بعد خروج “بريطانيا” من الاتحاد الأوروبي، وهي الإمبراطورية التي طالما عرفت بأنها البلاد التي لا تغيب عنها الشمس لاتساع المساحات الخاضعة لسيطرتها في أغلب القارات قبل عقود من الزمان، يبدو أن “فرنسا”، جارتها ومنافستها التاريخية، تحاول الابتعاد عن ذات المصير بانتخاب “إيمانويل ماكرون” مرشح الوسط المستقل في الثالث والعشرين من نيسان/ابريل 2017 ضمن الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة الفرنسية بنسبة تفوق الـ 23.8%.. وهو الشاب الذي وعد بدعم الاقتصاد واليورو والاتجاه بكل قوة للشراكة مع ألمانيا.
استدعاء حالة الحرب..
في حين أن المركز الثاني بنسبة 21.7% كان من نصيب “مارين لوبان” زعيمة الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة، التي ترغب في السير على النموذج البريطاني واستدعاء حالة الحرب والقلق لاستعادة الجماهير وجعلها تتكاتف خلف الحكام والأنظمة الغربية دون تعاطف مع الإسلاميين والمهاجرين والسير على نهج أن كل الأولوية للأمن الفرنسي ومكافحة الإرهاب وعزل فرنسا عن محيطها والسيطرة على البنك الرئيسي.
سيكون الحسم في الجولة الثانية في السابع من آيار/مايو المقبل، وتذهب أغلب التوقعات إلى “ماكرون” الذي أحدث ترجيح كفته انتعاشة في أسواق أوروبا وارتفاعاً في سعر اليورو مقابل الدولار بأسواق المال.
اليورو ينتصر على الفرنك..
لقد صوت الفرنسيون لمن قرر دعم اليورو والاقتصاد والبحث عن مزيد من فرص الاستثمار، وليس من قرر الاستغناء عن عملة أوروبا والعودة للعملة الفرنسية واستدعاء القلق والتصريحات العدائية والتهديد بتقليل أعداد المهاجرين الرسميين، بل وطرد غير المرغوب في وجودهم بفرنسا.
أعلن الفرنسيون بهذه النتائج رفضهم لمعدلات البطالة التي ترتفع في بلادهم، فضلاً عن تدهور نموهم الاقتصادي وكذلك التخوفات من الإرهاب الذي يحمل صبغة إسلامية، ومع الجولة الثانية سيعمل كل من “ماكرون” و”لوبان” على تجييش داعميه والبحث عن تحالفات من الأحزاب الخاسرة على أمل تغيير النتائج أو الفوز باكتساح.
20 % لصالح “ماكرون” ضد “لوبان” في الجولة الثانية..
وتقول تقارير غربية إن استطلاعاً للرأي، نشر مساء يوم انتخابات الجولة الأولى، أشار إلى أن “ماكرون” سيقصي “لوبان” بأكثر من 20% في الجولة الثانية، إذ أظهر استطلاع أجراه “ايبسوس” الشهير في وقت متأخر من يوم الأحد (23 نيسان/ابريل) أنه سيفوز بنسبة 62% مقابل 38 % للوبان.
وداعاً للوجوه القديمة..
النتيجة كشفت أنه للمرة الأولى في التاريخ السياسي الفرنسي الحديث، يتم القضاء على الأطراف الرئيسة في عالم السياسة هناك لصالح مرشح صغير السن لم يتجاوز الأربعين من عمره استطاع إنشاء حركة حماسية مستخدماً مصطلح “إلى الأمام” إسماً لها جمعت 200 ألف عضواً منذ تأسيسها في 2016، إذ جاء الجمهوري “فرنسوا فيون” ثالثاً بنسبة 20%، في حين حل رابعاً “جان لوك ميلنشون” مرشح اليسار الراديكالي بنسبة 19.4%.
النتيجة تؤكد على أن الفرنسيين يسعون لانتعاشة اقتصادية، خاصة أن “ماكرون” رغم صغر سنه إلا انه شغل مناصب اقتصادية هامة، والتصويت لم يخيب آمال الفرنسيين – نسبة المشاركة 28.8% -، إذ قفز اليورو مع النتيجة بارتفاع وصل إلى 2٪ في التعاملات المبكرة ليصل إلى أعلى مستوى منذ تشرين ثان/نوفمبر 2016.
