خيال أم طموح علمي ؟ .. حينما تخلق الرأسمالية “عقيدة الآلة” ويصبح الذكاء الاصطناعي الديكتاتور الجديد !

خيال أم طموح علمي ؟ .. حينما تخلق الرأسمالية “عقيدة الآلة” ويصبح الذكاء الاصطناعي الديكتاتور الجديد !

وكالات – كتابات :

على ما يبدو أن الذكاء الاصطناعي لن يُصبح وسيلة لتسهيل أو حتى تدمير حياة البشر فحسب؛ بل قد يُصبح في حد ذاته مصدرًا للقيم الإنسانية، تأخذ منه البشرية عاداتها وأعرافها، وتكتسب قواعدها وقوانينها، ويستمد الإنسان منه الأخلاقيات التي يتعامل بها مع قرنائه من بني البشر.

فتصير فلسلفة الذكاء الاصطناعي هي مصدر القيم الإنسانية، ويُصبح الذكاء الاصطناعي هو مصدر التشريع والقانون؛ بحسب ما ذهب إليه؛ “د. إيهاب خليفة”؛ رئيس وحدة التطورات التكنولوجية بمركز (المستقبل) للأبحاث والدراسات المتقدمة، في مقاله التحليلي المنشور على موقع المركز.

بالطبع لن يحدث ذلك خلال السنوات القليلة القادمة، ولن يحدث في المجتمعات كافة، لكنها سوف تشهد وضع حجر الأساس لهذه المنظومة القيمية الجديدة، التي أصبحت قادمة لا محالة، فهل سينتهي بها الأمر إلى نوع جديد من الإيمان، أو اختراع منظومة قيمية جديدة تحكمهم، أم سوف يتمرد البشر على الذكاء الاصطناعي في لحظة ما قبل فوات الأوان ؟

القوة الغامضة..

عادة ما تستمد المجتمعات الإنسانية منظومة القيم والمباديء التي تحكمها من عدة مصادر، فإما أن تكون خبراتها التاريخية وتجاربها الإنسانية وأعرافها التي تراكمت عبر عدة عصور وشكلت أساسًا للقواعد والقوانين التي ترسخت داخل المجتمعات، أو الدين الذي يأتي بمجموعة من القيم، سواء كانت روحية؛ عبارة عن طقوس وعبادات، أو قيم مادية؛ خاصة بقواعد المعاملات الإنسانية، أو حتى الفلسفة القائمة على مبدأ التفكير وإعمال العقل لما فيه مصلحة الإنسانية.

فالمجتمعات التي كانت تعيش في العصور الوسطى، حيث انتشار الجهل والفقر والمرض، كان التفكير الغيبي الديني هو المُسّيطر على تفسير الأشياء التي تحدث، فالطاعون هو غضب من الآلهة، ووحدهم رجال الدين هم القادرون على تحقيق الشفاء منه، فأصبحوا هم مصدر القوة داخل المجتمعات لأنهم امتلكوا قدرة على تفسير الأشياء التي عجز البشر عن فهمها.

وحينما بدأ عصر التنوير، كانت الفلسفة والتفكير وإعمال العقل مصدر تفسير الأشياء التي تحدث، فـ”الطاعون” عبارة عن مرض يحتاج إلى طبيب؛ وليس إلى رجل دين، لكي يمكن الشفاء منه.

وبعدما بدأ عصر الثورات الصناعية وتغيرت الثقافة السائدة لدى المجتمعات وظهرت المطابع بكثرة وانتشرت الكتب والمخطوطات، بات التاريخ هو القوة التفسيرية الجديدة في المجتمعات. فالأحداث البشرية تعيش في دوائر تاريخية متكررة، فإذا تكررت الأسباب السابقة نفسها سوف تؤدي إلى النتائج ذاتها، ولذا أصبح للمؤرخين في القرن التاسع عشر دور كبير في تفسير الأحداث التي سيطرت عليه؛ والتي كان أغلبها ذا طابع سياسي.

ومع دخول القرن العشرين الذي بدأت معه الإيديولوجيات منذ قيام “الثورة البلشفية”؛ في “روسيا”، عام 1917، أصبحت الإيديولوجية هي القوة التفسيرية لمعظم الأحداث التي شهدها هذا القرن، وبات السياسيون هم مصدر القيم داخل المجتمعات، حيث انقسم النظام الدولي إلى معسكرين؛ اشتراكي ورأسمالي، وكل معسكر له قيم يتحرك من خلالها، حيث يُغّالي أحدهما فيصل إلى “الشيوعية”، ويُغّالي الآخر فيذهب إلى “الفردية”، ويُحاول كل طرف التأثير في شكل النظام الدولي لكي يتبنى باقي الأطراف المنظومة القيمية نفسها التي تحكمه.

