وكالات – كتابات :
بالنسبة لدول إفريقية عديدة، يُعد العنف المرتبط بالجماعات الإسلامية المسلحة تهديدًا أمنيًّا مُلِحًّا، وتعمل هذه الجماعات المسلحة على تضخيم المظالم، والخلافات الطائفية، لتجنيد أعضاء جُدد وتعزيز المشاعر المناهضة للسلطة الحاكمة؛ هكذا استهل؛ “دانيال إيزنغا”، باحث في مركز (إفريقيا) للدراسات الإستراتيجية، عرضًا أعده لكتاب: (تنظيم الدولة الإسلامية في إفريقيا)، ونشرته صحيفة (واشنطن بوست).
يقول الكاتب إنه غالبًا ما تتحمل المجتمعات المدنية العبء الأكبر من هذا العنف، إذ إن هذه الجماعات لا تتمتع عمليًّا بأي دعم شعبي كبير في معظم الأحيان، وفي عام 2021، بلغ في “إفريقيا” ما يُسميه الكاتب: “العنف الإسلامي المسلح” مستوياتٍ جديدة، بعد مرور عقد من التصعيد الذي شهدته بعض أجزاء القارة.
ويذكر الكاتب أنَّ نمط هذا العنف ليس موحدًا في كل أنحاء القارة؛ ففي: “شمال إفريقيا، وموزمبيق، وحوض بحيرة تشاد”؛ (وهي منطقة تضم أجزاءً من نيجيريا وشرق النيجر وتشاد والكاميرون)؛ انخفض العنف خلال عام 2021، بالمقابل تضاعفت وتيرة عنف “المسلحين الإسلاميين” في منطقة “الساحل”، التي تضم أجزاءً من: “مالي وبوركينا فاسو وغرب النيجر”، بحسب الكاتب.
أين ينشط “داعش” في إفريقيا ؟
يُقدم المؤلفون في كتابهم: (الدولة الإسلامية في إفريقيا)؛ أولَ تقريرٍ شاملٍ عن تسع جماعات إسلامية إفريقية مسلَّحة؛ كلٌّ منها تُجاهر بصلتها بـ (داعش)، ويتساءل المؤلفون عن سبب استمرار الولاء لتنظيم (داعش) في “إفريقيا”، على الرغم من تراجع التنظيم في “العراق” و”سوريا”، لا سيما بعد رحيل الزعيم المؤسس؛ “أبوبكر البغدادي”؛ عام 2019.
ولحل هذا اللغز، يبحث المؤلفون في ظهور جماعات (داعش) في “إفريقيا” وتطورها، ويُعرِّف الكتاب القراء على خلفية التنظيم قبل الغوص في التفاصيل، ويُقدِّم نظرةً فاحصةً لتسع حالات مختلفة من فروع تنظيم (داعش) في: “ليبيا، والجزائر، ومصر، وتونس، وحوض بحيرة تشاد، والساحل، والصومال، والكونغو، وموزمبيق”.
وتوضح هذه الحالات التسع المسارات المتباينة لفروع (داعش)، ويُعرِّف التنظيم فروعه في: “ليبيا، والجزائر، ومصر، ونيجيريا، والصومال”، على أنها ولايات أو مقاطعات لتنظيم (داعش)؛ أما الجماعات الأخرى مثل: “منطقة الساحل والكونغو وموزمبيق”، فيُعرِّفها على أنها: “أجنحة” أو “فروع”، ولم يَنسِب تنظيم (داعش) المسلَّحين الإسلاميين في “تونس” إليه أبدًا، بل اكتفى بالإشارة إليهم باسم: “جٌند الخليفة” أو “جنود الخلافة”.
وأشار الكاتب إلى تحدي وضع كل هذه المجموعات المتباينة في إطار تحليلي واحد، ولتطبيق ذلك، حدَّد المؤلفون ثلاث فترات تاريخية مميزة ترتبط بالوقت الذي بايعت فيه كل مجموعة؛ تنظيمَ (داعش).
وقارن المؤلفون أنشطة الجماعات قبل مبايعتهم للدولة، ثم الفترة التي تلَت مبايعتهم، ولكن قبل اعتراف (داعش) بهم، ثم في النهاية الفترة التي تلَت اعتراف التنظيم بهم؛ ثم طبَّق المؤلفون ثلاثة أطر تحليلية منفصلة لكل فترةٍ لمقارنة كل جماعة في مقابل (داعش).
تحدي المصطلحات..
يُلفت الكاتب إلى أنه في بعض الأحيان، شتَّت المفاهيم الهدف الرئيس من الكتاب، وأول هذه الأطر “دمقرطة الجهاد”، والذي تطلَّبَ من المؤلفين معالجة الاختيار المُربك للدمقرطة بوصفه مصطلحًا، وأوضح المؤلفون أن الدمقرطة هنا لا تتعلق بدرجة أعلى من الديمقراطية أو سلطة اتخاذ القرار داخل الجماعات، ولكن عندما ظهر تنظيم (داعش) على الساحة العالمية، قدم نفسه بديلًا للجماعات الإسلامية المتشددة، وأصبحت لدينا شبكتان إسلاميتان متشددتان تسعيان إلى الإنحياز إلى الجهاد “الديمقراطي”، وفقًا للمؤلفين.