لوبان تجلب معها التوترات..
جميع التوقعات والتحليلات السياسية تبين أن انتخابات فرنسا هذه المرة تأتي بنكهة اقتصادية وتمس أوروبا بالكامل، بعد خروج بريطانيا وتأثيره المتوقع على قوة الاتحاد الأوروبي لذلك كان الاختيار الأول هو ماكرون “المعتدل”، بعد إدراك الفرنسيين أن لوبان ستجلب معها حقبة من التوترات التي ستفاقم من أعداد العاطلين عن العمل وهروب الاستثمارات نتيجة الإجراءات الاستثنائية للمرشحة “المتشددة”.
انتخابات أوروبية عالمية وليست فرنسية فقط..
لقد اعتبر “دومينيك ريني”، أستاذ العلوم السياسية في معهد العلوم في باريس، هذه الانتخابات “أكثر من مجرد انتخابات فرنسية، نظراً لتداعياتها، انها انتخابات اوروبية أو حتى انتخابات عالمية”.. هكذا ترى النخب الفرنسية أهمية انتخابات رئاسة 2017.
كما بين أن فرنسا لن تنتج في نهاية المطاف نتيجة دراماتيكية مثل انتصار “دونالد ترامب” في الولايات المتحدة أو قرار بريطانيا بمغادرة الاتحاد الأوروبي، ويشير هنا إلى خطورة فوز “لوبان” صاحبة الآراء المتشددة، رغم أن أغلب أعضاء البرلمان الفرنسي المقرر انتخابهم في حزيران/يونيو 2017، من الأحزاب التقليدية المتجذرة في السياسة الفرنسية ما يكشف أن “ماكرون” لن يكون حر التحرك تشريعياً بل ستمارس عليه ضغوط أيضاً.
دعم وتأييد محلي وبلجيكي ألماني لماكرون..
على الفور حصل “ماكرون” بعد إعلان نتائج المرحلة الأولى على تأييد ودعم فيون وهامون ورئيس الوزراء “برنارد كازينيوف” في مواجهة لوبان خلال المرحلة الثانية، كما أعرب رئيس الوزراء البلجيكي “تشارلز ميشيل” عن أمله في أن يحظى ماكرون بالفوز بالجولة الثانية، بينما رحب “ستيفن سيبرت” المتحدث باسم المستشارة الألمانية “أنغيلا ميركل” بنجاح ماكرون.
بدوره، قال ماكرون في أول تصريحات له عقب الفوز بالمرحلة الأولى: “في سنة واحدة غيرنا المشهد السياسي الفرنسي”. داعياً الناخبين إلى التوحد وراءه تحت شعار “صوت التفاؤل والأمل لبلدنا وأوروبا”. هكذا يغازل الشاب الفرنسي الطموح أحلام وآلام الفرنسيين والأوروبيين.
عنصرية “لوبان” تقلق الفرنسيين..
فيما قالت لوبان، صاحبة الثمانية وأربعين عاماً، إن الناخبين الفرنسيين يواجهون “فرصة تاريخية” للاختيار بين “العولمة الوحشية التي تهدد حضارتنا”، على حد قولها، أو فرنسا “مع الحدود التي تحمي وظائفنا، القوة الشرائية لدينا”.. تلعب هنا على العنصرية في اتخاذ القرارات حتى في البيع والشراء وأن الفرنسيين هم فقط أولى ببلادهم.
فرنسا دولة “فيتو”.. لا تحتمل المتشددين..
على “ماكرون” و”لوبان” إلقاء جميع أوراقهم أمام الفرنسيين قبل الجولة الثانية، لإظهار من يستحق وعلى استعداد كامل لتولي رئاسة دولة من أعضاء الاتحاد الأوروبي الستة المؤسسين، وعضو فاعل بالطاقة النووية وعضو دائم بمجلس الأمن له حق النقض “الفيتو”، مع كل من الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا.