وبدأت تظهر نظريات تُفسر حركة المجتمعات بناءً على هذه المنظومة، فالدول الديمقراطية لا تُحارب بعضها، ولذا فالنموذج الديمقراطي هو الأنجح، بينما الدول الشيوعية تسعى لتحقيق المساواة بين جميع أفراد المجتمع من خلال الملكية المشتركة لوسائل الإنتاج، وبالتالي هي الأفضل.

وحتى بعد أن إنهار المعسكر الاشتراكي، تم اعتبار الأمر بمنزلة انتصار لمنظومة القيم الرأسمالية الغربية، وشّرعت كثير من الدول الاشتراكية في تبني النظام الرأسمالي، وأصبحت الديمقراطية هي النظام الرسمي الوحيد الذي يمكن الوثوق به، وما عداها من النظم يجب محاربتها حتى تُصبح هي الأخرى ديمقراطية.

الشاهد في الأمر أنه على مر العصور كانت هناك قوة تفسيرية للأحداث ومصدر دائم للقيم، وتغير هذا المصدر عبر العصور من الدين إلى الفلسفة ثم التاريخ وصولاً إلى الإيديولوجية، واختلف معه الشخص الذي لديه صلاحيات استخراج هذه القيم، من رجال الدين ثم الفلاسفة والمؤرخين إلى السياسيين، حيث يتشاركون جميعًا في كونهم أساؤوا استخدام هذه السلطة وسعوا لتحقيق مصالحهم الشخصية.

وعلى ما يبدو أن ثمة تغيرًا جديدًا في منظومة القيم سوف يحدث قريبًا وسيكون مصدر القيم الجديدة للمجتمعات هو: (الآلة-The Machine)، وإذا حدث ذلك، فمن المحتمل أن يكون العلماء والمهندسون هم أكثر الأشخاص تأثيرًا في المجتمعات؛ لأنهم الأقدر على فهم عقولها الصناعية، وإذا كان الوعي البشري يستمد قيمته من خبراته عبر مر التاريخ إلا أنه ولأول مرة قد يستمد وعيه من وعي الآلة؛ بحسب ما يذهب الكاتب مع خيالاته.

وعي الآلة..

إن القوة التي تتميز بها نظم الذكاء الاصطناعي تفوق بالطبع قدرات البشر ومهاراتهم، فإذا كانت قدرة البشر على الحساب عالية جدًا لدرجة خلق نُظم ذكية، فإن نظم الذكاء الاصطناعي لديها قدرات حسابية أعلى بكثير وأعقد من قدرة البشر مجتمعين على استيعابها.

وإن كان البشر موهوبين في حفظ الأشياء، فهذا لا يُقّارن بذاكرة الذكاء الاصطناعي، حيث إن الأخير قادر على التعلم السريع المستمر غير المحدود، وتحصيل جميع أنواع المعارف والعلوم والآداب بصورة تفوق أي طاقة بشرية ممكنة، وقادر أيضًا على مشاركتها مع غيره من نظم الذكاء الاصطناعي الأخرى، مكونًا عقلاً واحدًا صناعيًا، يُمثل العقل الجمعي للذكاء الاصطناعي، فما يُدركه أحدهم، يُدركه الجميع ويُراكم عليه خبراتهم.

تدريجيًا؛ سوف يُصبح هذا النموذج هو الأمثل للمعرفة لدى الإنسان، فهو لا يُخطيء، ويتذكر ما يعجز البشر عن تذكره، ويقوم بأعقد العمليات الحسابية في لحظات، ويستطيع القيام بجميع المهام التي يقوم بها الإنسان وبصورة أكثر كفاءة منه، فيبدأ البشر في الشك في قدراتهم وأفكارهم ومعلوماتهم، لكنهم لن يشكوا أبدًا في قدرة النظام الذي خلقوه بأنفسهم وأوجدوه، فيتم ترقية هذا النظام الصناعي لكي يعلو على مرتبة البشر، ويُصبح مصدر الحكمة الإنسانية والمعرفة ومنظومة القيم الحاكمة للمجتمع.

فإذا تعرض أحد الأفراد لمرض وشخّصه نظام الذكاء الاصطناعي على أنه سرطان، سوف يبدأ الأطباء بالتعامل معه على أنه كذلك حتى لو أن لديهم من الدلائل ما يُشّير إلى العكس؛ وذلك لأن هناك ثقة مطلقة في النظام تفوق الثقة في النفس البشرية، وتبدأ حينها مقولة: “ما هو رأي النظام ؟” في الانتشار بدلاً من مقولة: “ما هو رأي الدين أو القانون أو حتى العلم ؟”.