ويبدو وضوح هذا الأمر في بعض الحالات مثل: “الجزائر والصومال”، عندما انفصل مسلحون عن تنظيم (القاعدة) لتشكيل جماعة بديلة؛ أما في حالات أخرى، كان الأمر أقل وضوحًا، مثل إتباع جماعة (بوكو حرام)؛ في “نيجيريا”، مسارًا مدفوعًا بالانقسامات الداخلية، أكثر من التحالفات العالمية.
وفي منطقة “الساحل”، هناك بالفعل عدد من الجماعات المختلفة من المقاتلين الإسلاميين الطموحين، وفي أماكن أخرى مثل: “موزمبيق وجمهورية الكونغو”، يغيب تنظيم (القاعدة) عن المشهد تمامًا؛ أما في: “ليبيا وتونس”، فيبدو أن الصلات المباشرة، وتجارب المقاتلين في “العراق” و”سوريا”، أثرت في قرار مبايعة (داعش)، وكذلك فعلت المساعي المباشرة لقادة الجماعة لإنشاء محافظة لهم في “ليبيا”.
وبالنظر إلى هذه الدوافع والسياقات والصلات المختلفة، نجد التباسًا في كيفية ظهور مصطلح: “الدمقرطة”؛ بصفته أفضل مصطلح لفهم هذه الديناميكيات، وربما مصطلحات مثل: “التنويع” أو “التضاعف”؛ تُقدم صورةً أوضح.
أما الإطار الثاني: “التحقق من المصلحة المكتسبة من الفروع”، ويُشير ببساطةٍ إلى كيف ينظر التنظيم إلى الجماعة التي تُبايع “البغدادي”، وكيف تُسهم هذه الجماعة في خدمة أهداف (داعش)؛ ولأن أهداف (داعش) قد تغيرت مع الوقت، فقد تسبب هذا في تغير التصورات حول فائدة جماعة بعينها لخدمة قضية التنظيم، وهذا يسمح للمؤلفين بتحديد مجموعة كبيرة من مبررات التنظيم للاعتراف بجماعةٍ ما، وإضفاء صفة التبعية له عليها، وفقًا للدوافع الإستراتيجية في ذلك الوقت.
جماعات محلية أم عالمية ؟
يطرح الكاتب تساؤلاتٍ: هل يعمل المسلحون الإسلاميون الأفارقة بصفةٍ محليةٍ في المقام الأول ؟.. أم يعملون بأمرٍ من شبكات مسلحة وعالمية أكبر ؟.. طبَّق مؤلفو الكتاب مفهومهم المُسمى: بالـ”السادة الأتباع”، وعدُّوه إطارًا ثالثًا لسبر غور هذا النقاش.
فالمؤلفون يُجادلون بأن الجماعات التابعة لـ (داعش) هي جماعات تابعة للتنظيم من حيث المبدأ، ولكن كلًّا منها يتخذ قرارات سيادية حول كثيرٍ من تحركاته وأقاليم انتشاره، وهذا ما يجعل المؤلفين ينحازون إلى أن هذه الجماعات تعمل محليًّا، ولكن بعض القرارات التحريرية والأسلوبية تعتم هذه الرؤية.
وربما يكون المثال الأوضح هو عنوان الكتاب، الذي يستحضر صورةً لدولةٍ إسلاميةٍ مركزيةٍ، وفريدةٍ، قادمةٍ إلى “إفريقيا”، ممثلةً جبهةً جديدةً في الحرب العالمية على الإرهاب، وقد تؤدي وجهة النظر هذه إلى سوء تصنيف الجماعات، وفي النهاية إلى التشخيص الخطأ، لوصفات السياسة الفعَّالة لمن يُشاركون في جهود مكافحة الإرهاب.
ويبدو أن المؤلفين قد أدركوا هذا الخطر، إذ جادلوا في استنتاجهم الأخير بالحاجة إلى تأطير استجابات مكافحة الإرهاب وفقًا للظروف المحلية لكل جماعة؛ فقالوا في كتابهم: “ولا ندعو أيضًا، بعيدًا عن التركيز الأساس للكتاب، إلى محاولة فهم هؤلاء المنتسبين إلى التنظيم من خلال عدسة انتمائهم إلى (داعش)”. ويتساءل المرء: كيف يؤثر الترويج الضمني للنظر إلى هؤلاء من خلال عدسة (داعش) في الجهود المبذولة للحد من عنف المتطرفين ؟
يختم الكاتب بالقول إنه بوجهٍ عامٍّ، يُقدم الكتاب ثروة معلوماتية كبيرة، ويُسهم بقدرٍ كبيرٍ في الأعمال العلمية التي تُركز على الجماعات الإسلامية المسلَّحة في “إفريقيا”، وهذه الدراسة التفصيلية ستجذب أي شخص يتطلع إلى استكشاف هذه السياقات. وتنظيم الكتاب واضح، وهو ما يوفر فرصًا جيدة لاستخدامه أكاديميًّا، وستكون حالات الجماعات المذكورة مفيدةً بلا شك لصانعي السياسات في داخل “إفريقيا” وخارجها، كما يقدم هذا الكتاب المهم رواياتٍ لفهم الجماعات الإسلامية المسلحة وسياقاتها الإفريقية، وهو لغز معقد ربما غير مألوف لكثيرٍ من عامة الناس.