فماكرون هو تكنوقراط ليبرالي، تخرج من مدرسة النخبة في البلاد، ويتحدث الإنكليزية بطلاقة، وعمل لفترة طويلة كمصرفي بالاستثمار قبل دخول السياسة، هرب من حطام الحكومة الاشتراكية و”فرانسوا هولاند”، وقال إنه ترشح مستقل.. وهو ما حقق له ما أراد من إلتفاف كثير من الناخبين حوله.
لوبان تفرض ضرائب وتغلق الحدود وتسيطر على البنك المركزي..
بينما قضت لوبان حياتها غارقة في السياسة اليمينية المتطرفة لوالدها، “جان ماري”، وتخطط لوبان إذا ما تحقق لها الفوز لخفض الهجرة القانونية فى فرنسا إلى 10 آلاف شخص سنوياً، ووضع ضريبة على العمال الأجانب، وإعادة الضوابط الحدودية التى آزالها الاتحاد الاوروبى.
وفيما يتعلق بالاقتصاد، قالت إنها تريد أن تتخلى عن اليورو، وتسيطر على البنك المركزي وتطلق المطابع – طبع الأموال – لتمويل الإنفاق على الرعاية الاجتماعية.. وتعتزم، عند توليها منصب الرئيس، التوجه إلى بروكسل لإعادة التفاوض بشأن وضع فرنسا في الاتحاد الأوروبي وإجراء استفتاء بشأن إعادة طرح عملة فرنسا “الفرنك”، الذي كان ضعيفاً أمام أغلب عملات أوروبا وهي نقطة لم تكن لصالحها لرؤية كثير من الفرنسيين أن “اليورو” يضمن لهم انتعاشة وقيمة أكبر لعملتهم.
شراكة مع أوروبا لنمو اقتصادي وزيادة الاستثمارات..
على العكس من ذلك، يريد “ماكرون” إعادة بناء شراكة فرنسا مع ألمانيا لإدخال حقبة جديدة من التعاون الأوروبي وليس الإنغلاق الذي تسعى إليه “لوبان”، ويهدف إلى تبسيط قانون العمل الفرنسي لتعزيز النمو الاقتصادي وزيادة الاستثمار العام في التدريب والتعليم.
وقال ماكرون، الذي نشأ بالقرب من ساحات المعارك في الحرب العالمية الأولى، لـ”لوبان” في نقاش متلفز في وقت سابق من شهر نيسان/ابريل 2017، تقولين إن “القومية هي حرب”.. “لقد جئت من منطقة مليئة مقابرها ولا أريد العودة إلى ذلك”. وهي رسالة طمأنة للفرنسيين بأني لن أزج بكم وأبنائكم في معارك لا ناقة لنا فيها ولا جمل.
رئيس فرنسا يضمن استقرار أوروبا..
الناجح في انتخابات رئاسة فرنسا هو فقط من يضمن الاستقرار للاقتصاد والأمن وأوروبا، ويكفي أن نعلم ان فوز ماكرون “الوسطي” في الجولة الأولى أدى إلى خفض المخاطر في منطقة اليورو بعد عام من الاضطرابات والاضطرابات السياسية التي تقود تقلب العملات، من الانتخابات الأميركية إلى الاستفتاءات الإيطالية والبريطانية، إذ أن أوروبا وفرنسا ترى أن العالم الغربي لم يعد في حاجة إلى مزيد من المجازفات والمخاطر السياسية والاقتصادية.
فوز لوبان يطيح باليورو أمام الدولار..
سيتجه اهتمام المستثمر الآن إلى الجولة الثانية، إذ قال الاقتصاديون الذين شملهم استطلاع “لبلومبيرغ” الاقتصادية إن فوز لوبان سيؤدي إلى انزعاج المستثمرين وربما وقف أي استثمارات مستقبلية، لأن اليورو سيتعثر إلى أدنى مستوى له منذ 15 عاماً أمام الدولار في رد فعل مماثل لتلك التي شهدها الجنيه الإسترليني بعد تصويت بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي.
في المقابل سيعزز وجود ماكرون السندات الفرنسية وينعش سوق الأوراق المالية خاصة تلك التي تتعامل مع ألمانيا، أي أنها في النهاية انتخابات سياسية لكن بنكهة اقتصادية وطموحات يسعى إليها الفرنسيون للعودة من جديد إلى الأسواق المتنوعة.