هذه الثقة المطلقة في الآلات والنُظم الذكية قد تجعل البشر يُحاولون تقليد سلوكها وأفكارها، حيث يفكرون بطريقة تفكير الآلة نفسها، بل ويتحركون مثلما تتحرك، فتحدث عملية محاكاة لأنماط تفكير الآلة وسلوكياتها، ويبدأ البشر في تكوين وعي جديد يُحاولون فيه تقليد وعي الآلة التي خلقوها في البداية.

وقد يُجادل البعض بأن وعي الآلة من خُلق الإنسان نفسه، وأن المهندسين هم من قاموا ببرمجتها ووضعوا لها قيمها وسلوكياتها مسبقًا، لكن في الحقيقة هذه الرؤية منقوصة. فالأتمتة تختلف عن الذكاء الاصطناعي تمامًا، حيث يُحاول المهندسون في الأولى صُنع آلة تتبع منهجًا محددًا للقيام بوظيفة ما من خلال عدد من الخطوات المنطقية، كأن يقوم مثلاً (روبوت) يعمل داخل مستودع للبضائع بتنظيمها بطريقة محددة وفقًا لخطوط الإنتاج والتوزيع، فهذه أتمتة، لكن في حالة الذكاء الاصطناعي لا يُحاول المهندسون بناء وسيلة لتحقيق هدف، بل عقل قادر على التعلم واكتساب المهارة، وليس الحصول على أوامر مبرمجة سلفًا.

ولذلك يُحاول نظام الذكاء الاصطناعي إنشاء وعيه الخاص بناءً على المعارف التي يكتسبها، والبيانات الضخمة التي يُحللها، والخبرات التي يتعرض لها.

وتسير عملية التعلم هذه بمتوالية أُسية تضاعفية، على عكس طريقة تعلم الإنسان التي تسّير بمتوالية حسابية متذبذبة، فيقوم النظام الذكي بتشكيل وعيه في وقت قصير جدًا مقارنةً بالوقت الذي يستغرقه الإنسان في تشكيل وعيه الشخصي، وبالتالي يسبق وعي الآلة؛ وعي الإنسان ويؤثر عليه ويُسّاهم في تشكيله.

قيم التفرد..

إن الطريقة التي يُفكر بها الذكاء الاصطناعي ويتخذ بها قراراته تختلف تمامًا عن تلك التي يُفكر بها البشر، فهؤلاء محكومون في تصرفاتهم وقراراتهم بخبراتهم الذاتية ومبادئهم الإنسانية والمواقف التي مروا بها ومنظومة القيم التي تُسيّطر على الأفراد والقوانين التي تحكم المجتمع، في حين أن ما يحكم الذكاء الاصطناعي هو منطق رياضي بحت، يقوم على مبدأ بسيط للغاية وهو: “تحقيق المصلحة أو النفعية”.

فالهدف من إنشاء الذكاء الاصطناعي هو تحقيق منفعة للبشرية أو القيام بمصلحة لها. ومبدأ المصلحة ثابت ومترسخ في منظومة القيم البشرية، ومع ذلك لا يوجد اتفاق على تعريفه أو آلية لتحقيقه؛ فالرأسمالية تُعظم من دور المصلحة الفردية، وترى أن الإنسان في سعيه لتحقيق مصلحته الشخصية سوف يؤدي إلى تحسين المجتمع ككل، بافتراض رشادة البشر.

في حين تأتي المصلحة العامة في الفكر الاشتراكي باعتبارها سبيل نجاة المجتمع، وتعلو على نظيرتها الفردية. بينما تُعتبر المصلحة القومية للدولة في نظريات العلاقات الدولية هي الغاية الأسمى التي تسعى لتحقيقها، لضمان سلامة الأفراد وأمنهم والحفاظ على حياتهم وبقائهم، حتى وإن كان ذلك على حساب مصلحتهم الشخصية أو حتى العامة؛ بحسب فهم الكاتب.

هذا الاختلاف حول مفهوم “المصلحة” سوف يندرج أيضًا على الفكر الاصطناعي الجديد، فالآلة الذكية إذا وجدت في طريقها شجرة تعوقها عن تحقيق هدفها سوف تقطعها، وإن وجدت مريضًا لا يُرجى شفاؤه سوف تخطو فوقه، وإن رأت موظفًا لا يقوم بعمله بكفاءة مثلما كان يقوم به من قبل سوف تُرشح فصله من وظيفته دون نظر للأسباب التي جعلت منه موظفًا أقل إنتاجية.

