلاد.
ويبقى أن نتأمل في أن يُترجم نجاح الانتفاضة بطرق سلمية من خلال خريطة الطريق التي وافقت عليها التظاهرات، خاصة وأن سيناريو التغيير يحصل في صناديق الإقتراع، لكنه محكوم بنية الأطراف السياسية بتفهم ما حصل في “العراق” من تغيير جذري. أما إذا كانت غير جادة ومضت بقانون انتخابات شكلي ومفوضية تحاصص وحكومة انتقالية تابعة للأحزاب، فإننا أمام سيناريو خطير، وهو “الإنفلات”، مبينًا المراقبون أن تعنت القوى السياسية وعدم رضوخها؛ قد يؤدي إلى عودة خيار إسقاط النظام بالكامل.
ولم تستثن الانتفاضة، السياسيين؛ وتحديدًا القوى الشيعية ذات الإرتباط بفصائل مسلحة قريبة من “إيران”، إذ إن تلك القوى باتت تتخوف من الجمهور الشيعي الذي يحمّلها مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في “العراق”، فضلاً عن اتهامات طالتهم من قِبل المحتجين بالوقوف وراء عمليات القمع الممنهجة التي مورست عليهم، لكنها أيضًا دخلت في مواجهة مباشرة مع “أميركا” ما جعلها تُمر بأسوأ أحوالها.
ونجحت الانتفاضة في جعل بعض القوى الشيعية غير قادرة حتى على التجول، وباتت مختبئة، خوفًا من المحتجين وخوفًا من إصطيادهم أميركيًا، وأصبحت لا تفكر سوى في الإتيان برئيس وزراء يُجنبها الاستجواب والعقوبة على ما أقترفته في الفترة الماضية، لكنها تبدو عاجزة تُشكّل عبئًا على “إيران” الداعم الرئيس لها.
ولن تستمر تلك الطبقة السياسية في الحكم، مع ثبات المحتجين العراقيين، فضلاً عن إصرار رئيس الجمهورية التعاطي معهم أكثر من سعيه لتقبل ما ينتج من تلك القوى السياسية، على الرغم من الشتائم والتهديد والضغوط التي يتعرض لها.
الولاء للعراق أولًا..
من ناحية أخرى؛ أدى تصاعد وتيرة الاشتباك، “الأميركي-الإيراني”، إلى حدًا ما، كبح تقدم انتفاضة تشرين أول/أكتوبر بإتجاه إنتزاع مكتسبات أخرى من الطبقة السياسية.
ولكن يبقى الإنجاز الأهم والأعمق والأكثر تأثيرًا على المدى البعيد، هو أن هذه الانتفاضة خلقت الإنتماء لـ”العراق”؛ وجعلته يفرض نفسه كهوية جامعة تمثل بديلاً عن الهويات الطائفية الموظفة من قِبل القوى السياسية، كرأس مال يستثمر لديمومة النظام الطائفي المُكرس لتنمية الإقطاعيات السياسية.
وقدمت صورة واضحة لخيبات أنظمة المحاصصة وفشلها كنظام حكم يُمثل حلاً لا بديل له لمشكلات التنوع الإثني والطائفي في دول المشرق العربي، حيث أثبت شباب تشرين أول/أكتوبر، عبر نبذهم للخطاب الطائفي، أن النظام الديموقراطي القائم على أساس المواطنة هو الحل؛ حتى في أشد النماذج تعقيدًا من ناحية التنوع كالنموذج العراقي أو السوري واللبناني.
إنجاز سياسي ضئيل..
ولم يتحقق الكثير، على المستوى السياسي، والشارع ينظر لتلك القوى على أنها هبَّت لإرضاء “إيران”، بعد مقتل “سليماني” و”المهندس”، لكنها لم تفعل شيئًا لإرضاء شعبها، إذ لم يُقر قانون الانتخابات ولم تُحدد مدة للانتخابات المبكرة أو حسم اختيار رئيس وزراء غير جدلي، حتى استقالة رئيس الوزراء كانت شكلية؛ وهو حتى الآن مستمر والقوى المسلحة تفرض وجوده.
وعلى الرغم من كل محاولات التشويه التي شابت الانتفاضة، بدءًا من استخدام قناصين وصفتهم الحكومة، بـ”المجهولين”، وتخوين المحتجين واتهامهم بأنهم يمثلون “أجندات أميركية وإسرائيلية”، واستمرار عمليات القمع واستخدام الرصاص الحي، وصولاً إلى الانسحاب الأخير لـ (التيار الصدري)، إلا أن كل تلك العوامل لم تؤدِ إلى إنتهاء الانتفاضة، بل إنها مستمرة بالتصعيد، وبحسب ناشطين، فإنهم لن يتراجعوا حتى تحقيق كل مطالبهم.
وإجتاز المجتمع العراقي الكثير من العقبات التي كانت تحول بينه وبين مسيرة التصحيح، التي كانت منتظرة ويُنظر لها، نحن اليوم أمام شعب يضع القوى والزعامات كافة تحت المساءلة والنقد ولا حصانة لأحد.
نظرة مختلفة لدور المرأة..
واختلفت النظرة للمرأة العراقية جراء الانتفاضة؛ لتتحول من صدى صوت لا قيمة له لصوت فاعل في مجتمع يغُلب عليه العشائرية يُهمش فيه دور النساء، فقد سطرت أمهات الشهداء المشاركات في التظاهرات، وفتيات “العراق” والناشطات، أسماءهن في صفحات البطولة، وكانت لا تقل تضحية ووطنية عن الرجل، بدلًا من اعتبارها كمًا مهمل.