وليس فقط مفهوم “المصلحة”؛ هو الذي لم يتفق عليه البشر، بل أن كثيرًا من هذه المفاهيم التي ما زال البشر مختلفين في فهمها، مثل القوة والذكاء والإرهاب والعنف والنجاح والسعادة، جميعها مفاهيم نسبية من مجتمع لآخر، وتتوقف على مصدر القيم التي يتبناها هذا المجتمع، فإذا كانت قيمًا مادية مثل الحضارة الغربية، أو قيمًا معنوية مثل الحضارات الآسيوية، أو قيمًا وسطية تجمع بين المادية والروحية مثل المجتمعات الإسلامية، فكيف سوف تفهمها الآلة وتُعرفها ؟

هذا الفكر الصناعي القائم على مفهوم “المصلحة” يستند إلى عدة مباديء أخرى أكثر مادية، مثل: “العصمة من الخطأ”، فالمعارف التي يمتلكها الذكاء الاصطناعي – والتي تفوق قدرات البشر – تعصمه ولو نظريًا من الوقوع في الخطأ، كما أنه يتميز بالخلود، فهو لا يموت مثل البشر. كل ذلك يصب في وعاء القيم المادية النفعية التي تُعظم من تفرد الآلة (Machine Singularity)، فيتم النظر إلى “قيم التفرد” على اعتبارها النموذج الصحيح والحصري للتفكير السليم والمنهج الصحيح الذي يجب أن يسّير عليه البشر والمصدر الجديد الذي يجب أن تأخذ منه البشرية قيمها وتشريعاتها وسلوكياتها بعدما كان الدين أو الفلسفة أو التاريخ.

إيمان ضال !

على الرغم من أن الذكاء الاصطناعي والتقنيات الذكية تقنيات مادية بالأساس، فإنها بدأت تقدم نفسها على أنها بديل روحي ومعنوي أيضًا، فأصبحت بمنزلة الصديق المثالي الذي يؤنس صديقه دون أن يؤذيه ولو حتى بنظرة، ويسمع همومه ومشاكله ويُحاول أن يُساعده ويخف عنه آلامه، ويتعاون معه في العمل دون أن يحقد عليه، وإذا رغب البشر من الزواج منه، فإنه يُصبح الشريك المثالي الذي يسعى لتحقيق سعادة الطرف الآخر بإيثار شديد.

فتتحول التكنولوجيا شيئًا فشيئًا من كونها تقوم بوظيفة مادية فقط، إلى قيامها بوظيفة مادية ومعنوية في آن واحد. وإذا عانت بعض المجتمعات من كونها مادية أو حتى تطرف أفرادها فأصبحوا ملحدين، فقد باتت التكنولوجيا حلاً لمشاكلها القيمية، حيث تقدم نفسها على أنها النصف الآخر من القيم.

بالطبع لن يكون ذلك في كثير من المجتمعات، خاصة المجتمعات العربية الإسلامية التي ما زال الدين فيها هو محور الحياة لشعوبها، يستمدون منه عاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم، ولا يمكن تخيل الحياة في هذه المنطقة من دون وجود الدين، فهي مهد الأديان وأرض الأنبياء والرسل، لكن هذا لا يمنع من وجود مجتمعات أخرى متدينة حتى وإن لم تؤمن بدين، مثل بعض الحضارات الآسيوية التي لا يتخطى الدين فيها كونه مجموعة مباديء ومُثل ومعتقدات، وليس تشريعات سماوية تحكم سلوك البشر وحياتهم؛ بحسب فهم الكاتب.

ومع تعاظم سيطرة الآلة على حياة الأفراد، ماديًا ومعنويًا، يتشكل نوع جديد من الإيمان ولكنه: “ضال”، حيث تبدأ المادية في المجتمعات في التراجع، وتعلو القيم المعنوية، فيبدأ الملحدون في الإيمان “بالآلات” ويتقربون منها، وتبدأ المجتمعات “المتدينة” في الوثوق بقيم “الآلة” وتبتعد تدريجيًا عن تشريعاتها، وبدلاً من استشعار الراحة النفسية بالوجود في دار العبادة، أو في مساعدة الفقراء، سوف يجدون الراحة النفسية في نظام بدأ يفهمهم أكثر من غيرهم من البشر، وبدأ يرشح لهم الأفكار والأفلام والموسيقى والذكريات التي يجدون فيها سعادتهم “المؤقتة”.

بالطبع سوف يظهر من الأفراد من يرفض هذا الواقع الجديد، ويبدؤون في التمرد عليه، ويدعون إلى غلق جهاز الكمبيوتر العملاق الذي بدأ بعض البشر ينظرون إليه باعتباره “المُلهم” الذي ينتظرون أن يقدم لهم تفسيرات لما يحدث في حياتهم، ويخبرهم بما يجب أن يفعلوه، غافلين أنهم من صنعوه في البداية بأيديهم، فينقسم المجتمع بين طبقتين، أولى تعتقد أنها “ذكية”، وثانية يتم النظر إليها باعتبارها “غبية”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة